صفحات أخرى

الفقـر قــدراً

null


حسام عيتاني

يخرج الغلاء من جوف الارض، يتسلل كظلال غامضة فارضا نفسه على لوحات الاسعار في المتاجر والافران والصيدليات. لم يعد الغلاء عارضا يرافق التضخم أو الركود أو أي من علامات تعثر الدورة الاقتصادية في البلاد. صار هو الدواء لكل ما يخطر على البال من ضرورات.

في الحالة اللبنانية، تساهم عشرات العوامل في استعصاء معالجة مشكلة الغلاء التي تكاد تطيح بما يشبه انتظام الحياة اليومية: ارتفاع أسعار النفط عالميا الى مستويات قياسية، تراجع واردات الدولة نتيجة الازمة السياسية والهزات الامنية المتعاقبة، استمرار مشكلة المديونية العامة الهائلة من دون حلول، انكماش السوق اللبناني الداخلي، تقلص التحويلات المالية من اللبنانيين في الخــارج، تعرض الزراعة الى المزيد من الأعباء من زيادة أسعار الإنتاج، الى ترافق تشجيع التصدير مع إقفال باب الاستيراد ما يجعل السلع الزراعية نادرة.

بعض المشكلات المذكورة أعلاه ترتبط بالتطورات السياسية التي يشهدها لبنان منذ ما يزيد عن الثلاثة أعوام. بعضها الآخر ليس سوى صدى أزمات عالمية تتجاوز مفاعيلها لبنان، غير أنه يتشارك في تحمل آثارها مع الكثير من الدول الفقيرة مثله.

لكن الفرادة اللبنانية تتدخل هنا ايضا وتضفي على كل الوضع الاقتصادي المأساوي الآخذ في التفاقم والتدهور، بعداً قدرياً، فلا تعود الدعوات الى تصحيح الأجور في القطاعين العام والخاص تتسم بأي مغزى عندما تخرج من حيز المطالبة «النظرية»، أي تلك التي تتعاطى مع الارقام المتعلقة بالتضخم وعدم حصول أي تغير في مستويات الأجور منذ اثني عشر عاما والارتفاع شبه اليومي لأسعار السلع الأساسية، بعدما أصبحت السلع الكمالية خارج إطار البحث.

تفقد الدعوات هذه أي معنى لها عند دخولها باب المطالب «العملية» القائمة على الأخذ بموازين القوى بين أطراف الإنتاج، بين النقابات وأرباب العمل والدولة. تسيطر هنا لغة سياسية تراوح مفرداتها بين الابتزاز والغش من جهة، والخيانة الصريحة من الجهة المقابلة. وفي ظل نقابات على ما نعلم ونرى، لا يستقيم الحديث عن تلاؤم القضية الاجتماعية مع أبسط أدواتها وأكثرها قربا الى البداهة. لذا، يجوز الحديث عن تخلي هذه النقابات عن المهمات التي كان من المفترض أن تشكل مبرر وجودها وانخراطها في صراع سياسي جعل من المبرر تماما اعتبار القضية الاجتماعية خارج «المجتمع»، بمعنى تعرضها الى الاختطاف من قبل الهيئات السياسية أو قل الأهلية ما دون الوطنية وما دون الاجتماعية، وبالتالي، استحالة قيامها بأي دور ذي مغزى في المجال الذي وجدت لتنشط فيه أساسا. وهذه هي الخيانة الصريحة.

الابتزاز يمارسه الطرف الآخر، الملوح بإقفال أبواب المؤسسات الاقتصادية المختلفة ما إن يظهر من يعلن اقترابه من الجوع الحقيقي. لسان حال أصحاب المؤسسات يقول ان على الأجراء توجيه الحمد والشكر الى أصحاب الأعمال الذين يضحون بالكثير لحماية عمالهم وموظفيهم، وان المطالبة اليوم وفي هذه الظروف الكارثية التي يعيشها لبنان بتحسين الرواتب أو حتى بتسديد الشركات والمصانع لمستحقات الضمان الاجتماعي عليها، ليس أكثر من طلب صريح بإغلاق المؤسسات وإلقاء العمال المطالبين بزيادة رواتبهم الى الشارع. وليس أوضح من هذا الابتزاز.

يطول الحديث عن أوجه الصح أو الخطأ في جدال طرفي الانتاج في لبنان، لكن المشكلة الاكبر تأتي من التشبث برفض معالجة قضية باتت تطال مئات الآلاف من اللبنانيين والقضاء على ما تبقى من طبقة وسطى، بذريعة أولوية تهدئة الوضع السياسي، واستئناف الترويج للتصور القائل ان المسألة المعيشية ترف زائد في هذه الظروف الصعبة، علما بأن عمليات تصحيح الأجور لم تتوقف في أقسى أيام الحرب الاهلية.

الأهم أن الامتناع عن تصحيح الأجور منذ العام 1996 كان نتيجة اتفاق ضمني يقضي بانفكاء الضغط الشعبي على الحكومات التي كان يترأسها الرئيس رفيق الحريري (وهو ضغط كان يندمج فيه الشق المطلبي الحقيقي مع الشق المخابراتي ـ السياسي، على ما هو معلوم)، مقابل تحقيق إنجازات سياسية واقتصادية ملموسة. تغير الوضع الآن تغيرا كبيرا، ولم يعد أحد ينتظر بزوغ فجر البحبوحة المحمولة على بساط الاستثمارات الخليجية. وانقضاء التوافق السابق يفترض العودة الى معالجات اجتماعية بواسطة الادوات المتاحة التي تمتلك الدولة قسما مهما منها. اذ لا معنى ان يبقى الانحياز الشديد للحكومة الى جانب دعاة جلب الاستثمارات وإطلاق دينامية إنتاجية جديدة، في الوقت الذي يبدو ان آليات هذا المشروع تنهار واحدة بعد الاخرى بفعل الصراع السياسي المستديم.

الظاهرة المرافقة لكل تبدل في حال اللبنانيين، هي نوع من القدرية الساذجة الممتنعة عن أي نظر «علمي» للأمور. بهذا المعنى، يبدو الغلاء وما يسبقه من مقدمات الازمة الاقتصادية ـ الاجتماعية الخانقة، كإفراز لبناني أصيل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى