تونس: ثلاث مقالات
أحمد حسين
(1) لا يصلح الغرب إلا عدوا
سقط رئيس ساقط، بدون أن يترك وراءه فراغا يمكن أن يملأه الشعب. وقد أثبت شعب تونس أنه ِشعب في غاية الشجاعة، وعليه الآن أن يثبت أنه أيضا يملك الوعي إلى جانب الشجاعة، ويقوم بخلق الفراغ الذي يستطيع أن يشغله لحسابه. لا يصح أن يترك أثرا من عهد دفع الثمن من دمه ليتخلص منه، وإلا فإن تضحياته ستثتثمر ضده، في إعادة السلطة إلى التداول النخبوي السياسي، الموزع بين مراكز القوى الدولية. نظام زين العابدين، مثل معظم الأنظمة العربية، كان قحبة دولية تتوزع ولاءاتها بين الحلفاء الغربيين، ولكن ليس بالتساوي. تصرفت دائما بناء على أساس المفاهمات القائمة في تقسيم النفوذ داخل معسكر الحلفاء. واليوم لم يعد هناك حلفاء حقيقيون سوى أمريكا والصهيونية. وهما اليوم، تعملان معا على تصفية معاقل النفوذ الأوروبي القديمة لصالحهما، تمهيدا لإقرار تراتبات العولمة والبقاء في موقع السيادة العالمي. وأوروبا أفاقت اليوم، كما يبدو، على أنها كانت طيلة الوقت، مجرد قحبة دولية، تعمل في خدمة التحالف الأمريكي الصهيوني. وهناك الأن إلى جانب القحاب الرئاسية الأوروبية، أوساط وقوى ضغط قومية، تحاول استعادة مواقعها الإستعمارية القديمة، في المنطقة العربية وأفريقيا بشكل خاص. لذلك فإن ما جرى الآن ويجري في تونس، يجب أن ينتقل إلى مرحلة الثورة الشعبية، التي تخرج السياق كله من هيمنة الحرب الباردة بين أمريكا والصهيونية من ناحية، وأوروبا من ناحية أخرى، وتضعه تحت سياق التحرر القومي. هذا السياق هو الفراغ الشعبي الوحيد القائم والدائم، القادر على استيعاب كل التطلعات التحررية للشعب التونسي العربي , وإلا فإن استبدال قحبة دولية فرنسية – أمريكية، بأخرى أمريكية صهيونية خالصة، سيكون بداية لضياع جديد و”ديمواقراطي”، تقوده قحاب النخب السياسية لواشنطن وتل أبيب في الداخل، نحو هاوية أعمق.
إن الشعب التونسي بالذات لا تنقصه النخب الشعبية. ويستطيع ببداهة الوعي والإلتزام، أن يجد نخبه الشعبية القومية هذه، ويوكل إليها مهام المرحلة الثورية الحالية، ويضع وراءها مرحليا كل شجاعته النادرة واستعداده للتضحية. وليعلم الشعب التونسي أنه يمسك بين يديه الأن مصير الساحات العربية كلها، وأنه سيفوز بفخر تحرير أمته ومستقبلها.
من أحقر مرحلة تاريخية مر بها شعب من الشعوب وأمة من الأمم، بشهادة يوميات عصر القحاب الدولية العربية. إن النتائج التي ستسفر عنها الهبة التونسية، هي ذاتها التي ستنعكس على الساحة العربية والدولية. إما أن تحولها قحاب النخب السياسية والحزبية والنقابية، إلى هبة إصلاحية ديموقراطية، أي إلى فيلم أمريكي صهيوني، أو أن تتصدى لها النخب الشعبية وتخلق منها تحولا ثوريا، يفتح باب الخلاص الدائم، من سياق الإضطهاد العالمي للأمة العربية.
كل الثورات التحررية قامت بها الشعوب، ودفعت ثمنها بالبداهة التحررية من دمها، وخانتها الأحزاب المتطفلة عليها والنخب التنظيرية، وأخيرا باعتها لمن يشتري من أعدائها. إن سوق السياسة، مثل أسواق السلع ليس لها أخلاق اجتماعية، ومن الخطر أن تشترى من أحد ثورة جاهزة لا تصلح لواقع المرحلة التطورية التي يمر بها شعبك. لقد أفادت التجربة أن الثورات الجذرية يجب أن تبدأ من إمكانها العملي والموضوعي القومي، وليس من الثورات التي تبدأ من الأممية، وتنتهي في حضن الصهيونية. أنا فقط أسوق لكم تجربة الثورة الفلسطينية التي أنتهت بنظام عباس. تذكروا ما فعل هؤلاء الأوغاد من تجار الثورة، بالشعب الفلسطيني، حينما باعوه للصهيونية تحت لواء التحرر من القومية، لأنها رجعية، بينما الصهيونية تقدمية. لا تخطئوا كما أخطأنا ذات مرة، ودفعنا وجودنا كله بسبب هذا الخطأ. لم يوصل إلشعب الفلسطيني إلى حضيضه الحالي سوى تحالف اليسار اللاقومي مع الصهيونية التي تطالب اليوم بتهويد العالم. هذا درس تعلمناه، فدعوني أتطفل به عليكم على سبيل التذكير. دعوني أتطفل عليم أيضا بالتذكير بالدرس الذي تعلمناه جميعا من أمميي الخلافة، الذين ليس لهم مهمة، كما يدعون، سوي محاربة العولمة الأمريكية الصهيونية، ليقيموا نظام العولمة الإسلامي على أنقاضها. إنهم الأبناء الشرعيين لامريكا والصهيونية والإمبريالية الحديثة، وذراعها الإرهابية التي أصبحت أمريكا وحلفتها، تخيفان بها الأعداء والأصدقاء في العالم على حد سواء. أكبر أعداء الثورات، هو ما يسمونه التهدئة، أي وقف اندفاع الحركة، قبل تحقيق أهدافها الجذرية، لإعطاء الفرصة للحركة المضادة لالتقاط أنفاسها. هذا التوقف في منتصف الطريق حول الغموض، هو عادة الفرصة الذهبية للمتطفلين والإنتهازيين والثورة المضادة. لحظة الموت هي التي تتوقف فيها اليد من الضغط على الزناد، قبل انتهاء المعركة.
في حالة الشعوب العربية لا تنفع الهبات الشعبية التي تتوقف عند المطالب الإجتماعية ورفع مستوى المعيشة، إذ أن الظلم الإجتماعي في حالتنا ليس ظلما اجتماعيا في مجتمعات تنموية مستقلة، وذات وطنية طبقية من نوع ما. نحن مجتمعات لا تعيش فيها الأنظمة على فائض الربح الوطني، بل على عوائد الخيانة، العمالة السياسية وسرقة الشعب والثروة الوطنية لصالح مستخدميهم. فممن تطالب شعوبنا بهذه الأشياء؟ النظام لا يملك شيئا في الوطن الذي يدير شؤونه. بل هو بحد ذاته مملوك لغيره. فماذا تنفع المطالبة من نظام كهذا بالعدالة الإجتماعية، التي تقوم على الإقتسام العادل للثروات وعوائد التنمية الوطنية المتكافئة. إذن فالمشكلة بالدرجة الأولى مشكلة تحرير وطن من اللصوص الدوليين، وتنظيفه من اللصوص المحليين وتشييده على الإستقلال الحقيقي. وهذا يتطلب هبة بمقاييس ثورة وليس العكس. ويتطلب مجلسا ثوريا يتم اختياره ميدانيا، وليس مفاوضين تقترحهم قناة الجزيرة والجامعة العربية. وبدون استقطاب كل فئات الشعب حول وعي الثورة الشعبية، وتحويل كافة النخب غير الشعبية إلى الحبس المنزلي، فلن يحدث جديد على أية ساحة عربية.
لا أريد الإسترسال في التطفل، ولكني بمدى ما أعتقد أن الثورة التونسية هي فرصة العمر العربي الضائع، بمدى ما أنا خائف عليها من الفوات. إذا تقدمت نحو المستوى الثوري القومي التحرري، أصبح لكل الشعوب العربية حصة في نفط الخليج المؤمم أمريكيا وصهيونيا. أما إذا نجح أوغاد الساحة في تحويلها نحو التعدد واليموقراطية وإصلاح الخلل، أي ألى فيلم أمريكي كما سبق، فعلى الشعوب العربية الرحمة، وللقحاب الدولية طول البقاء. لا عدو إلا الغرب. ولا سبيل للتحرير إلا وحدة الأهداف القومية بين الشعوب العربية. ولا تنمية اجتماعية وطنية وقومية، إلا بتحرير الثروات العربية وعلى رأسها النفط من أمريكا. أما الأنظمة، فقد رأيتم كيف طار زين العابدين مثل أي لص حقير، وكيف طردوه عن ابوابهم كما تطرد الكلاب، فقط خوفا مما يجري في تونس، وحتى لا يثور معها ثلثمائة مليون عربي ضاقت بهم سبل الخلاص.
(2) تونس مرة أخرى
لم يعد لنا حجة حتى على القدر. لقد سحقتنا أقدام الأخرين سحقا. ما هو نوع التجربة التي لم نخضها مع الأخر. وتترك لنا سببا واحدا كي لا نفهم. هل بقيت لنا أوطان غير محتلة، أو غير ممزقة، أو غير معروضة للبيع؟ هل بقي لنا كرامة لم تنتهك، وحق لم تدسه أقدام الأقوياء والضعفاء على حد سواء. ماهو نوع الإهانة التي لم توجه إلينا، ليس لأي سبب سوى انتهاك إنسانيتنا، لكي نسلم بدونية ذاتية،أصبحت مسلمة عالمية بحق. عندما أعلنت ” رايس ” في تل أبيب، وعلى أسماع العالم، أن سلم القيم الإنسانية الأمريكية، يحتوي على بند استراتيجي مفاده أن ترويع طفل يهودي واحد، يفوق شرّيا، حرق الآلاف من أطفال الفلسطينيين واللبنانيين وتسميم مستقبل أجيال كاملة منهم باليورانيوم المخصب، لم يثر ذلك انزعاج أحد في العالم. فهل نريد دليلا اكبر من هذا، على إن حرق أطفال العرب، حتى على السفود، لا يخدش حياء الإنسانية الغربية، بقدر ما يخدشه ترويع طفل غير عربي. هذا هو المنطق الإستراتيجي للإنسانية الغربية، الذي انطلقت منه ” رايس “. وليس من قضية أي سلم آخر للقيم. عرب… وغير عرب تصاعديا، وغير عرب… وعرب تنازليا. أما المرجعية لهذا التقسيم فلها جانبان. الجانب الغرضي لمشروع العولمة الأمريكي الصهيوني، والذي يرمي إلى تأبيد الفراغ القومي العربي في المنطقة، والذي لا مكان بدون تحقيقه، لخلق منطقة بهوية جغرافية فقط تحت اسم الشرق الأوسط، وبهوية اجتماعية لجوارات سياسية، يجمع بينها التبعية لأمريكا وإسرائيل. تحقيق هذا الهدف القديم للغرب بدا منذ قرون طويلة، قبل أن ترث أمريكا كل التراث التاريخي الروماني لهذا الصراع. والجانب الثاني، هو اكتمال مرحلة استلاب وتخريب الوعي العربي بنيويا، وإعداده لتقبل مثل هذا الإجراء. فالأمر لم يكن سهلا من أساسه بالنسبة إلى أمة هي أعرق أمم الأرض حضاريا. والقضية تستدعي نشاطا مركبا يشمل التدخل في الوعي والتاريخ وتفاصيل الوجدان العقلي والسيكيولوجي للعينة البشرية المستهدفة. والدسائس التحويلية التي بدأت بفصل عرب المنبع عرقيا عن أمتداداتهم الحضارية المؤسسة، في كامل المنطقة العراقية والشامية، وحتى كل البوابات الأفرو آسيوية ( قرطاجنة ومصر كمثال )، تستكمل اليوم بفصل العرب عن ذاتهم بكل الوسائل، تمهيدا لإخراجهم من سجلات العولمة كحضور تاريخي وقومي واجتماعي؟ اليس في سحنة العصر الغربي الصهيوني، وأفعاله ومقولاته وثقافته الإعلامية ما يشير إلى هذا بوضوح؟ أليس هناك مذبحة تصفوية شاملة للعنصر العربي تستخدم فيها كل وسائل الإبادة الجسدية والمعنوية والنفسية بشكل يومي؟ وهل نحن فعلا قد أصبحنا ناضجين بنيويا لكل ما يريده الغير بنا؟ أي هل نجحت المذبحة الشاملة في أيصالنا إلى حالة الهروب السيكيولوجي من الذات إلى ذات أخرى؟ أعتقد أنه من العبث أن ننكر ذلك. إن الإنحناء القسري الذي فرض علينا بالقوة، تحول الأن بمورفولوجيا التسليم إلى جزء من بنية الإنسان العربي. فلولا احتقار الذات، لم تتحول ظاهرة العمالة والتبعية إلى إحدي سمات الوجود العربي. شرائح اجتماعية كاملة، وعلى رأسها النخب الثقافية الهجينة، تتجه تلقائيا نحو الخيانة، بحيث أن هذه الظاهرة أصبح لها وجودها الإصطلاحي الشرعي في الوعي المستلب، تمارس كالبغاء المرخص تحت رعاية قيم سوقية مديثة، ومغالطات إعلامية خبيثة، تستغل إسمية التحرر وحقوق الإنسان، وحريات الفرد، والمرأة، والتعبير، والمجتمع المدني. لقد عاثت قناة الجزيرة، على سبيل المثال، فسادا في الوعي العربي بلغ حد الفجور، تحت شعار “الرأي والرأي الآخر” لتسريب كل عوامل الفوضى، والتمزيق، والعدمية القومية، والطائفية، إلى الساحة العربية. تحت راية هذا الشعار الخالي من المعنى، ارتكبت وترتكب مذبحة الوعي والهوية وكل أشكال التخريب المعنوي والسيكيولوجي، بأصوات النخب الثقافية العربية المديثة والبلهاء. تلك النخب هي التي صمتت صمتا تاما مع الأخرين عن مقولة رايس التي تفوق كل ما أثر عن أدبيات العنصرية في التاريخ البشري، حيث لم يسبقها أحد إلى وضع تسعيرة عينية لشعب من الشعوب. فماذا يريد أي عربي مسحوق من نخب تبحث في الفرق بين الجمهوريين والديموقراطيين في أمريكا من حيث سياساتهم تجاه العرب، ويثيرهم إسم أوباما حسين ولونه كمؤشر خلاص، ولا تثيرهم التسعيرة التي وضعتها رايس لأطفال العرب، سوى الحذر الشديد من نموذجهم.
عترف أنني أعيد أشياء قلتها عدة مرات خلال عشرات السنين الماضية. ولكنني قلتها في مراحل خالية من الضوء تماما، وعلى هامش النكبات الدموية والمعنوية المتكررة للشعوب العربية. أما الآن في المرحلة التونسية فالأمر مختلف جدا. هناك دفقة من الضوء، وسبب للتفاؤل، وأسباب للخوف على ذلك. هناك استدارة مسائية عظيمة لضوء أوشك أن يتلاشى، فإذا أضعنا هذه الفرصة دخلنا دهليز الضياع الأبدي كما أخشى. لذلك فإن أي قول يقال الآن مرجعيته الأمل حتى الموت، والخوف والحذر حتى الحياة. والشعب التونسي وحده يظل مهددا بابتلاع ثورته أمريكيا – وليس هذا وقت التفصيل – بحكومة الوحدة النكبوية، أو جره إلى حرب أهلية، يقف فيها الشعب التونسي وحده أمام عملاء أمريكا الحزبيين والنقابيين والنخبويين الممتهنين. والمعركة غير متكافئة. فقد بدأت أمريكا باستدعاء احتياطيها المحلي والخارجي، من اعداء القومية العربية المتخصصين من شيوعيين ليبراليين، وغنوشيين لا قوميين، ومدافعين عن ” الديموقراطية ” بالأجرة، من مؤسسات العمل المدني. واستمرار التردد النسبي بين النخب الشعبية على الساحات العربية، غير مشروع قطعا من الناحية الموضوعية، لأنه سينعكس على صمود الشعب التونسي. إذ يجب أن يشعر هذا الشعب الباسل، بأن الشعوب العربية هي معه في صف الهجوم، وليس ” بالدعم بالطحين “. فالدور العربي في حماية الشعب التونسي وثورته يجب أن ينطلق من الشراكة المصيرية، والجهوزية التعبوية الملزمة، للمشاركة في الثورة التونسية وليس دعمها فقط. لقد علمتنا التجربة الفلسطينية أن أول ما يجب الحذر منه هو الدعم التفريغي، الذي تديره عادة مؤسسات الليبراليين المدنية، من جمعيات الطحين.
هل سيسعفنا الوعي والغضب هذه المرة، أن نضع أمريكا وقحبتها المتوسطية القديمة التي بدأت تراود النشوز، والعمل لحسابها الخاص، بعد أن طردت وما تزال تطرد عن البوابات الأفرو آسيوية، الواحدة تلو الأخرى، وبعد أن طردت من ” الشرق الأوسط ” بالحذاء الطنبوري من قبل أمريكا وإسرائيل، أمام خيار التورط أو خيار الإنكماش؟ هل سيسعفنا الوعي والتصميم والغضب والإشمئزاز العادل، هذه المرة على تنظيف الشارع السياسي والإجتماعي العربي، من ظواهره النخبوية المتعفنة والعميلة، وطرح وعي التزام التحرير والتحرر القومي، كثقافة شرف اجتماعي وإنساني بديلة للشارع عن ثقافة فضائيات أمريكا المتبذلات، نكون فيه قادرين على الرد بحرية، على من يسكت على تسعيرة كونداليسا رايس لدم أطفالنا، ونخبره بكل الموضوعية والنزاهة أنه أقل من قحبة؟
(3) اللصوص تحت النافذة: تلكؤات وقرارات مقلقة في تونس
لم يطل الوقت حتى بدأوا بالتلعثم. أحسوا بأن وعي الشارع التونسي قادر على قراءة نموذجهم جيدا، وأنه يعرف أنهم لا يمكن أن يكونوا موضوعيا في صفه أو صف الثورة. فكلهم ببساطة، كأحزاب وكتل سياسية، هم من ركاب قطار المرحلة. بعضهم في الدرجة الثالثة ومعظمهم في زرائب الأمتعة. وعادة، فإن الموضوعية السياسة للأحزاب الموجودة خارج الحكم، والتي تسعى إليه، أو للعيش في كنفه، تتطلب مهارات ثابتة أولها الإنتهازية، والتحرك في المناطق الآمنة. لذلك هي تنظيمات مهنية، يحرص اقتصادها السياسي على التعامل التكتيكي، سواء مع الشارع أو مع النظام،لأنها تمثل خطا من المصالح التنظيمية والنخبية التي تصبح حمايتها هي ألهدف الأول لوجودها. أي أن استمرار وجودها السياسي هو الذي يملك الأهمية القصوى، في أية مرحلة.
وتراكمات التجربة في الحس الشعبي، تكون وراء غضب الوعي الذي يؤدي، إلى إطلاق شرارة الغضب التي تشعل الثورة الشعبية. وهو ليس غضبا أعمى، بأي احتمال موضوعي , ولكنه وعي مباشر لتفاصيل الواقع المختل، تنقصه الخبرة التنظيمية التي تتمتع بها جماعات الإمتهان السياسي. لذلك ما إن تحقق الثورة حضورها على الساحة حتى تهرع تلك الجماعات، بتكتيكاتها المهنية المتقدمة إلى الشارع، ولكن بتريث وحذر، حتى لا تخسر مواقعها المتقدمة والأمنة على ساحة النظام، محاولة الإستيلاء على الثورة. هذا ما فعلته أحزاب النخبة والعراقة السياسية في تونس. وحينما تبين لهم أن وعي التجربة التلقائي لدي الجماهير، ولدى النخب الشعبية ليس في صالحهم، عادوا إلى مواقعهم المتقدمة في اللعبة السياسية، بشعاراتهم المكررة عن الشعب والديموقراطية وحرية التعبير. وهي مطالب يرفع شعاراتها النظام أيضا، ولا ضرر منها، بل على العكس، مجرد ترديدها بجرأة إضافية، يثبت أن النظام ديموقراطي ويسمح بحرية التعبير، ويسهم في تفريغ الإحتقان. وكمثل من تجربة فلسطينيي الداخل فإن هذا ما اضطلعت بتقديمه أحزاب الكنيست ” العربية ” في إسرائيل ” للديموقراطية ” اليهودية، مقابل امتيازات حزبية وشخصية وحصانات مثقوبة، ورواتب تقاعدية ضخمة طيلة العمر. وقد بدا الأضطراب واضحا على أحزاب النخبة في الساحة التونسية، منذ الساعات الأولى للثورة التي لم يكونوا مستعدين لها، وكانت تقديراتهم كما يبدو أن المراهنة على اعتبارها مجرد هبة، يمكن توظيفها كورقة حزبية، تنقلهم من منافقة النظام إلى مفاوضته من موقع قوة، مغامرة غير مأمونة، بسبب الغموض. وفي نفس الوقت فإن قوة النظام لم تختبر بعد في المواجهة، ولا يمكن بنفس المدى المراهنة عليها. وبما أن إجهاض الثورة – أية ثورة شعبية – أو احتوائها، يشكل جوهر اقتصادهم السياسي الحزبي، لأنها تشكل خطرا مصيريا على مستقبل المشروع الحزبي برمته، فإنهم قرروا الإنحياز إلى مشروع الأجهاض السياسي المتمثل في حكومة الوحدة الوطنية. ولكن الصدي الواسع على الساحات الشعبية العربية، وتمكن النخب الشعبية في تونس من تثوير الشارع بأكمله، أعادهم إلى وعيهم الإستراتيجي الحزبي القديم، فخرجوا من حكزمة الوحدة الوطنية، إلى قاعة الإنتظار في أحضان استراتيجياتهم الموروثة من أيام ثورة يوليو في مصر، وحتى الأيام الحزينة في العراق المحتل. في الحالتين قامت أمريكا والصهيونية والغرب، باستدعاء كل احتياطيها العربي من اللاقوميين، وأعداء الثورات الإجتماعية، لتقيم تحالف الإخوة الأعداء من الشيوعيين والإخوان المسلمين والجماعات الليبرالية الملونة من أمثال الوفديين في مصر، إلى أصحاب ” البسطات ” الليبرالية في العراق، والتي لا يعرف عددها حتى الأن. في الحالتين، نجح تحالف الأهداف المشتركة بين المتناقضين، في الوصول إلى أهدافه بقيادة غربية صهيونية معلنة. والآن يقدّر استراتيجيو تلك الجماعات، أن التاريخ سيعيد نفسه في تونس، وربما في كثير من البلاد العربية الأخري. وهذا يفسر ترنحات الشيوعية الليبرالية اللاقومية، والتعجل في استدعاء الغنوشي المُدوّل، والمرزوقي الليبرالي المتصوف والحقوقي الباريسي المعروف. وباعتبار الثاني، عميل مفرد، أعلن مثل علاوي في العراق، أنه قادم لتولى الرئاسة في تونس، لأنه مفكر ليبرالي سينقذ شعب تونس من الليبرالية بالليبرالية، ولأنه شديد الذكاء، كما وصف نفسه، وكما قدمته قناة الجزيرة , التي تمثل غرفة عمليات الثورة المضادة.
باختصار، هذا هو السيناريو المتوقع، إذا فشلت لعبة الحكومة الوطنية في احتواء الثورة الشعبية في تونس. وهي في اعتقادي قد فشلت منذ اللحظة، ومهمتها الوحيدة الأن كسب الوقت، ريثما تستعد أطرف التحالف المضاد، وترسم سيناريو مشهد التنفيذ بشكل مقنع نسبيا. وهذه المرة أريد أن أتـخيل أن تونس لن تبقى وحيدة في المواجهة. أريد أن أتخيل إن الشعب العربي عرف عدوه بعد كل ما مر به من تجارب ونكبات. وأن المرحلة القائمة بكل تفاصيلها الرئيسية الدولية، وأشباحها المحلية، هي ذلك العدو، الذي يمثل حائطا سميكا من الأسمنت والخردة، أمام طموحات الشعوب العربية. أريد أن أتخيل أن هذا الشعب تأكد بعد معاناته غير المسبوقة، أن لا أحد في صفه إلا هو نفسه. وأن كل الأخرين من حوله هم نسيجا واحدا متكاملا للمرحلة النعادية، تتقاطع خيوطه، وتمتد في كل الجهات، حول محورغربي صهيوني استراتيجي واحد، هدفه تبديد مصطلح الشعب العربي وتغييبه في الهوية الدينية،والعدمية الليبرالية، وأكذوبة الديموقراطية الغربية التي تلخص فلسفة الطغيان المعولم، وتشكل توظيفيا، بديلا كاذبا عن سياق التحرر الذات- موضوعي للشعوب. الحرية والتحرر سياق إنساني عام يصنعه المستفيدون الوحيدون منه وهم الشعوب، ويقاومه المتضررون الوحيدون منه وهم أصحاب مشاريع الهيمنة. أولئك لا يريدون ذواتا قومية أو أوطانا إلا في بلادهم. أما في بلاد الأخرين فهم يريدون جماعات من البشر بدون هوية اجتماعية محددة، موقوفة الجدل الإجتماعي الذاتي، وعاجزة عن تذويت هويتها أو ثقافتها أو تراثها، وبالتالي عن تذويت نظامها الإجتماعي ومستقبلها السياسي والإقتصادي الخاص، في عالم يقوم على الصراع بين من يحاولون عولمة ذواتهم ومصالحهم وثقافاتهم القومية وأصلانياتهم، وبين المهددين بالنفي والتبعية المؤبدة لهم.
إن أول شروط قيام الحركة الإجتماعية، هو توفر استقلال الإرادة، والتنمية الوطنية والقدرة على حمايتهما. أي جواز سفر في التاريخ غير هذا، هو بالمنطق وهم وضياع مؤكد في وجودية الأخر وحركته الذاتية. ألقومية بالتجريد العلمي والعملي للتاريخ هي مرحلة النشوء الأولي للحضارات البشرية. انطلقت من فضاء جغرافي سيادي، مارست داخله الجماعة البشرية جدلها المادي والمعنوي مع الحاجة والضرورة، لتتكون من هذا الجدل الخاص عبر اختلاف خواص المكان، خصوصة الجماعة. والهوية القومية في عالمنا، لم تتحول بعد إلى ترف رومانسي محدود الأهمية في علاقات الوجود. إن دينامياتها للأسف الشديد، ما زالت توجه الصراعات في المشهد الإنساني العام. وما زال التحيز للذات القومية، هو جوهر النظام الأمبريالي العالمي، وآليته التي يعتمد عليها في تعبئة شعوبه للعدوان على الشعوب الأخرى، بحجة حماية مصالحه القومية. فإذا كانت هذه المصالح تعني نهب الأخرين، فماذا على الأخرين أن يفعلوا؟
هل عليهم أن يلجأوا لمنظمات حقوق الأنسان الدولية والأمم المتحدة ومجلس الأمن؟ إن كل ما هو دولي هو أمريكي صهيوني بالوقائع الدامغة. وهذه المؤسسات التنفيذية للمشروع الأمريكي الصهيوني، هي التي سيحملها التاريخ ذات يوم، المسؤولية المباشرة، عن موت عشرات بل مئات ملايين البشر في آسيا وإفريقيا وأمريكا، لحساب المشروع المذكور. ومبعوثوها من أمثال بان كيمون وما دون، كانوا دائما الذراع اللوجستية الأهم لجرائم الغرب والصهيونية في عالمنا المعاصر.
أم يلجأون في الحالة العربية، بوصفها اوضح الحالات على انسجام أركان المرحلة المعادية على ساحتها، إلى الذين يرون في سلاح الوحدة القومية محرما دينيا، لآن مصدره الغرب، ثم يحاربون إخوانهم في الدين والقومية بالغرب؟ حسنا لقد بلغ السيل الزبى،وفرصة النجاة أصبحت محدودة، فليفعّلوا إذن الجهاد الديني، بدل أن يهربوا إلى بريطانيا أو أمريكا أو فرنسا. ليرصدوا جزءا من تريليوناتهم الإسلامية للتعبئة الجهادية، أو يقصروا استثمارها على التنمية الإسلامية الإنتاجية في بلاد الفقر والجوع العربية. أم أن التنمية الصناعية حرام هنا أيضا لأنها غربية؟ لماذا يمالئون حكام الخليج، ويقود قرضاويهم حملة الترويج للإعتدال، وتخصص له قناة الجزيرة برنامجا أسبوعيا للتثقيف الإخواني؟ الإعتدال في ماذا؟ في الدفاع عن النفس؟ هل يوجد مقولات بشرية من هذا النوع؟ لماذوا كانوا من المبادرين لدعوة أمريكا إلى العراق؟ هل تجوز الإستعانة على صدام ببوش؟ وعلى البعث بالمحافظين الجدد؟ وعلى الشعب العراقي بالمارينز؟ أم لعلنا نلجأ إلى أيتام يلتسين وغورباتشوف الصهيونين، الذين يرون أن اخطر ما يهدد التحرر العالمي هو النهضة القومية العربية، ويتحالفون علنا مع الليبرالين والدينسياسين، بدون أن يؤذوا التحرر العالمي؟ أليس في التواجد العبثي المشبوه لهؤلاء ما يستوجب موضوعيا اعتبارهم أعداء لشعبهم. لقد خانوا فلسطين ومصر والعراق، ويؤيدون التحرر القومي للأكراد، ولكل من يريد دولة قومية من الوطن العربي، ولا يرفضون عدا التحرر القومي العربي باعتباره حركة فاشية. يتحفظون من تهويد فلسطين، ولكنهم يرفضون تعريبها بدون أي تحفظ؟ لقد أثبتت التجربة الفلسطينية والقومية مع هؤلاء، أنهم جاهزون لكل أنواع الخيانة المبدئية، من خيانة من خيانة الماركسية والتحرر العالمي، وحتى خيانة بعضهم بعضا، ولكن لديهم مبدءا واحدا أثبتت التجربة أنهم غير قادرين على خيانته، هو عداءهم لحركة التحرر القومي العربي. لذلك فإن التوافق معهم هو بمثابة استحالة نوعية لا يمكن تجاوزها. تصورو الشيوعية الصهيونية.
إن القبول يأية تعديلات غير جذرية على الواقع التونسي والعربي عموما، ستكون تجربة عبثية، وحسما في صالح استمرار التلاشي لمستقبل الشعوب العربية. نحن لا يمكن أن ينقذنا أقل من عصر جديد، يحارب المرحلة بسلاحها. سلاح مقاومة الموضوعي بالموضوعي والجدلي بالجدلى. والموضوعي هو السياسي والجدلي هو الإنساني. ونحن في عصر الصراعات القومية على تراتبات العولمة. فإذا كانت المصالح القومية هي موضوعة العصر الأمريكي الصهيوني السياسية، التي يشكل التعصب القومي لوجستيتها العدوانية، فهنك موضوعيا وجدليا طريق واحد للمقاومة، هو التحرر القومي. ولا يمكن فعليا مقاومة أية مرحلة خارج موضوعيتها وتحدياتها الجدلية. فإذا كنا نريد التحرر الإجتماعي فعلينا أن نكون قوميين أولا بالإلزام الموضوعي. إنه لوجستيتنا الدفاعية الوحيدة المفروضة موضوعيا، إلى حين تحقيق موضوعيتنا الذاتية، لنصبح من أصحاب المرحلة وليس من أتباعها. من هذا الموقع المتحقق اولآ، نستطيع أن نحقق جدلنا الموضوعي في التحرر الإجتماعي. فلم يحدث أبدا أن حقق شعب إنجازا تحرريا واحدا في حضن التبعية للآخر. والحس والإلتزام القومي في حالتنا يشكل قوتنا المعنوية والتعبوية الهائلة. فنحن مؤسسو الحضارة الكونية الأول , وشعوبنا عينة حضارية مميزة في سجل التاريخ، تستطيع أن تستوعب انتماءها القومي الفريد، كدينامية مرحلية مقاتلة وملتزمة تسهم في حركة التحرر الإنساني. ما يميز تاريخنا العربي أنه أكثر التواريخ دماثة وإنسانية وتنورا. ونحن الآن متهمون بأننا همج العالم، ومتخلفوه. نعم! لقد صنعوا بنا ما أرادوا. لجموا عقولنا بفقه المرتزقة من عجول الإجتهاد السياسي، وقساوسة الخلافة، وأنصار العدمية الدنيوية، ومزقونا بالطوائف. ثم حقنونا بعد ذلك بالعمالة، ومدارس التبعية الترديدية للغرب، وكأن تفوق الغرب دليل معرفي على دناءتنا العرقية. حاصروا شرفنا الإنساني وكرامتنا واعتزازنا القومي، بأنظمة الماعز، ودبروا لنا الهزائم المهينة، وداسوا دم أطفالنه بكونداليسا رايس، وأذلونا بإسرائيل، واستغفلوا مسحوقينا بكذابي التحرر، ومثقفينا بقناة الجزيرة ومفاتن الدولار، وحولوا وجداناتنا إلى مسنبتات سيكيولوجية لمشاعر الدونية والإحباط واليأس والتبعية.
وقناعتي، أنه لا مخرج من كل هذا، إلا الإلتفاف الشعبي العربي حول قومية المصير كفضاء وحيد للخلاص المرحلي، وكأبجدية استرايجية للمستقبل التحرري الشامل. وهي فناعة قائمة على الإنحياز الموضوعي للوعي، او هكذا أدعي، على ضوء تحديات الأستهداف الموجهة نحونا كعرب، لتجريدنا من حق المواطنة الكاملة، في دستور العولمة الغربية الصهيونية. أول حروف هذه الأبجدية بمنطق السياق الميداني الشائع للتجربة، هو تنظيف الساحو الداخلية، لتجريد العدو الغربي الصهيوني من آلياته التخريبية التي زرعها في بنيتنا الإجتماعية، وبناء تعددية فكرية وسياسية وثقافية حرة، قائمة على الولاء أولا للشعب، ومصالح الوطن القومية والتحررية. أما إبقاء نخب المرحلة على حالها، في حاضنة العهد الجديد، فهو شبيه بتبني ديموقراطية العمالة للعدو الإجتماعي والقومي. لقد كانت أول خطوات الحكومة التونسية، إطلاق سراح السجناء السياسيين، واستدعاء قياداتهم من الخارج. هذا تزامن مقلق. يبدو وكأنه حلقة تمهيدية لشيء ما! وربما خطوة تعبوية لتحالف أحزاب المرحلة المنتظر، ضد ثورة الشعب التونسي.
عن «كنعان»