الفوضى المتحكمة بفرنسا: هجوم على الضواحي أم مسرحة؟
يصعب تتبع خطوات الرئيس الفرنسي، لأنه يخرج بحدث جديد صاخب كل بضعة أيام. وما بدا حيوية وشبابا جذبا الفرنسيين إليه، خصوصاً بعد عقود من قيادة «خابية» ( العهد الثاني لميتران المريض جداً، ثم افتقاد شيراك للمعان القائد الذي يحبه أحفاد بونابرت)، راح أكثر فأكثر يظهر كتوتر بدأت تساؤلات جدية تثور حول مصدره ونتائجه، سيما وأن فرنسا تعيش أزمة طاحنة في كافة المجالات، وتشير دراسات جادة إلى هيمنة الكآبة والإحساس بالكارثة على الفرنسيين.
آخر تلك الأحداث الهجوم الذي شنته فرق خاصة مدربة على العمليات الكبرى ومكافحة الإرهاب على إحدى ضواحي باريس، ناحية «فيليه لو بل» التي كانت قد اشتعلت في الخريف الفائت اثر مقتل مراهقين من أبنائها صدماً بسيارة الشرطة. وما زال التحقيق يراوح مكانه، حيث لم يستمع المحقق بعد إلى الشهود. وكان الشابان يقودان دراجة نارية صغيرة، ويقول البوليس أنه لم يكن يطاردهما بل يقوم بدورية عادية، مما يعقّد نظرية فرارهما بلا سبب ثم عودتهما طوعاً نحو سيارة الشرطة واصطدامهما بها، وهي الرواية الرسمية. يومها طفح كيل سكان تلك الضاحية البائسة، من المهاجرين العرب والأفارقة (كالعادة)، وحدثت مواجهات مختلفة نوعيا عن المألوف. فقد اخرج بعضهم –واشترك الكبار للمرة الأولى في المواجهات – أسلحة الصيد لمواجهة دوريات الشرطة التي هرعت إلى المكان إثر بدء الاحتجاجات المعهودة، وهي غالبا قطع الطريق بالإطارات المشتعلة وإحراق بعض السيارات أو حاويات النفاية. يومها جرى استنفار قوات خاصة، بعضها محمول بالهليكوبتر التي استمر تحليقها لعدة أيام، تصوّر وتطلق قنابل مضيئة، بل قذائف دخانية وصوتية داخل البيوت، على ما أفاد شهود كثر. وامتدت المواجهات إلى عدة ضواحي، وحدثت، للمرة الأولى، مهاجمة لمراكز الشرطة. والمشهد يذكّر بلقطات أفلام عن حروب العصابات المدينية سقط من جرائه حوالى ثمانين شرطيا جريحاً، لكن السلطات اتخذت قرارا بالتكتم، والطلب من وسائل الإعلام عدم التطرق منعاً لإثارة ما أسمته «المحاكاة»، في تأويل غريب لأسباب اتساع انتفاضة الضواحي خريف 2005، حين تسبب حادث مشابه في اشتعالها على كل الأرض الفرنسية لمدة أسابيع متتالية، واحتراق ألاف السيارات والعديد من المباني العامة… وصدور عشرات الكتب والدراسات عن «المشكلة»، تعترف بجذورها وبحجمها وتعدُد أسبابها، وبالحاجة إلى مقاربتها وفق خطة وطنية، على رغم استمرار ساركوزي، وزير الداخلية حينها، في كيل شتائم من نوع «حثالة» لوصف أولئك الناس، وتوعدهم بالتطهير بالمبيدات، معتبراً أن المشكل أمني ويحل امنياً فحسب.
ورغم تصريحاته تلك وبعدها، راح يتكلم عن «خطة الضواحي»، التي أبصرت أخيراً النور قبل عشرة أيام من الهجوم على «فيليه لو بل»، فأُعلنت بكثير من الضجيج، لكنها ولدّت فأراً! فلم تحتوي إلا على قليل من المال الذي لم تحدد مصادر توفيره، وكثير من الـ»يجب» والـ»ينبغي»، والطلب من سكانها أن يتحملوا مسؤولية أنفسهم كمواطنين صالحين، والوعد بزيادة أربعة آلاف شرطي (وهو الأمر الوحيد المحسوس الذي أعلن).
هكذا يبدو الهجوم على تلك الضاحية، كما جرى، رصاصة الرحمة تطلق على مشروع انتُظر كثيراً، أو وسيلة استعراضية – مجدداً – لتجاوز الخيبة التي رافقت الإعلان عنه. واستمراراً لغرائب الحدث الأخير، اصطحبت هذه المرة القوات «المهاجمة» – أكثر من ألف ومائة جندي من الوحدات الخاصة – الصحافيين، فجرت تحت أعين الكاميرات عملية اقتحام المباني المتداعية، وشقق هؤلاء الفقراء، بحثاً عن تسع وثلاثين «مطلوبا»، جرى تحديدهم وفق إفادات شهود، تشير الصحف الفرنسية إلى احتمال أن تكون الشرطة دفعت أموالا للحصول عليها. واعترض عمدة تلك الناحية لأن… الصحافيين ابلغوه بما يجري! ودان سياسيون من المعارضة الطبيعة الاستعراضية للعملية، الجارية قبل شهر واحد من الانتخابات البلدية العامة، بينما صرحت وزيرة الدفاع بأنها فوجئت بالحضور الصحافي! وكادت تلغي العملية، وهو ما يقال له عذر أقبح من ذنب، إذ يدل، لو كان صحيحا، على تسرب خطير يستحق الاستنفار والتحقيق وسقوط عدة رؤوس كبيرة…
العيب في ما جرى ليس ذلك كله فحسب: ليس فحسب المقاربة الأمنية لمعضلة هائلة، تمتد في بعض زواياها إلى التاريخ الكولونيالي لفرنسا، فيما تكشف زواياها الأخرى فشل نموذج الصهر المواطِني الذي يقوم عليه مفهوم الجمهورية الفرنسية، كما تكشف عمق أزمة النظام الاجتماعية- الاقتصادية القائمة، وليس المنهج الاستعراضي المثير الذي تعتمده الإدارة الحالية، وحاجتها لحركة دائمة وخوارق تتسلى بها وسائل الإعلام أو تسلي الناس، وليس الحساسية المفرطة حيال حجم التأييد في الرأي العام، الذي بات يقاس شهرياً، والقلق عند تدنيه كما يحدث منذ فترة لساركوزي، والسعي لرفعه فوراً، وليس الشخصنة المتعاظمة للسلطة التي تضع الوزراء في مواقف حرجة وتشكل مادة تندر دائمة في وسائل الإعلام المختلفة، علاوة على توسل هكذا تحركات لتوظيفها في غايات «اصغر منها»، وأقل أهمية من زاوية أي قراءة رصينة، كالسعي للتأثير في الانتخابات البلدية الوشيكة التي يرجح أن يفوز فيها على مستوى بلدية باريس المرشح الاشتراكي… العيب هو في أن الحادث ينتمي إلى ما يمكن اليوم تسميته تخبط الإدارة الفرنسية.
واليكم بعض الأمثلة- غير الحصرية حتى بالنسبة لفترة الحكم الأولى هذه:
– يعلن الرئيس – فهو وحده من يعلن، مفاجئاً الوزراء المعنيين – إلغاء الإعلانات في التلفزيونات التابعة للقطاع العام. تثور ثائرة العاملين فيها، وتحدث إضرابات تحذيرية، وتتلعثم أمام الكاميرات الوزيرة المكلفة بإدارة قطاع الإعلام حين تسأل عن الموضوع، وتقول «الرئيس سيتدبره»، ثم يعود الرئيس عن جزء من قراره ويعدله، ويعلن عن «خطة» مفصلة سترى النور قريباً.
– يعلن الرئيس فجأة، وخلال العشاء السنوي للمجلس التمثيلي للطائفة اليهودية، عن نيته تكليف كل تلميذ من صف نهاية المرحلة الابتدائية- أي ممن يبلغون التاسعة أو العاشرة من العمر – رعاية ذكرى ولد من سنّه راح ضحية الإبادة النازية لليهود! وهو كان يظن أنه سيلقى إعجاب المجلس وتأييده. صعق هؤلاء وذعروا! فهم يدركون خراقة المقترح، ويعلمون تماماً أي وطأة على المجتمع سيثيره، مما لا يستبعد استثارة مشاعر معاداة السامية المختزنة لدى الفرنسيين العاديين. توالت الأصوات التي «تتحفظ»، وصولا إلى سيمون فايل، الشخصية الأبرز، والوزيرة السابقة التي يرتبط اسمها بانجازات كبرى، والرئيسة السابقة للبرلمان الأوروبي، والرئيسة الحالية لمجلس ذكرى الإبادة، وهي من تبنت ساركوزي أثناء حملته الانتخابية. فهي عارضت الاقتراح بوضوح وصراحة وقطعية. وكان الرئيس الفرنسي في العشاء نفسه قد حيّا هؤلاء المتدينين من غير اليهود الذين أنقذوا يهوداً خلال الحرب الثانية، مما دفع رئيس المجلس إلى تصحيح الجملة علناً، والقول إن عدد «العادلين» من غير المؤمنين الذين تطوعوا لحماية وإنقاذ اليهود وقتها «يثبت أنه لا يمكن اعتبار الإيمان الديني الدافع الوحيد لهذا السلوك الإنساني»!
– التخبط نفسه في ميادين الأعمال، حيث يعلن الرئيس رغبته اتخاذ ما يلزم من قرارات إعادة الهيكلة في الأصول الإجرائية لتخفيف الرقابة تقليصاً للبيروقراطية، في وقت تنفجر فضائح كبرى، آخرها قصة المضارب من بنك سوسيتيه جنرال الذي تسبب بخسارة بنكه خمسة مليارات يورو، وقبلها فضائح تعويضات رؤساء الشركات الكبرى التي بلغت مليارات هي الأخرى، في وقت يُطلب من الفرنسي العادي تقبل انهيار قدرته الشرائية و»العمل أكثر لجني أكثر»، وهو الشعار الرئاسي الذي أصبح موضع تندر عام. ثم يُعلن عن إعادة هيكلة الوزارات، بدءاً من تقييم فردي لكل وزير وفق مقاييس «العائدية»، الشعار الآخر الذي لا يكف الرئيس عن ترداده، فيبدو الأمر أقرب إلى العلامات التي تمنح للتلامذة…
لكن السؤال هو عن الوجهة التفكيكية التي تنتج عن هذا التخبط. إذ، عدا التسلية والفكاهة المريرتين هناك نتائج لا يمكن إغفالها لما يجري. ولعلها الطريقة الكوميدية الفرنسية لحمل الناس على ابتلاع التغييرات اللاحقة بنظام عيشهم وضماناته. هذا إذا كان واحدنا ما زال يصر على الجدية. وإلا فما عليه سوى القبول بالتفسير الذي تولى تقديمه كبير مستشاري الرئيس، كلود غيان، قبل الهجوم على تلك الضاحية، وقال: «اضطر الرئيس في الفترة الماضية إلى تخصيص بعض وقته لإدارة مشكلات وهموم شخصية، مما جعل الفرنسيين يشعرون أنهم لم يعودوا يمتلكونه كلياً».
يمتلكونه؟ في بلد الثورة وقبلها النهضة والأنوار!
الحياة – 24/02/08