أنظمـة حكم سقطت وأخرى مآلها السقوط
خليل قانصو
أن يضطر رئيس دولة، بعد ثلاثة وعشرين سنة أمضاها على رأس السلطة، إلى ركوب طائرة ‘الرئاسة’ على عجل، كما فعل الرئيس التونسي مساء الجمعة في 14 كانون الثاني/يناير 2011، ليس حدثا عاديا. وما يزيد هذا الأمر غرابة هو بقاء طائرة الرئاسة، هذه المرة، مدة أطول في الجو قبل أن يجد قائدها مطارا يحط فيه، على عكس المرات السابقة، حيث كان، مثل غيره من قوّاد طائرات حكام العرب، يـُستقبل بحفاوة أينما شاء الرئيس أو أفراد عائلته الذهاب، سواء عندما كانوا يستخدمون طائرة الرئاسة في رحلاتهم الرسمية، أو في زياراتهم الخاصة ايضا، بقصد التسوق، أو العلاج، أو اجراء عمليات جراحية للترميم والتجميل.
ولكن بصرف النظر عما يكشف عنه هروب الرئيس التونسي من بلاده، والتجائه في ظلام الليل إلى المملكة السعودية، من أنانية جديرة بالاحتقار سوّغت له البحث عن سلامته الشخصية بأي ثمن، وهنا تظهر بجلاء الهوة الشاسعة التي تميز هذا النوع من الحكام عن الذين يمارسون السلطة بتفويض حقيقي من الشعب. وفي هذا السياق ترتجع الأفكار امامنا ذكرى رئيس تشيلي سلفادور الليندي الذي آثر في 11 ايلول/سبتمبر 1973، الموت في قصر الرئاسة دفاعا عن الشرعية الشعبية ضد الأمريكيين، الذين أرادوا انتهاكها واغتصابها، فإن انهيار نظام الحكم في تونس، كما لو كان قصرا من كرتون، يزيح الستارة عن علامات بات لازما التوقف عندها بجدية، لا سيما ان الشعوب العربية تتعرض في هذا الزمان لهجمات استعمارية، تعتبر قياسا بما يجري في فلسطين والعراق، وبما هو محتمل الوقوع في لبنان، من أشد ما تعرضت له حتى الآن خبثا ولؤما. إن الدلالة الأولى لفرار الرئيس التونسي، هي أن هذا الرجل الذي أمسك السلطة بقبضة أمنية غاشمة، وهو لا يتفرّد بالقطع بسلوك هذا النهج في ديار العرب، طيلة ثلاثة وعشرين سنة، لا يضمر لتونس وللتونسيين، أية محبة إلا إذا تطوعوا، بطريقة من الطرق، لخدمته. فشخصه، بالنسبة له أغلى من التونسيين ومن الوطن تونس، ولولا ذلك ما أنشأ إجهزة أمنية، تسهر على أمنه وليس على أمن الناس، ولما خاف على نفسه، عندما تجرأ التونسيون وتصدوا لهذه الأجهزة بأجسادهم، ولم يوقفهم الضرب والركل والرصاص وسقوط عشرات القتلى من أبنائهم.
أما الدلالة الثانية، فهي أن الاحتقان إذا بلغ حد إضرام النار بالنفس، انما يعني أن ثورة البركان باتت وشيكة، أو أنها واقعة لا محالة. الشاب التونسي الذي أضرم النار بنفسه، في الشارع امام الملأ، لم تكن غايته القتل او الأذى على الإطلاق. على العكس من ذلك، إن المعنى الذي يمكن استنتاجه من ردة فعله على مصادرة رجال الأمن للخضار التي كان يحاول بيعها، هو أن نظام الحكم يمنعه من العيش، لذا فضـّل أن يشهد التونسيون على ما جرى له. ولكن الأحداث أثبتت أنه لم يكن وحيدا، لأن التونسيين تلقوا الصورة، كأنها طعنة في الوجدان وإهانة للكرامة. ومن الدلائل أيضا، التي تبطنها انتفاضة الشعب التونسي، هي أن التونسيين يحبون وطنهم، ويريدون أن يوفروا الشروط التي تتيح لهم العمل فيه، وإنتاج ما يحتاجون له من وسائل العيش وما يضمن مستقبل أولادهم. لعلهم خبروا قبل غيرهم، أن تحصيل المعرفة وبناء اقتصاد وطني، هما أفضل من العمل في خارج البلاد، أو من الاعتماد على مساعدات الدول الاستعمارية، الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، أو من الارتهان لأمراء النفط أملا بعطاياهم. وفي هذا السياق، تتوجب الإشارة أيضا، إلى ان التونسيين هم أصحاب تجربة نضالية طويلة ضد الاستعمار، كان لها دور كبير في تـكون الشخصية الوطنية التونسية، وفي تقوية الروابط بين التونسيين من جهة، والشعوب العربية من جهة ثانية. فلقد كان التونسيون منغمسين في حرب التحرير الجزائرية فعلا وقولا، والكثير منهم ما زالوا في مقدمة المناصرين للقضية الفلسطينية في بلاد الهجرة.
ولا مفر هنا من السؤال عن أسباب توجه الرئيس التونسي المخلوع إلى المملكة السعودية. ولماذا تخلى عنه أصدقاؤه في الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وتنكروا له، باسلوب يرشح منه الجحود، وربما هو شكل من أشكال الفظاظة ايضا؟ هل أن هؤلاء الأصدقاء ظلـّوا إلى جانبه، طالما كان يؤدي وظيفته، على رأس السلطة في تونس؟ أما وقد توقف عن القيام بها فانهم يريدون طي الصفحة، واظهار حرصهم، على ‘الحرية والديمقراطية والاستقرار’ في تونس، ابعادا للشبهة، حتى يحفظوا حظوظهم في اختيار بديل له. وهنا لا بد من السؤال عن اسباب استضافة المملكة السعودية، للحكام الذين انتهت فترة خدمتهم، إذ لا ننسى أن عيدي أمين دادا، الرئيس الأوغندي الذي مارس السلطة، فخلط السياسة بالتهريج، وجد ملجأ له في هذه المملكة أيضا، بعد إعفائه من منصبه. ولكن من المحتمل، أن يكون استقبال الرئيس التونسي، المنتهية ولايته، قد تم برضا الولايات المتحدة الأمريكية، أو بطلب منها. فمثلما أن باستطاعتها زج المناضلين العرب في سجون المملكة، والتحقيق معهم وتعذيبهم أو تذويبهم أحيانا، ليس مستبعدا أن يكون لها الحق ايضا، في اسكان أعوانها القدماء، في ظل حجب تمنع نور الحقيقة، لو امتدت إليها الأيدي تحاول نزعها أو تمزيقها، لخرج الفقهاء عن رشدهم وأطلقوا فتاوى التكفير على عواهنها. ولكن الأمانة تقتضي أن نذكر، في هذا المجال، إن الرئيس المصري أنور السادات احتضن شاه ايران، الشيعي، في آخر ايامه، من دون أن يثير حفيظة أحد من هؤلاء الفقهاء. ربما لأن الحاجة إلى المذاهب، وقودا لإنضاج الفوضى الخلاقة، لم تكن قد برزت بعد.
ومهما يكن فان انهيار نظام الحكم الذي كان قائما في تونس، بما هو نموذج عن أنظمة الحكم في البلاد العربية، التي تحولت بعد هزيمة حزيران/يونيو 1967 ووفاة الرئيس المصري جمال عبد الناصر تحديدا، واختارت نهج المصالحة مع الاستعمار والتطبيع مع الحركة الصهيونية، يكتسب أهمية كبيرة، من دون استباق النتائج التي سوف يفضي إليها الحراك الجماهيري التونسي في الأمد القريب، لأن هذا الانهيار لم يقع في منطقة هادئة لا تعرف الاضطربات، فلقد سبقه انهيار نظام الحكم في العراق بسبب الغزو الأمريكي في 20 اذار/مارس 2003، ثم انهيار اخر، لا يختلف عنه من حيث الجوهر، وقع في لبنان بعد إغتيال السيد رفيق الحريري في شهر شباط/فبراير 2005، طال وجود النظام السوري في لبنان وأنصاره، الذين أصيبوا بالهلع فأخلوا الميدان للمخابرات الأمريكية لتعيد ترتيب الأوضاع كما تشاء. واستنادا اليه، فليس مستبعدا على الإطلاق أن تلحق بنظام الحكم التونسي في سقوطه أنظمة حكم، في هذا البلد أو ذاك.
ولكن من المعلوم أن هناك بلادا عربية، كمصر والسعودية، هما ركيزتان أساسيتان لدعائم المنظومة التي تنسج خيوطها الولايات المتحدة الأمريكية على امتداد المنطقة العربية كلها، منذ 17 أيلول/سبتمبر 1978، تاريخ توقيع الرئيس المصري أنور السادات، إلى جانب توقيع رئيس وزراء اسرائيل، على اتفاقية كامب ديفيد. وهذا يعني أن انتقال العدوى التونسية إلى هذين البلدين من شأنه أن يعرض هذه المنظومة، بدورها إلى الانهيار. وغني عن البيان أن الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها، لن يتركوا هذين النظامين يتداعيان، كما تداعى قبلهما نظام الشاه في ايران ونظام بن علي في تونس، حتى لو أدى ذلك إلى تكرار التجربة العراقية، على أرضهما، أي إلى تدميرهما وتقسيمهما وتفرقة شعبيهما .
وفي مجال آخر، يجب ان لا يغيب عن الأذهان أن بقاء الحاكم على رأس السلطة، فترة تطول أحيانا إلى ثلاثة عقود من الزمن، يتسبب عادة في تلاشي هيكيلية الدولة، بما هي تجسيد لمشروع وطني يشارك فيه جميع المواطنين لصالحهم وخيرهم جميعا، فلا يبقى منها إلا إجهزة الأمن وبطانة النظام من التجار والسماسرة وأصحاب المشاريع الاستثمارية والعقارية المشبوهة، وبكلام أكثر وضوحا وصراحة، تفقد الدساتير والقوانين والمؤسسات الوطنية جوهرها وتنتفي ضروراتها. وتتكل في مثل هذه الظروف، على أجهزة الأمن بالقضاء على المعارضة، وإسكات النقد والمطالب، ومنع التفكير في ايجاد حلول للمسائل المعيشية والوطنية. ولكن إذا كان سقوط مثل هذا النظام، الذي هو أقرب في الواقع إلى الممالك القديمة، أي قبل كتابة الدساتير وقبل الثورات التي وضعت اسس الشرعية الشعبية، أمرا حتميا، فإن المسألة هي في انه يخلق فراغا من حوله ينبني عليه، أن الجماهير قادرة، عاجلا ام أجلا على اسقاط نظام الحكم الذي لا يستمد سلطته منها، ولكنها في أغلب الأحيان، غير قادرة على ايجاد، أو اختيار البديل الذي يمثلها أحسن تمثيل ويحمل همومها، لان هذا البديل ببساطة، ليس موجودا ويتطلب وجوده ممارسة طويلة واتباع نهـج سليم. وهذه كلها أمور معقدة، تراقبها الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها عن قرب، وتتدخل في سيرورة اجتيازها، بما يضمن مصالحها ويخدم خططها. بمعنى آخر ليس من الممكن التقدم من دون الاصطدام بها.
ولكن ما أن يسقط الحاكم اللاشرعي، حتى تسارع أطراف عديدة إلى الادعاء بأن لها الحق بالجلوس مكانه، وما يلبث أن يقع النزاع على السلطة، لا سيما أن العودة إلى الشعب لاختيار من يمثله، بحسب التقاليد المتبعة في الدول الغربية وتحت أشراف لجان دولية، وفي غياب الإعلان عن برنامج كل طرف، وفي ظل عدم الوعي والجهل بأهمية السلطة، واستشراء العصبية، يتسبب هذا الاختيار أو الانتخاب، في مثل هذه الظروف، في بروز مشكلات جديدة. وفي هذه الأجواء حيث تعم الفوضى، وتكثر اسباب المشاحنة، ليس مستبعدا أن يخرج طرف من الأطراف الوطنية، ويطلب السلطة لنفسه، باسم الدين، استنادا إلى أن الدين يبين النهج الصحيح ويكشف الحقائق الثابتة، وهذا لا يقبل النقاش بحسب البعض. وهنا الطامة الكبرى، إذ كيف يمكن وضع أسس لنظام حكم على قاعدة دينية، عندما لا توجد قراءة واحدة لتعاليم هذا الدين، تمكن من استخلاص مبادئ سياسة الدولة، في معالجة شؤون الناس في هذا الزمان والمكان، وعندما لا يكون المواطنون على دين واحد.
ولكن هذه مسألة تحتاج إلى تفاصيل طويلة، ولست على أي حال بصددها هنا، فما قصدت إليه في الواقع هو طرح المسائل على بساط البحث، من زاوية يظهر من خلالها التخريب الهائل الذي يحدثه الاستبداد في المجتمعات. ‘الحضارات لا تموت ولكنها تنتحر’، يبقى أن أختم هذا الفصل، بالقول بأنه من المحتمل أن تنتقل العدوى التونسية إلى بلاد المغرب. عندئذ سيعود الطائر المغربي إلى التحليق، بجناحيه المغرب وتونس، حاملا جسمه الجزائري إلى فضاءات الحرية والحضارة. فلا تكون البلاد المغاربية حلقة وصل جغرافية بين المشرق والغرب، بل حلقة اتصال ثقافي بالحقبة الأندلسية لإنارة حاضر مشرقي تخنقه الظلمة، فاذا كان الرئيس التونسي المخلوع يمم وجهه نحو المملكة السعودية، فأغلب الظن أن الشعوب العربية، في هذا الوقت ـ في وادي النيل وبلاد الشام وبلاد ما بين النهرين تتطلع نحو البلاد المغاربية وتنتظر بزوغ الشمس من فرجة في السماء فوق تونس .
كاتب لبناني