ثورة تونس

هؤلاء أيضا أسقطوا «الصنم»!

توفيق رباحي
قبل أسبوع من سقوط ‘الزين’، كنت في مقابلة تلفزيونية حول تونس شارك فيها من باريس الدكتور منصف المرزوقي. أعترف بأنني ابتسمت خلسة عندما قال، تعليقا على المسلك الذي كانت الانتفاضة بدأت تأخذه: ‘لا حل إلا برحيل الدكتاتور.. أي كلام غير هذا سيأخذنا الى الهاوية’. صادف ذلك يوم الخطاب الثاني للرئيس المخلوع زين العابدين بن علي ووعوده بآلاف مناصب الشغل وببرامج تنمية ضخمة. كان الحديث عن ‘رحيل الديكتاتور’ آنذاك مبكرا ويبدو من ترف الكلام. صدق المرزوقي وسقط ‘الزين’ بسرعة فاقت التصورات. كشف أنه كان صنما هشاً أوهم كل الناس بأنه الأكثر بوليسية واستقراراً.
إذا كان لا بد من توزيع الأدوار والمسؤوليات في هذا الإنجاز التاريخي، فسيتوجب القول إن الفضل الأول يعود الى المرحوم محمد البوعزيزي (أصر على أن هذا الشاب يستحق تمثالا ضخما)، ثم الى شبان تونس وشاباتها ومحاميها ونقابييها، ثم جيشها وأيضا معارضيها في الخارج الذين كان الزميل برهان بسيّس يتندر بوصفهم بـ’الظاهرة الصوتية’.  لكن هذا تحصيل حاصل تقريبا. الشباب هم دائما وقود أي غضب شعبي. و’الظواهر الصوتية’ المحرض عليه. والجيش يقمعه أو يحميه (ولو بالحياد). ما يهمنا هو الدور الذي لعبته جهات وأطراف أخرى، ليست بالضرورة تونسية، وجب أخذها في الاعتبار من الآن فصاعدا في أي تحرك سياسي أو شعبي: قناة ‘الجزيرة’، ‘يوتيوب’ ومواقع التواصل الاجتماعي الأخرى، قناة ‘الحوار’ التلفزيونية، الهواتف الجوّالة وتكنولوجيا الاتصال عموما.
حاولوا أن تتصوروا اضطرابات تونس من دون هذه الأدوات. يستحيل أن تصل الى ما وصلت إليه. لقد وقعت أحداث (مدينة) قفصة في مثل هذا الشهر من عام 1980 ولم تطح بالرئيس الحبيب بورقيبة، لأنها كانت يتيمة الاتصال والتكنولوجيا. لو وقعت اليوم لأخذت منحى آخر غير الذي أخذته في حينها، ليس أمنيا فقط، بل من حيث انسياب وتدفق الصورة والمعلومة وتشجيع الناس على الاستمرار في احتجاجهم. لولا هذه الأدوات ما كان العالم ليتابع انتفاضة 2011 دقيقة بدقيقة، ولدكّ ‘الزين’ تالة والقصرين بالمدفعية (ثم يخطب في تلفزيونه ليقول إن سكانها إرهابيون وأعداء الوطن).
1 ـ قناة ‘الجزيرة’: إن أقل ما يمكن قوله عن ‘الجزيرة’ هو أنها لعبت دورا خطيرا في سقوط بن علي. كان دورها كبيرا وواضحا. بلغة الأرقام ربما هو ربع أو ثلث التأثير وتشجيع الناس واقناعهم بـ’نعم تستطيعون’! وعليه، أنصح صادقا الأصنام الأخرى أن تأخذ العبرة وتنتبه في المستقبل. رغم أنها لم تغط الاحتجاجات تغطية تلفزيونية تقليدية، ورغم أنها لم تفعل مثل التلفزيونات الغربية (حضور مراسل أو موفد وسط المتظاهرين وإصراره على نقل الذعر والتقاط أصوات وصور للرصاص والجرحى وغيره)، إلا أن ‘الجزيرة’ كانت أخطر من الجميع في تغطيتها. كان لافتا بالأساس قدرتها على الوصول الى ـ واستنطاق ـ كوادر نقابية وسطى ونخب جامعية أبانت عن قدرة هائلة في التعبير وتبليغ مطالب المتظاهرين الذين، لحسن حظهم وحظ تونس، لم يكن لديهم قائد معروف أو ناطق باسمهم. كانت هذه النخب هي سلاح ‘الجزيرة’.
بدأت تغطية ‘الجزيرة’ متواضعة: صور ذات نوعية متوسطة أو رديئة، معلومات شحيحة، مصادر يشكك في مصداقيتها أزلام النظام ويحاربونها، ثم تطور الأمر شيئا فشيئا وبدأ الناس، من نقابيين وحقوقيين وصحافيين معارضين، داخل تونس، يتشجعون ويسمون الأشياء بأسمائها. لم يعد ممكنا التصديق أنهم جميعا متآمرون على نظام الحكم ويغارون منه ويتنكرون لإنجازاته. أصبح مطلوبا التوقف عند ما يقولون والتصديق بأن شيئا ما يحدث أو في طريق الحدوث. هنا بدأ نظام بن علي يتخلخل.  أحد أهم انجازات ‘الجزيرة’ أنها فرضت اللجوء الى صور الانترنت ذات النوعية المتوسطة والرديئة أحيانا والملتقطة في أغلبها بالهواتف الجوالة. كانت الفضائية الوحيدة التي لم تجد حرجا في استعمال تلك الصور والانتفاضة في أيامها الأولى ومحصورة في سيدي بوزيد، بينما كانت الفضائيات الأخرى تتعفف عن الاستعانة بتلك الصور، باعتبار ذلك تحايلا على شروط وأخلاقيات المهنة، بل حدث تشكيك في تلك الصور واعتبر استغلالها إخباريا نوعا من ‘التبلّي’ على تونس الحكومة التونسية، ثم ما لبثت الفضائيات الأخرى أن تجاوزت الحرج والارباك وبدأت هي استثمار الصور ذاتها. هنا أيضا ازداد نظام بن علي تخلخلا وهو الذي عُرف باستقراره الأمني والتلفزيوني.
***
2 ـ مواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الانترنت: كان من المفروض أن تكون هذه الأدوات وسائل مطاردة وقمع في يد الطغاة. وبما أنها سلاح ذو حدّين، ها قد كان لها الفضل في تحقيق ما لم يكن يخطر على بال.
أول فضل لهذه التكنولوجيا أنها ساهمت في تزويد ‘الجزيرة’ (ثم الآخرين) بالصور والمعلومات. وكان دورها أساسيا كذلك في إيصال المعلومة الى عموم الناس مع بعض جرعات الشحن. والأهم ان كان دورها أساسيا في تنسيق التحركات سياسيا وفي الميدان. والأهم من كل شيء أنها سلاح متاح لكل الناس مجانا وفي كل وقت.
لا أعرف هل هذه المعلومة دقيقة، فقد بلغني أن الاعتصام أمام مبنى وزارة الداخلية بعد ظهر يوم الجمعة المبارك (14 كانون الثاني/ يناير) بدأ ببضع عشرات من الناس بساحة محمد علي، ثم، بفضل نداءات بـ’الاس ام اس’ والمواقع الاجتماعية، بدأ الناس يتوافدون الى أن أصبح اعتصاما ضخما ورائعا انتهى بفرار بن علي. رغم حجب هذه المواقع في تونس والتضييق على مستعمليها ومطاردتهم، كان التونسيون يلتفون على ‘عمّار الـ404’ ويحمّلون من الصور ما يجعل المرء عاجزا عن مواكبتها ومشاهدتها جميعا.
هذه من الإنجازات التي يجب أن تُحسب لنظام الرئيس المخلوع. فسنوات طويلة من القمع والتضييق على الانترنت حوّلت التونسيين الى بارعين في الالتفاف على ‘عمّار الـ404’ وعلّمتهم فنون الإفلات من رقابة أضرت في نهاية المطاف بالذين وضعوها كي تحميهم.
من باب العلم بالشيء، أشير الى أن ‘يوتيوب’ و’فيسبوك’ و’ديلي موشن’ ومواقع عشرات الصحف بالعربية والفرنسية والانكليزية كلها ممنوعة في تونس ‘الزين’.
**
3 ـ قناة ‘الحوار’ الفضائية: سيكون من الخطأ التقليل من دور هذه الفضائية، رغم الفقر الفادح الذي تعاني منه. لعبت قناة ‘الحوار’ دورا هادئا لكنه خطير في الإيقاع بالصنم. ظلت تحفر وتحفر ثم تحفر، بصمت ومثابرة، حتى دخل الماء في ‘صباط’ بن علي! بدأ الأخير يخسر عندما أصبح الكثير من التونسيين في الخارج والداخل ينتظرون برامج ‘الحوار’ ويتفاعلون معها بشكل لافت للانتباه، يعطي الانطباع أحيانا بأنها فضائية مغاربية. استفادت ‘الحوار’ أيضا من تواطؤ الكثير من الفضائيات ووسائل الإعلام العربية مع نظام الرئيس المخلوع، وانصرافها عن الاهتمام بخصومه. حدث فراغ هائل لم تجد ‘الحوار’ عناء في سده من دون أن يكلفها الكثير.
لا عزاء للزميل برهان بسيّس! هذه الفضائية هي التي منحت ‘الظواهر الصوتية’ فرصة الوجود والتعبير، وعوّضتهم ما حرمهم منه إعلام بلادهم وجلّ الإعلام العربي. ظلت تتكلم وتنتقد وتعارض، وفي النهاية انتصرت بعد أن أصبح انتقاد ‘الزين’ جزءا من المقررات الأسبوعية، وأحيانا اليومية، لمشاهدي القناة. في القديم قالوا ‘مياه البحر تنخر الصخر بالمثابرة وليس بالقوة’. هكذا أتت ‘الحوار’ على بن علي.
العودة المظفرة
كانت ساعات مؤثرة بمطار تونس العاصمة يوم الثلاثاء، وهو ينتظر عودة الدكتور منصف المرزوقي من منفاه بباريس ذكّرتني بعودة الزعيم التاريخي حسين آيت أحمد الى الجزائر في أواخر 1989.
عودة المرزوقي التي غطاها التلفزيون التونسي بإسهاب (أين كنا وأين أصبحنا) هي أكبر دليل على أن الدنيا ‘غدّارة’ ولا أمان لها، إذ بعد أن أن حولت مخابرات بن علي حياته الى جحيم ثم نفته الى باريس، دارت الدائرة وها هو العالم يتفرج.هي أيضا دليل آخر على أن التلفزيونات هي الأخرى لا أمان لها.
البداية من الصفر
يصارع التلفزيون التونسي بقوة للّحاق بركب الفضائيات العربية والدولية. يحاول أن يكون مستقلا وموضوعيا، لكنه ما يزال محكوما بـ’البنعلية’ مضافا لها تأثير حالة الإرباك التي يعيشها البلد، ما يعني أنه مطالب بالبداية من الصفر وبأكثر من معجزة لا تقل الواحدة تعقيدا عن الأخرى. لكن قبل البدء يجب على القائمين عليه أن يرحلوا. ليس من الأخلاق أن تنتقل مما قبل 14 كانون الثاني (يناير) 2011 الى ما بعده وتتصرف كأن شيئا لم يكن.
من المذنب؟
السلطة مفسدة! آخر المبرهنين على صحة هذا القول (الوزير المعارض أو المعارض الوزير) أحمد نجيب الشابي، في مقابلة مع الفضائية التونسية التي كان اسمها ‘تونس7’. مما قاله الشابي، بعد أن أصبح وزيرا، ان رئيس الوزراء السابق ـ الحالي محمد الغنوشي ووزير الخارجية كمال مرجان وغيرهما من وزراء بن علي الذين ثار الشارع التونسي على إعادة تعيينهم في الحكومة الانتقالية، براء مما نُسب لنظام الرئيس المخلوع من مظالم، ولا يجب لومهم على ماضيهم. إذا كان الذي يعمل وزيرا أول مع بن علي 12 سنة (ولو بقي بن علي لبقي معه 12 أخرى) بريئا، فمن يا ترى المتهم أو المذنب؟
أتحدث هنا من وجهة نظر أخلاقية معنوية بغض النظر عن صحة ما يقال عنهم أو يُنسب لهم. 12 سنة مع بن علي كفيلة بإفساد وإدانة أنبياء وملائكة، فكيف بالغنوشي أو مرجان. بحد أدنى من المروءة كان على هؤلاء أن يطلبوا اعفاءهم ويذهبوا الى بيوتهم بدل أن يضعوا أنفسهم في مواجهة جديدة مع الشارع.

كاتب صحافي من أسرة ‘القدس العربي’
toufik@alquds.co.uk

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى