هل ينجو الفايد بفعلته؟!
رزان زيتونة
لأن قائمة «المقدسات» غير الدينية، لا تنتهي، فتشتمل إلى جانب من هم على رأس السلطة، على أعوانهم وأقربائهم وأصدقائهم والمرضي عنهم، فإن قائمة الممنوع التحدث فيه تكبر وتتسع حتى تغطي الوطن كله، فيغدو الحديث في الاقتصاد مساساً بمصالح فئات مقدسة، والحديث في السياسة، خرقاً للمحرمات.
المصادفة خير من ألف ميعاد. نظري مثبت على خبر في إحدى المواقع الإلكترونية، وسمعي مشدود إلى تقرير إخباري تلفزيوني، هذا الأخير استأثر بانتباهي كله بعد قليل، لأعود بعده إلى الخبر الأول وأقرأ: «وفاة أكبر سجين في المغرب عن عمر 95 عاما، بعد قضائه ستة أشهر من فترة حكمه التي نصت على السجن ثلاث سنوات، لإدانته بتهمة المس بالمقدسات، بعد أن تلفظ بكلمات نابية بحق الملك». والرجل كما ذكر التقرير الإخباري، وهو مقعد يستخدم الكرسي المتحرك، اعتقل على خلفية وشاية شرطي ادعى أن العجوز قد تلفظ بكلمات نابية بحق الملك، عقب مشاجرة مع هذا الشرطي في إحدى الحافلات!
وعودة إلى ما كنت أسمعه عبر إحدى الفضائيات، حيث عرض التقرير الإخباري لما قاله والد دودي الفايد بحق أفراد الأسرة المالكة في بريطانيا، في معرض شهادته أمام لجنة التحقيق في مقتل ديانا ودودي. ومن بين ما قال، أن الأمير فيليب «نازي وعنصري… إنها عائلة مصاصي دماء، لقد كان توني بلير شريكا… وكذلك الأمير تشارلز… أعتقد أن ابني والأميرة ديانا قتلا». هذه الألفاظ والشتائم القاسية جرى تناقلها في جميع وسائل الإعلام البريطانية، ووالد دودي يبتسم أمام شاشات الكاميرات ويمضي في غضبه اللفظي حتى النهاية. ويؤكد أحد المعلقين الحانقين على تعليقات الفايد، بأنه «محصن من المساءلة لتلفظه بتلك الأوصاف في المحكمة»، والله أعلم، وأن «مثل هذا التصرف، معاقب عليه بالسجن في دول أخرى»، وهو محق في ذلك تماماً. فقد اتهم العجوز المتوفى إياه، بالتلفظ بتلك الكلمات النابية بحق الملك أمام «جمهور» ركاب الحافلة. بينما سبق وأحيل المحامي المعتقل في سورية أنور البني إلى محاكمة جديدة بسبب مذكرة تقدم بها أمام المحكمة ينتقد فيها إحدى الوزارات، قبل أن تسقط عنه التهم الجديدة أخيراً.
وقبل أيام، تحدثت منظمات حقوقية عربية عن الحكم بالسجن لمدة عام على ممثل كوميدي تونسي، بتهمة ملفقة تتعلق بحيازة المخدرات كما قيل، في حين يعتقد أن السبب الحقيقي هو «قيامه بالسخرية من رئيس الدولة». وللراغبين بمزيد من الأمثلة الرجوع للتقارير الحقوقية العربية.
بمعنى أن النقد أو الشتم – والأولى تأخذ معنى الثانية بالتبادل وفقا للمفاهيم العربية السلطوية- لرموز السلطة أو الحكومة، ممنوع في الحافلة أو المحكمة أو على الرصيف أو في السرير. «ذم وقدح» أو الإساءة إلى رئيس الجمهورية أو العائلة المالكة أو هيبة الدولة، هي من التهم الأكثر شيوعا في دولنا العربية. وهي تمتد لتشمل الأقوال، من النقد المكتوب عبر مقال وسواه، وحتى «فشة خلق» مواطن بائس، في حافلة ركاب أو مقهى. وإذا كانت العناصر القانونية – وفقاً للمواد القمعية المطاطة والقابلة للتأويل في قوانيننا المرعية- قد تنطبق على مقال، فإنه يجري شدها يميناً ويساراً وفي كل الاتجاهات، كي تنطبق على فرد تلفظ بعبارات في معرض حديث مع صديق أو شجار في الطريق، وانتقد فيها حكومته أورئيسه ولو حتى بلغت هذه العبارات حد الشتيمة.
ولأن قائمة «المقدسات» غير الدينية، ولهذه حديث آخر، لا تنتهي، فتشتمل إلى جانب من هم على رأس السلطة، على أعوانهم وأقربائهم وأصدقائهم والمرضي عنهم، فإن قائمة الممنوع التحدث فيه تكبر وتتسع حتى تغطي الوطن كله، فيغدو الحديث في الاقتصاد مساساً بمصالح فئات مقدسة، والحديث في السياسة، خرقاً للمحرمات، والحديث في الخدمات نكراناً للجميل وعقوقاً، وهلم جرا.
ولأن المراد من الإبقاء على حالة التقديس هذه، هو الإبقاء على حواجز الخوف والخضوع والشفاه المغلقة، فإن تعزيزها بمزيد من القوانين والإجراءات القمعية يغدو مطلباً ملحاً طوال الوقت وبلا انقطاع. حتى يبدو أن الغاية الأساسية لتلك القوانين والإجراءات، هي صناعة «مقدسات» وتعميم قدسيتها بالقوة ومن ثم المعاقبة على خرق هذا «المقدس». خاصة أنها تصبح في بعض أوجهها وسيلة للانتقام والتشفي من شخص لا نستلطفه، فلا يستلزم الأمر أكثر من ورقة وقلم أو مكالمة هاتفية، ومن ثم شهادة في المحكمة بعد حلف اليمين وشهادة تقدير لشاهد لم يشاهد شيئاً غير سوء ضميره.
وبعد، فما أحوجنا إلى إعادة تحديد هذه «المقدسات» وتحريرها من غاياتنا الدنيوية السلطوية، وسيف المساس بالمقدسات والرموز الوطنية وسواها، المصلت على رقاب العباد، لن يجعلهم أكثر احتراماً لأصحاب تلك الصفات. هل ندعو إلى حرية الذم والقدح؟ بل ندعو إلى إلغاء إسقاط هذا التعبير على وقائع لا تمت بصلة إلى مفهومه وغايته، بهدف إبقاء حاجز الخوف عالياً، والصمت عميقاً.
* كاتبة سورية