ملاحظات ساذجة على خطاب تلفزيوني ..ما المشكلة في أن يكون المرء مشكلة؟
بسام حجار
1
هناك كثير من الصراخ، والتحدّي، وتسفيه الخصم، والوعد والوعيد، والدمار والجثث، في خطب الممانعة.
علماً بأن المُمانعة (وهي دولة أو دول أو قوة منفردة أو قوى مجتمعة) هي ما توصف به السياسة السورية في المنطقة، منذ ردح من الزمن، وقوامها المقاومة اللفظية لعدو دهري يقترن بالتنصل من مسؤولية المواجهة المباشرة، والتصدي، بالوكالة، وبتدبير من أجهزة مخابراتها، لأعدائها الكُثر ومختلفي المشارب والإيديولوجيات، مناهضي “عروبتها” أو المتشككين بها، ومناصبيها العداء لـ “وصمة” (هي بشرية على الدوام بحسب الروائي الأميركي فيليب روث، أو نأمل أن تكون كذلك) في “نقاء” انتمائهم إلى الأمة.
والأمة هنا هي طبعاً الأمة التي يقودها اليوم “قصر المهاجرين“.
كلما تحدث ممانِع علا الصراخ متوعداً مهدداً.
ولا جدال في أن هذا الأمر طبيعي في كل كلام يخاطب حشوداً. فالجموع التي تحتشد مصغية بورعٍ وتقوى لا تعنى كثيراً بمضمون الكلام) فالكلام منوط بالخطيب الزعيم وخاصة إذا كان وعده، وكل خطاب هو مناسبة وعد، “صادقاً” (بل بنبرتِه، عالية أو خفيضة، هادئة أو حانقة، متسامحة أو متشددة.
مشكلتان تلابسان موقف البشر (من خارج الحشود) من النبرة العالية، هذه الأيام؛ الأولى تكمن في إصرار هذه النبرة على التناهي إلى سمعنا، ولو قَسراً، عبر النقل التلفزيوني المباشر، ثم إعادة البث (ما يسمى تجاوزاً بالقصف الإعلامي) إلى ما لا نهاية. والثانية تكمن في استغلاق مضمونها، ومنطقها، وحتّى مفرداتها، فلا يبلغ أي منها أفهام غير المنتمين إلى الحشد.
وغالباً ما يسأل المشاهد المستمع نفسه، بذهول غير مصطنع، ما الذي يحدو بالناس الغاضبين، لا بل المستسلمين لسورة غضبهم، إلى مخاطبة الناس، جميع الناس، بالنبرة الراعدة تلك، وهم، أي الناس، في سوادهم الأعظم، لم يقترفوا ذنباً. والمشاهد المستمع لا يدرِك، لعلة في حسن إدراكِه طبعاً، أن غرضاً من أغراض الخطابة الحماسية هو إشعاره بالذنب.
ذلك أن حزن المُخاطِب (أو غضبه) لا يستكين إلى فترة الحداد إلا إذا داخل روعَ المستمع من غير الحشود شعور بالذنب.
2
للمرة الثانية أو الثالثة، ولمناسبة اغتيال عماد مغنية، يؤتى على ذكر “اللعبة” و”قواعدها”. أو حرفياً “تغيير قواعد اللعبة”. يذكر من يذكر أن كلاماً مماثلا قيل أثناء حرب تموز سنة 2006. ما يجعلنا نقتنع، وإن بصعوبة، بوجود قواعد للعبة في نزاع حزب الله مع إسرائيل. أما من يضع هذه القواعد، ومن يغيرها، وكيف، وما الفرق ـ في أوجه التعاطي معها ـ إذا تغيرت أو لم تتغير، فهذه أمور تبقى في علم الغيب، أو في سر من حباه الله بكنه أسراره.
غير أن الحديث عن تغيير في قواعد اللعبة جاء هذه المرة مصاحباً لإيضاح زاد في التباس الأمر علينا.
اتهم حزب الله إسرائيل باغتيال عماد مغنية، وهو أحد أبرز مسؤوليه الميدانيين، في دمشق. واعتبر، على ما نحسب، أن اغتيال أحد قادته في دمشق هو تغيير لقواعد اللعبة.
وفي حدود علمنا أن حزب الله يتهم إسرائيل بجميع الاغتيالات التي ارتكبت في لبنان، منذ العام 2005 وما قبلها، ومع ذلك لم يتحدث يوماً، وفي حدود علمنا، عن تغير في قواعد اللعبة.
هل يقصد أن اللعبة لا تجري فصولها في لبنان، ولا توضع قواعدها فيه ؟
نفهم أن يضيف حزب الله، على لسان أمينه العام، بكلام لا تعوِزه الصراحة، أن إسرائيل نقلت حربها إلى ساحة المواجهة الرئيسية، أو شيء من هذا القبيل؛ غير أننا لم نفهم جيداً ما معنى هذا القول حتى لو حملناه على مجازه الخفيف.
هل يعني أننا طوال السنوات، لا بل العقود المنصرمة، لم نكن في لبنان سوى ساحة رديفة، أو بديلة، للمواجهة ؟ ولم لم يخض حزب الله مواجهاته على الساحة الرئيسية للصراع؟
هل كان حزب الله صادقاً في تحميلنا وزر المواجهات المدمرة لاعتباره أن ساحة صراعه الأساسية مع إسرائيل (ولأنه حزب لبناني، كما يصر ويردّد تكراراً) هي لبنان وجنوبه؟
إسرائيل بحسب حزب الله قتلت العشرات من القادة والمفكّرين والصحافيين والنواب والوزراء اللبنانيين، في لبنان، ولم تتغير، في عرفه، قواعد اللعبة آنذاك.
ثم فجأة تغيرت. لم؟
وفجأة تعلَن “الحرب المفتوحة” بأعلى الصوت، كأن الحرب المفتوحة، التي ستطاولنا جميعاً والمنطقة بأسرها ربما، هي شأن لا يملك قراره سوى حزب الله.
هذه أمور يود المرء حقا أن يعرفها، قبل أن يسلم بحق حزب الله في الشراكة الكاملة في تقرير مصيره.
3
يعيدنا ما سبق إلى أعجوبة ما يسمى بـ “ورقة التفاهم “.
والعود منطقي لا تخفى دوافعه:
ماذا تقول “ورقة التفاهم” عن إعلان “حرب مفتوحة” (أي شاملة وبالوسائل) بين حزب الله وإسرائيل؟
إلى الآن لم يعلق التيار الوطني الحر صراحة على ما ورد في خطاب أمين عام حزب الله في مأتم المرحوم عماد مغنية.
سمعنا الجنرال يتحدّث هو أيضاً عن خطورة الأمر. وعن حق حزب الله في الدفاع عن نفسه. أي أننا سمعنا مرة أخرى ارتباك الجنرال في اجتنابه الإجابة عن الأسئلة الفعلية.
كل ما في الأمر أن أعجوبة “ورقة التفاهم” اجترحت بقاء الجنرال في السباق السياسي بقوة ما عاد يستمدها، برأينا، ومنذ بعض الوقت، إلا من غموض “ورقة تفاهم” هذه، الخاضعة بنودها، وعلى نحو حصري، لتفسير حزب الله.
النائب سليم عون والنائب فريد الخازن، والسيد جبران باسيل وغيرهم من شخصيات كتلة التغيير والإصلاح، تحدثوا بكثير من الغموض والارتباك عن إعلان الحرب، الذي لم يفاجئ، بعد الاغتيال، أحداً سواهم.
كان هاجس رئيس الكتلة المذكورة في آخر إطلالاته المتكررة على شاشتي المنار والأورانج تي في الرد على من استبد بهم “هوس سياسي” ( على وزن “هوس جنسي”، كما أوضح هو نفسه ) بـ “مشكلة” الجنرال.
فالجنرال استطاع أن يعطل الحياة السياسية في لبنان، وبحسب قوله، شهوراً، فمن غير المنطق أن تخشى الأكثرية الثلث المعطل الذي ينفرد اليوم الجنرال بالإصرار عليه.
لتعترف الأغلبية أن الجنرال “مشكلة”. ومجرد اعترافها بذلك ينال الجنرال حقّه.
فهذا أمر لا يضيره، لا بل يؤكد مجيئه، مسلّحاً بورقة التفاهم، رقماً صعباً في المعادلة.
اللبنانيون حقاً شعب مثير للضحك، فما المشكلة في أن يكون السياسي مشكلة ؟
المستقبل
الاحد 24 شباط 2008