أطياف ماركس… مرة ثانية
فالح عبد الجبار
العبارة التي افتتح بها كارل ماركس نصه المبكر «البيان الشيوعي»، وهو الكراس الاشهر في العالم، تكاد اليوم تنطبق على شخصه: «ثمة شبح يجول اوروبا…». التعديل الوحيد المطلوب هو: «يجول العالم». حسب تقارير المانية، ثمة اقبال هائل على مؤلفات الالماني الذي قضى في منفاه اللندني، وما كان له من وطنه سوى اللغة وتراث الفكر، فهو انسان كوني، لم يربأ بالاوطان. وليس ثمة حمية وطنية في إقبال الجمهور الالماني على «ابنه الضال»، بل ذعر كوني من انهيار النظام الاقتصادي العالمي. ليس الالمان وحدهم في هذا. فتدريس ماركس في المقررات الجامعية الاميركية بدأ بعد انتهاء الحرب الباردة. كما ان لندن الباردة صوتت له باعتباره اكثر المفكرين رواجاً عند قراء القرن العشرين. ولم تعد تكهنات ماركس حول التنظيم الاجتماعي للانتاج، محض اقوال عتيقة من ستينات القرن التاسع عشر، بل قول راهن يلهج به ليبراليون عتاة كالميلياردير الاميركي- المجري سوروس، او الرئيس الفرنسي ساركوزي، وغيرهما. ما كان هذا ليحصل لولا سعة الازمة الراهنة وعمقها، ولولا ان ماركس سيد تشريح الازمات الحديثة بلا منازع. لكن الاهم: لو انه تخلص من اعباء وخطايا اتباعه الذين انشأوا باسمه (وضده) بيروقراطيات انحدرت الى توتاليتاريات ومعسكرات تسمين بلا حرية.
يتفحص العالم الصناعي أوجاعه بحرية، دون خوف من غريم بأسنان نووية. من هنا جرأة ساركوزي في القول بان الرأسمالية انتهت، او ان الرأسمالية الصناعية التي ستخرج من الازمة لن تكون نفس ما كانته، او اقرار الليبرالي الاكثر جموحاً، جورج دبليو بوش، بالحاجة الى «ضوابط وتشريعات» لتنظيم اسواق المال، اي باللغة الماركسية، التنظيم والضبط الاجتماعي للانتاج والتبادل والتداول. لعل بوش الوحيد الذي يذكر مستمعيه بانه «مؤمن باقتصاد السوق»، وان الضوابط والاصلاحات ينبغي الا تمس أسسه، اي الحرية الفردية. ثمة بين الليبرالية والماركسية، كما كتبت مرارا، قرابة اكبر مما يظن، فكلاهما ينطلق من الاقرار بحرية التبادل على اساس القيم المتساوية في السوق، والمساواة الحقوقية، والسياسية. ولكنْ خلافا لاستاذه آدم سميث، يرى ماركس ان قانون سميث في تبادل المتساويات قائم في كل الميادين عدا المبادلة بين الرأسمال والعمل، وهو خرق لقانون المساواة.
كما يرى ان المساواة الحقوقية-السياسية التي نادى بها الليبراليون الديموقراطيون، تتعرض للانتهاك بفعل هذاه اللامساواة في التبادل. طموح او جموح ماركس هو توسيع المساواة ومدها من الحقل السياسي، الى الاقتصادي، اعتمادا على الثراء المادي والروحي للعصر الصناعي نفسه الذي سيختنق بفيض ثرواته (ابتكر ستالين خرافة «اقتصاد الشحة» لوصف الاقتصاد البيروقراطي البائس الذي اصطنعه مدخلاً لفردوس المستقبل). هكذا رأى ماركس الى نفسه ديموقراطيا حقيقيا، او ليبراليا متسقاً يدافع عن المساواة في التبادل (على اساس قانون سميث) بصورة جذرية، دفاعه عن المساواة القانونية والسياسية.
ثمة ليبراليون اقتصاديا لا يكترثون بالديموقراطية سياسياً، وديموقراطيون سياسيا، لا يكترثون بالمساواة الاقتصادية.
كيف تبدو الازمة الراهنة من زاوية ماركس؟ لن تدق ساعة الثورة الاجتماعية البروليتارية، فما من طبقة عاملة مستلبة، جاهزة للتحرك. الطبقة العاملة الكلاسيكية الكبرى في الغرب تضاءلت، ونمت عوضا عنها، الفئات الوسطى الحديثة، اما في الشرق، فانها لم تنمُ قط بما يكفي. الحفارون الكلاسيكيون لقبر الرأسمالية اختفوا من المسرح. ولن تبرز احزاب الطبقة العاملة التي رعى لينين فكرتها الحديدية، ولن تتحرك.
ومن جهة الماركسية الكلاسيكية، فالطبقات الاجتماعية لا تصنعها احزاب بل مؤسسات اجتماعية تنبع من النظام الصناعي ذاته، ولا يمكن لحزب او احزاب ان تحل محل مجتمع بأسره.
ولن «يتوسع المعسكر الاشتراكي» قط، فهو خرج من التاريخ منذ عقد ونيف. ومن جهة ماركس يبدو هذا «المعسكر» نقيضاً لفكرته عن الثورة الاجتماعية في البلدان الصناعية المتقدمة وليس الزراعية المختلفة، وكونها ثورة عالمية (كل المراكز المدنية) لا قومية (روسيا وجوارها). بل ان نشوء هذا المعسكر، يبدو الآن، بنظرة ارتجاعية: عرقلة لنمو الرأسمالية الصناعية كنظام كوني. وبمعنى عرقلة لتفتح ازمات هذا المجتمع، كيف تبدو الازمة وكيف تؤول كلاسيكياً؟
المنظور الكلاسيكي الماركسي رأى ان العصر الصناعي الرأسمالي يطلق قوى انتاجية هائلة لا مثيل لها قبلا، تكتسح القديم والبالي، تخلق، في مجرى تطورها، عقبات هائلة توقع هذا العصر في الازمة، لكنه يتخطاها، ويطلق قوى هائلة جديدة ما تلبث ان توصله الى أزمة جديدة، وهلمجرا. في مجرى ذلك يزداد الطابع الاجتماعي للانتاج، أي أدوات تسييره والرقابة عليه. لكن هذا النظام الصناعي برأي ماركس سيصل الى نقطة يعجز بعدها عن الاستمرار ما لم تتغير أسسه ذاتها. وفي كل هذا ثمة فاعل اجتماعي اساس هو: المنتجون الاحرار المتّحدون.
هذه خلاصة نظريته التاريخية، الخالية من العناصرالظرفية المعاصرة له كحركات طبقة عاملة وحركات اشتراكية. سير النظام الصناعي وازمته الآن يجريان في سياق مغاير للقرن التاسع عشر، وللقرن العشرين. الراغبون في لجم الرأسمال المالي، ابي الازمات، ليسوا العمال، لا «الطليعيين» ولا «غير الطليعيين»، وليسوا «الفلاحين» ولا «المثقفين الثوريين» الكاذبين منهم والصادقين، ولا «بورجوازيات وطنية»، بل جمهرة واسعة من المودعين المرعوبين، المخدوعين، وجمهرة واسعة من مقتني الرهون العقارية، وأخرى من زبائن المصارف، وصناديق التقاعد، وشركات التأمين، والمتقاعدين، من كل لون وشاكلة. تضاف اليهم قطاعات المجتمع الصناعي الخاسرة من سطوة اسواق المال وانفلاتها، وكل السياسيين المذعورين من انهيار النظام المالي فالاقتصادي بأسره.
الازمات الحالية، وعلى الارجح المقبلة ايضاً، أزمات بنيوية شاملة، تمس المجتمع بأسره بمن فيه المضاربون والصيارفة مشعلو الازمة. وهناك حاجة شاملة لاعادة التنظيم والضبط، وثمة اتفاق على هذا. ولعل ذاك التنطيم، اذا تكررت الازمات كما تكهن ماركس، يضع العصر الصناعي كله في نقطة تغيير أسسه كيما يستمر.
ابداع ماركس انه استشرف هذه الآفاق. لكنه اخفق في الكثير: مآلات الطبقة العاملة وتضاؤلها بدل نموها، صعود الدولة القومية كوحدة بناء العالم، نمو دور الدين بدل تضاؤله، الاشكال المتنوعة لانتشار الرأسمالية الصناعية، وغيرها. قطعاً نحن بحاجة الى ماركس لفهم الازمة، لكننا ايضا بحاجة الى كانط لفهم مشكلات تنظيم سلام العالم، والى ماكس فيبر لفهم الدين، والنظم الاجتماعية، والى دوركهايم لفهم تماسك وتفكك البنى الاجتماعية، والى نيتشه وتلامذته الفرنسيين (فوكو مثلاً) لفهم تعدد التمثلات، وهلمجرا. العالم مركّب لا مثيل له في تعقيده، واطياف ماركس تنير بعضه.
الحياة