صفحات ثقافية

سعد الله ونوس… حين يدفعنا الموت لإعادة قراءة تاريخ الذات

null
يارا بدر
منمنمات تاريخية وتاريخ الذات :
في منتصف تسعينات القرن العشرين -1994- قدّم الكاتب المسرحي السوري سعد الله ونوس نصّه “منمنمات تاريخية”. عمل ينتمي إلى المرحلة الأخيرة من حياته الفكرية، المرحلة التي تلت الصمت الطول، تزامنت مع مرضه، وحملت أجمل أعماله. موضوع النص هو التاريخ القديم، تاريخنا العربي، ويقرأ فيه ونوس هزائمنا، خيباتنا، آمالنا وأحلامنا، فبعد هزيمة حُزيران 1967 التي حطمت الأوهام بالقومية العربية، وقف العديد من الكتاب مع ما حدث، ليُعيدوا قراءة انكسارات الماضي باعتبارها صورةً  قديمة عن انكسارات الحاضر، حيث تتساوى  الخيانة والموت والحب بذكرى واحدة…
وحكاية هذا النص كناية عن حكاية كبيرة يعيشها الوطن العربي منذ بدء الخلافة الإسلامية وحتى اليوم. متمثلة ً بالصراع الأكثر دموية والأقدم في التاريخ، الصراع على السلطة، حيث تزيّف الحقائق، ويزوّر التاريخ، وينتصر بعض الأفراد على حساب المجموع، باسم الله والوطن. أمام حكاية كهذه ما هو دور المثقف؟ سؤال يُطرح على كل المثقفين العرب وبشكل خاص بعد النكسة الحزيرانية ..هي الشام وهم المغول، وهو مؤسس علم التاريخ الحديث، ومفخرة العرب عبر الزمن، العالم ” وليّ الدين عبد الرحمن ابن خلدون”.
إعادة قراءة هذه الحكاية كان الهمّ الذي شغل ونوس في عمله، وليس معرفة الحكاية. لهذا يبني ونوس دراماتورجيا مختلفة عن الشكل الكلاسيكيّ المحكوم بقوانين الوحدات الثلاث، مُستعيناً بالمنهج الملحميّ الذي سعى في نصوص سابقة عديدة  لتطبيقه، إلا أنّ التجربة هذه المرّة كانت في مستوى أعمق من حيث التعامل مع مفردات النص وبُنيته، عبر التشكيل الدراميّ الذي يقوم على البنية المفتوحة، والانقطاعات الزمانية والمكانية والدرامية. فأتى نصاً غنياً بدلالاته وأبعاده، هو أقرب ما يكون إلى مجموعة من اللوحات الصغيرة، قطع صغيرة تشبه المنمنمة أو الزخارف، التي تصطف مع بعضها البعض لتشّكل لوحة فسيفسائية قديمة، كما لوحات فنّ الأرابيسك العربيّ، حيث تتقاطع الخطوط وتتشابك، فلا تُعرف بدايتها من نهايتها بدقة، ورغم استقلالية كل من هذه اللوحات بذاتها درامياً، إلا أنه لا يُمكن فصل أيّ منها عن بعضها البعض، كتابة مترابطة، لكلّ جزء استقلاليته وأهميّته الدرامية. وهي كتابة يستعين ونوس فيها بنصوص مختلفة المرجعيّات، ليخلق حالة من التناصّ الأدبيّ والمعرفيّ معها، من هذه النصوص، نصّ المؤرخ القديم الذي يُحيل إلى مراجع تاريخية عن وضع الشام المناخي، الاقتصادي، الاجتماعي والسياسي، وهو خطاب واقعي، مثل نصّ ابن خلدون المعرفي والشخصي. إلى جانب هذا يستحضر ونوس نصوصا من خطابات شخصيات متخيلة تحيل إلى شخصيات دمشقية تاريخية. حضر الآخر بشخص “تيمورلنك”، حضوراً تجلّى على المستوى  النصّيّ دون أن يتبدّى بشكل ٍ مُباشر. ومن خارج مجموعة النصوص التاريخية هذه يستحضر ونوس نصوصاً معاصرة عبر خطابه الضمنيّ غير المعلن، كقارئ من زمن آخر لمجموعة النصوص السابقة وتفاعلية علاقاتها.
نتج عن تعددية هذه الخطابات الدرامية في منمنمة واحدة تكثيف للعناصر السردية أو المشهدية، مع غياب البُنية المركزية للمشهد، أي تغيب وجهة النظر الواحدة، في مجموعة من الخصائص كالتزامن والتناظر. ليغدو بناء اللوحة درامياً قائماً وفق حركتين ترسمان الخط  البياني للعمل. الخط الأفقيّ وهو عبارة عن مجموعة اللوحات المستقلة، والتي تكسر التصاعد الدرامي الأرسطي نحو الذروة. والخط العمودي حيث تقدم كل منمنمة تفاصيلها وشخصياتها الخاصة.

الازدواجية في أدوات النص، ليست فقط على صعيد البناء الدرامي، وإنما أيضاً على مستوى إعادة صياغة الحكاية، فمن خطين فنيين يجدل ونوس تفاصيل حكايته، أو هما مرآتان”كالمسرح داخل مسرح”، ففي حين يجري الحدث الدرامي في الداخل- إن صح القول- مُقدماً المشهد التصويري، يأتي نص المؤرّخ القديم وخطابه كعنصر من خارج هذه الدراما  ليعلّق عليها، هو الراوي الذي يروي الحدث الذي شاهده، أي من داخل الحدث بمعنى المُعايشة، ولكنه في الخارج من حيث غياب المشاركة فيه. بالتالي ليسَ كليّ المعرفة. ولكنه وجهٌ من وجوه التاريخ في لعبة المرايا هذه.
حين يُعلق خطاب المؤرخ القديم على المنمنمة، أو يُمهّد لها بخطاب علميّ حياديّ، يتجاهل تفاصيل الحياة اليومية، ويغرق في تعليقات ٍ إنشائية، وخلط ٍ لا يخلو من الخفة بين الجليل  والتافه في الوقائع. وتعكس هذه المرآة رؤية المؤرّخ العربي النموذجي. الذي لا يرى في تقدم الأزمان، إلاّ توغلاً في الانحطاط، لأنّ أحسن القرون، هو القرن الذي عاش فيه النبيّ، وكلما ابتعدت القرون عن ذلك القرن ازدادت تدهوراً وانحطاطاً. وهي طبعاً رؤية المؤرّخ الذي يرى في كل ما يحدث تدبيراً إلهياً يتجاوز إرادة البشر وقواهم.. (1)
أمّا المشهد الدرامي فيأتي كلوحة أو كصورة تفسّر خطاب المؤرخ، تعرض التفاصيل وتروي بطريقتها ما الذي حدث، عبر العديد من الشخصيات التي تختلف طبقاتها الاجتماعية، ويختلف حجم مُشاركتها في الحدث. هذه العلاقة من تبادل القراءات لذات الحدث، تخلق نوعاً من الجدلية، ديالكتيك يؤكد عبر طرح النظرية وطرح نقضيها، على أنّ التاريخ الفعلي وما حدث فيه، أمر سيبقى غامضاً لا يعرفه أحد يموت دوماً مع موت أصحابه، ولكنه قابل دوماً للقراءة وإعادة القراءة.
تحيلنا هذه المعطيات إلى مجموعة قراءات داخل النص، هي قراءة لعلاقة المثقف مع السلطة والوطن، وقراءة لعلاقة المثقف بالتاريخ. وقراءة ثالثة لعلاقة المواطن العادي مع هذه المستويات الإنسانية والمفاهيمية.
الأصوات الدرامية:  العقل والجنون:
يطرح ونوس أساساً إشكالية المثقف ما بين الكتابة والممارسة، مُمثلة ً بشخصية العالم   “ابن خلدون” الذي يمتلك الوعي المعرفي والعلمي، والحياد البارد المطلوب بشخصية العالم الموضوعي، إلا أنه يتخاذل عن القيام بأي فعل حقيقي، ويكتفي بموقف يُسيء إلى الاعتبار التاريخي والوطني لهذه الشخصية القوميّة، فيقبل التعامل مع السلطة الجديدة للمستعمر “تيمور لنك” المغولي، كما تعامل مع سابقتها بعهدة والي الشام، لصالح ما يؤمن أنه موضوعية علمية. هنا يُطرح السؤال الأساسي حول موقف الإنسان كفرد من التاريخ والعالم. إنّ فكر “ابن خلدون” الاستسلامي تجاه ما يحدث يُلغي أي موقف أخلاقي، وكل فعل حرّ للإرادة البشرية. فتغيّب الخصوصية الذاتية ويصبح الفرد مُجرد رقم حياديّ ربما يساوي الصفر في معادلة التاريخ.
(لقد بدا لي ابن خلدون مثقفاً مُرتزقاً بالمعنى القديم للكلمة. أي أنّ المهمة الوحيدة لعلم العالم هي خدمة أهواء ومُخططات الأمير أو السلطان، الذي يرتزق المثقف من هباته. أو هو المثقف التقني بالمعنى المعاصر للكلمة. وهو الذي يجعل من العلم أو المعرفة حقلاً مُغلقاً، منقطع الروابط بمجتمع القيم. اختلاط الحياد العلمي بالعجز عن اتخاذ موقف) (2) “.
كما لدينا صوت الضمير أو الوعي الإنساني، المجنون “شعبان”، إنه- كما معظم المجانين في الأدب والأساطير- العاقل الوحيد، إنه الوحيد الذي يمتلك الوعي بكل سوداوية الصورة، وهو الوحيد الذي لم يفقد عقله أو إنسانيته. يمثل المكبوت في المجتمع، أو ضمير هذا المجتمع الراقد في أعماق روحه البعيدة في أسفل درجات اللاوعي، التي يمنعها الوعي من الظهور والتمظهر. والعاقل بين المجانين هو المجنون بين العقلاء، في كلا الحالتين هو منبوذ أو مغترب عن مجتمعه، غير قادر على القيام بالفعل، فهو لا يعيش في هذا المجتمع بل على هامشه. ولهذا فإنّ الدخول المغولي للمدينة ورغم كل ما ألحق بها من أذىً ودمار لا يمسه بسوء، فجميعهم مغول وجميعهم عقلاء. وهو المجنون الذي يرى الأحداث التي لم يرها المؤرّخ القديم ولم يقلها في خطابه الموضوعيّ. بالتالي هو من وجهة النظر المجازية فاقد العلم ممتلك للمعرفة بمعنى الوعي والضمير الإنساني، وابن خلدون يمتلك العلم الدقيق، ولكنه يفتقد إلى خصوصيته الإنسانيّة.

يبدو نص ونوس على هذا المستوى نصاً مكثفاً وغنياً، فكل شخصية يذكرها تمثل صوتاً قائماً ومستقلاً بذاته. هي قطعة صغيرة من فسيفسائه العريضة. وحتى الشخصيات نفسها، تمتلك بعداً ذهنياً ونفسياً عميقاً إذ يعرضها  في تناظريتها، لتكشف كل واحدة عن الأخرى، كما يعرض الشخصية ذاتها في تلوناتها الداخلية من خلال المواقف التي توضع فيها، شخصية “التاذلي” مثلاً، وهو رجل الدين، أخذ موقفاً من الحصار وانضم إلى الثورة، في حين كان موقفه من “الشرائجي” موقفا تكفيريا. و”الشرائجي” نفسه يمتلك موقفاً فكرياً متنوراً جداً، إلا أنه يفتقد للوعي السياسي الكافي. تبتعد شخصيات ونوس عن الأنماط، ولا تتصرف وفق أفكار مُسبقة وجاهزة، أو “وفق الترسيمة القديمة للخير والشر، بل هي مصالح مُتناقضة ورؤى مُتقاطعة، ولكل رؤية أو مصلحة خطابها وحجتها التي لا تخلو من بعض صواب”.(3)
شخصيّات تنتمي إلى طبقات اجتماعية مختلفة، التجار، رجال الدين، رجال الحكم ورجال العلم، الطبقة المتوسطة بأحلامها الصغيرة، هذا التنوّع على صعيد المتخيّل يرسم صورة واقعيّة عن المجتمع العربي في تلك المرحلة، من خلال مقاربته الصريحة للواقع، إذ يؤكد على تاريخية المرجعيات التي يُحيل إليها كالعالم “ابن خلدون” و”تيمورلنك” من جهة، وفي انقطاعه عن الوثيقة التاريخية، بإضافة العديد من الشخصيات الخيالية كالتاذلي وسعاد وخديجة وسواهم، من الشخصيات التي ترسم العالم اليومي والمُعاش، أو الحكاية الصغيرة التي تصعّد من مستواها الاجتماعي إلى المستوى السياسي عبر الشخصيّات التاريخية، بين هذه الشخصيات الخيالية نستطيع تميّز حضور شخصيّة الفتاة الصغيرة البكماء، التي تعرّف بكونها ” ابنة الحلبي”، شخصية خيالية لغاية فنية، درامية، تبدو تجسيداً للواقع العربي الذي يضطهد المرأة، ويضطرها إلى طلب الحماية المالية والاجتماعية من الرجل، مفعولا به مُشتهى كموضوع – رغبة- للرجل المغوليّ، أو العربيّ، وليس كذات إنسانية.
الجسر الذي يصل بين هذين العالمين الواقعي والخيالي، هما شخصيتان تقفان على النقيض، المؤرخ والمجنون، وهما شخصيتان عرفهما التاريخ العربي، إلا أنّ ونوس يطرحهما ببعد يبدو اقرب إلى الرمزيّ، فهما المرآتان اللتان نرى من خلالهما الآخرين، ولكننا لا نعرف عنهما أيّة تفاصيل حياتية تكسبهما الفاعلية الدرامية.
نرى في مُخطط تبسيطيّ المستويات الرئيسية لتوزع شخصيات ونوس، التي يرسم من خلالها بُنية نصّه الدرامية.
– المستوى الأول: الشخصيات التاريخية (الواقعية): ابن خلدون- تيمورلنك.
– المستوى الثاني: الشخصيات المتخيلة : سًعاد- التاذلي- خديجة- الشرائجي….
– المستوى الثالث: الشخصيات الرمزية: المؤرخ- المجنون- ابنة الحلبي.
يجب التنبيه إلى أنّ المؤرخ شخصية لا تعرف بأي اسم يُضفي طابع الخصوصية، بل فقط بـ (الـ) التعريف، وبالتالي يصلح أي مؤرخ، في حين تكتسب باقي الشخصيات التاريخية والمتخيلة بُعدا ًحياتياً أكثر، وخصوصيّة فردية. وبهذا ينسجم خطاب المؤرخ التقريري مع طابع شخصيته العمومية.
يقف المجنون “شعبان” من العالم ابن خلدون موقف النقيض أيضاً، فهو غير مُحدد، ربما كان حقيقة وربما لم يكن، في حين أنّ ابن خلدون وجد حقيقة. يُعبر ابن خلدون عن العلم بمعناه الأكاديمي ويحظى بأقصى درجات الاحترام الاجتماعي، في حين يمثل المجنون الطبقات الدنيا المنبوذة كلياً، ووعيه هو وعي جَمعي، ربما يكون أدق تعريف له هو اللا وعي الجمعي. كلاهما يعايشان حادثة سقوط دمشق بيد المغول، ولا يقومان بأي فعل لوقف الانهيار، مع فارق مساحة الفاعلية الاجتماعية التي يمتلكها ابن خلدون ويفتقدها المجنون “شعبان” كلياً، إلا أنّ المجنون يُساعد الفتاة الصغيرة ويعطيها من فتات خبزه، في حين يُقدّم ابن خلدون الولاء والطاعة وفوقهما علمه ودراساته إلى الحاكم العسكري الجديد “تيمور لنك”.
تنقسم الشخصيات الأخرى إلى مجموعتين تقريباً، مجموعة فاعلة كالشباب الذين انضموا إلى حركة المقاومة البسيطة، أو “التاذلي”، وأخرى مفعول بها كسُعاد  وخديجة مع جنينها وزوجها… هي شخصيات لها خصوصيتها، وتكتسب بلغتها وأفعالها كثافة حياتية تقرّبها من الواقعيّة، وتتميّز بتنوعها النفسي الذي يكشف عن العادي في الإنسان، بعيداً عن البطولات الأسطورية، فهناك الجبان، وهناك من يخاف الألم وهناك من يشعر باليأس وعدم القدرة على الفعل.. وسواهم.

هي شخصيات تمتاز بالحضور الأنثويّ الفاعل في علاقته المُباشرة بالرجل من جهة، وبكونها مرآة للواقع الذي تخلفه الحرب، من دمار للبيوت والأحلام الصغيرة، وقتل للرجال والأبرياء جراء سياسات قادة الحروب ومصالحهم الشخصية، وصولاً إلى الاغتصاب، في إحالات فعل الاغتصاب من انتهاك للجسد الأنثويّ بدلالته الإنسانية المقدسة، ومن تمظهر مُباشر للعنف والاستلاب الذي يتعرّض له المواطن العادي من جهة ثانية. هنا يجب التوقف مع لوحة هامة من لوحات النصّ، يبيع “الحلبي” ابنته إلى التاجر “دُلامة” المقتدر مالياً واجتماعياً، لتكون جارية ً لديه  مُقابل أن يؤمّن لها الحماية من ويلات الحرب، لكن الذي يحدث أن يعتدي التاجر على الفتاة المُصابة بالبكم نتيجة رؤيتها لمقتل والدتها وأخواتها على يد التتر- المغول، والشيء الوحيد الذي تستطيع القيام  به كردة فعل، هو أصوات مُبهمة متقطعة لكلمة “تتري” بوجهه، هنا تتقاطع اللغة الجنسيّة مع اللغة السياسية، تقول إحداهما الأخرى وتخفيها. لاحقاً نرى أنّ الذي يحميها هو المجنون. الذي تتساوى معه في الاستيلاب المطلق للتتر العربيّ منهم والمغوليّ. إذ ليست الوحشيّة الإنسانية دائماً خارجية أو تأتينا مع القوات الغازية.
يكشف المشهد الدرامي عن مدى عمق وجود مثل هذا التفصيل إلى جانب مجموعة أخرى من التفاصيل في الحياة الاجتماعية، التي لا يرد ذكرها في الخطاب السردي للمؤرّخ القديم، ليست الآلام الإنسانية أو الواقع الفعلي اليومي والدموي للتاريخ هو الذي يُقرأ، وإنما يًُحفظ الخطاب الرسمي، الذي يكتبه ذوو النفوذ السياسي وفق رؤاهم الشخصية لما هو خير أو شر. يُظهر التفصيل الدرامي كم أنّ خطاب المؤرّخ مؤسساتي، يبتعد عن الواقع، مُمثلاً بتغيبه لحضور المرأة، حضور يظهر بقوّة عبر التفاصيل المتخيلة التي تحيل إلى واقع ترتبط به حتى درجات الالتحام. وكأنّ المرأة هنا تروي حكاية لم يذكرها التاريخ، فهي صوت غيّبه المؤرّخ المفترض انتماؤه إلى بُنية  فكرية/ اجتماعية مُحددة، تنتقص من دور المرأة، التي ترسم التفاصيل الدرامية صورتها، بشكل يرتفع عن المعاش ليقترب من الرمز الاجتماعي، هي الشرف وهي رجولة الرجل، هي الحلم المقتول “سعاد”، وهي الحب المغتال”خديجة”. إنها رمز المدينة، رمز الشام الجميلة، التي تحترق معها، وتُسلّم معها بعد أن تستلب.
الحكاية الجديدة :
قيّدت المؤسسات العسكرية الحاكمة في مُعظم البلاد العربية حرية العديد من الكتاب في التعبير عن انكساراتهم الشخصية والفكرية بعد  نكسة حزيران، إذ لم تدع مجالاً كبيراً للانتقاد،  أو لكشف الأسباب الحقيقة التي أدت إلى الهزيمة العسكرية.
حالة ونوس الصحيّة بعد اكتشاف إصابته بدرجة متقدمة من مرض السرطان، ساعدته على إنجاز أفضل أعماله الفكرية والفنيّة، وهي (مُنمنمات تاريخية- طقوس الإشارات والتحوّلات- الأيام المخمورة- الاغتصاب). إنّ اقترابه الحقيقي من الموت، من فكرة الفناء المطلق والغياب الكليّ، جعله حاسم الرؤية تجاه دوره كمثقف في المجتمع، كما تجاه موقفه من التاريخ الذي فرض عليه إعادة اكتشاف الذات بضوء علاقتها مع الآخر، الذي كان في الماضي أو الحاضر اليوم، وبالتالي إعادة طرح سؤال الهوية، الذي شكل دينامية وسمت المرحلة الممتدة من بدايات القرن الماضي إلى منتصف السبعينات. تمظهر من خلال التيارات الفنية والأدبية المختلفة التي ظهرت، والحركات السياسية والتعددية الفكرية.
فهم الحاضر تطلب العودة إلى الماضي للبحث فيه عن نتائج هذا الحاضر. والماضي بالنسبة لونوس خاضع لسطوة المقدّس، فالتاريخ العربي بقيوده ووثائقه الرسمية هو تاريخ البطولات والأمجاد، حيث لا توجد هزائم أو خيانات. رحلة ونوس في مُساءلة الماضي بدت أشبه بـ”الرحلة إلى الداخل” التي تحدّث عنها المفكر العربي إدوارد سعيد، كاستراتيجية لإعادة  الكتابة التي تساهم في تشكل الهويّة الجديدة. (بالنسبة لفانون، من الضروري ليس فقط إعادة خلق الهوية القومية والوعي في عملية تفكيك الاستعمار بل أيضاً المسير إلى ما هو ابعد وخلق وعي اجتماعي في لحظة التحرر. ويصبح الوعي الاجتماعي هو الأكثر أهميّة)”4 “.
تفكك كتابة ونوس ثلاث تيمات كبرى، هي صورة العالم  “ابن خلدون”، المدينة “دمشق”، والرمز “نهر بردى”. يرى ونوس أنّ “الشعوب المعوّقة، والتي تتعثر في تلمسها للمستقبل هي التي تحتاج إلى تمجيد ماضيها، والتغني المتواصل بهذه الأمجاد، وفي هذه العملية يتم تزوير الماضي، فالتشدّق المتواصل بهذه الأمجاد، يُعطي الحاضر امتلاءً زائفاً”. (5)
“ابن خلدون” هنا شخصية تاريخية، توضع موضع المساءلة الوطنية، والسؤال يمتد إلى مثقفي اليوم. وبهذا يُسقط ونوس تيمة القدسية عن الشخصيات الرمزية في تاريخنا القوميّ، فالجميع يُساءل أمام الوطن. ويؤسّس لنظرة تتصف بالموضوعية والأمانة العلمية في تعاملها مع التاريخ، بعيداً عن خلط الإنسانيّ باللاهوتيّ، حسب ونوس، بل مُحاولة معرفة تاريخنا كأفراد وجماعات بإيجابياتهم وسلبياتهم، ضمن إطار شرطهم التاريخي. فنجد شخصيات إنسانية فيها الضعف والقوة، يعيش بعضها على الألم وبعضها الآخر على الأمل. ولكنها جميعاً خاضعة لصراعها الإنسانيّ، ما بين وجودها “ككائن اجتماعي يُحدد مصيره تيار التاريخ ومُتطلبات النظام وعلاقات القوى في واقع مُعين. وبين قضية الإنسان نفسه كفرد يحاول الغوص في أعماق  وجوده والتوسيع من نطاق حريته الفردية” (6).
يناقش ونوس الأفكار من خلال مواقف مختلفة، موضحاً العلاقات التي تربطها، لتغدو هذه العلاقات على الرغم من الانفصال الظاهري في شكلها الدرامي ، مترابطة بحميمة داخلية  تنبع من ديناميكيتها، فالأحداث تجري  في لحظة زمنية واحدة بجوار بعضها، فاقدة الترابط الشكلي، لكنها مُتماسكة من الداخل، تماسك الحياة نفسها.
دمشق تلك المدينة القديمة، التي سقطت أسوارها ولم تعد لترتفع يوماً. يحاول ونوس في كتابته أن يُلزمها بإعادة التفكير بتاريخها تحت ضوء عملية تفكيك هويتها الزائفة، وتفكيك رموز هذه الهوية السلطوية، في بحث يحاول كشف أجزاء من التجربة الاجتماعية التي بقت بعيدة عن هيمنة أيديولوجيا مُعينة، حكمت دمشق قبل قرون كما حكمتها في ستينيات القرن العشرين. سعي ونوس إلى إعادة اكتشاف الذات مقرون فقط بالتمسّك الثابت بالحرية، الحرية وسيلة وغاية.
“بردى” دمشق، و”بردى” تاريخ الشام، “بردى” الرمز الملتبس في النص، يزداد  تدفقاً مع الانهيار المتتالي لمدينة دمشق، كإشارة إلى  “أنّ الزمن لن يتوقف، وأنّ هذه الهزيمة وهذه المجزرة على فظاعتهما، لن يقطعا السيرورة التاريخية. وبهذا المعنى فإنّ الأمل مُمكن رغمّ كل شيء” (7) .
يرى ونوس أننا أمة بلا تاريخ مكتوب، تاريخنا شفهي مبعثر هنا وهناك. يفتقد للصيرورة الزمنية وللترتيب، وهو في تكسيره للتيمات الاجتماعية السائدة، يرسم صورة جديدة لهذا التاريخ، ناتجة عن الزمن الذي يُباعد ما بين زمن الحدث وزمن الكتابة. مما يُفسح المجال للنظر إلى الحدث الماضي نظرة موضوعية أكثر، وعلى ضوء قيم وأفكار مختلفة تماماً.  التاريخ بالنسبة لونوس موقف أيديولوجيّ. تعاد قراءته مؤكدا في جدليته حوارا بين الماضي والحاضر، مهمته كشف الحاضر في تناصه مع الماضي، كمرحلة تاريخية محملة بكل إشكالياتها ووقائعها التي حدثت في زمنها، وهو الزمن الماضي. وبين وعي الواقع الراهن  للكاتب والقارئ، المتأثر بالمنظومات المعرفية الجديدة للفكر الإنساني. رؤية التاريخ باعتباره جزءاً من الحاضر من خلال رؤيتنا المعاصرة له، أي بعيداً عن التناول المتحفي، وهي ما أسماهُ فوكنر “الزمن الأسطوري”: أي اكتشاف أبعد عمق ممكن وراء اللحظة الحاضرة، أو مزج الحاضر بالماضي. (8)
الهوامش:
1- الشريف (ماهر) : سعد الله ونوس و”منمنمات تاريخية”، نادي القراءة، المنتدى الاجتماعي، دمشق /4-11-2005/، ص 256.
2- المرجع السابق نفسه،ص266-267.
3- المرجع السابق نفسه،ص281.
4- أشكروفت (بيل)، أهلواليا (بال) : إدوارد سعيد “مفارقة الهوية”، تر: سهيل نجم، مر: حيدر سعيد، دار نينوى- دار الكتاب العربي، دمشق /2002-2000/، ص 161.
5- الشريف (ماهر) : سعد الله ونوس و”منمنمات تاريخية”، نادي القراءة، المنتدى الاجتماعي، دمشق /4-11-2005/،ص 266-267.
6- فايس (بيتر) : اضطهاد واغتيال جان بول مارا، ترو تق: يسري خميس، سلسة  “مسرحيات عالمية”، عدد (43)، وزارة الثقافة، القاهرة /1967/، ص13-14.
7- الشريف (ماهر) : سعد الله ونوس و”منمنمات تاريخية”، نادي القراءة، المنتدى الاجتماعي، دمشق /4-11-2005/،ص 265.
8- فايس (بيتر) : اضطهاد واغتيال جان بول مارا، ترو تق: يسري خميس، سلسة  “مسرحيات عالمية”، عدد (43)، وزارة الثقافة، القاهرة /1967/، ص 10-12.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى