“التدوين” وديمقراطية الفضاء المعلوماتي
السيد يسين
ركزنا من قبل على نظرية المجال العام التي بلورها في العلم الاجتماعي المعاصر الفيلسوف الألماني المعروف “هابرماس”. والمجال العام يتوسط في الواقع بين مجال السلطة العامة أو الحكومة والمجال الخاص الذي قد يركز على الأسرة وشؤون الأفراد الخاصة. وهذا المجال العام -كما نشأ في المجتمعات البورجوازية الأوروبية- كانت تمارَس فيه المناقشات حول السياسات الحكومية، وفي رحابه تتبلور اتجاهات الرأي العام.
غير أن هذا المجال العام تم القضاء عليه في الدول الشمولية التي لا تقبل التعددية الفكرية، وتمت محاصرته في الدول السلطوية التي ضيَّقت الخناق على حرية الخلاف، وصادرته الدول الليبرالية كالولايات المتحدة الأميركية، كما رأينا في الحقبة الكارثية التي وُجهت فيها تهمة الشيوعية لأبرز المفكرين والمبدعين الأميركيين، وفي الحقبة التي نعيشها في ظل الفكر الفاشي لـ”المحافظين الجدد”، الذين تعبر عنهم أبلغ تعبير إدارة الرئيس جورج بوش.
ومن هنا -تحت تأثير الثورة الاتصالية الكبرى وفي قلبها شبكة الإنترنت- بزغ فضاء اجتماعي جديد يمارس فيه الكُتاب والمثقفون حريتهم في معارضة النظم السياسية التي ينتمون إليها، وهو الذي أطلقنا عليه الفضاء المعلوماتي Cyber Space.
وبرزت المُدوَّنات باعتبارها إحدى صور الممارسات الفكرية المستحدَثة، التي خلقت فضاءً اجتماعياً جديداً يتسم بالحرية المُطلقة، ويخلو من القيود والحدود التي تضعها النظم السياسية والحكومات. ومعنى ذلك أنه مع انهيار المجال العام التقليدي نشأ مجال عام جديد، يثير في الواقع عديداً من التساؤلات.
والواقع أن هذا المجال العام الجديد يتميز بأنه بتأثير الثورة الاتصالية أصبح مجالاً للمعلومات والمناقشة والمعارضة والصراع السياسي. وهذه الوظائف المتعددة خلقتها “الميديا” المتعددة الجديدة وتكنولوجيات الكمبيوتر، ومن شأنها أن تُعيد صياغة المجال العام بعد أن اتسعت آفاقه إلى غير ما حد.
ليس ذلك فقط بل إن الفضاء المعلوماتي Cyber Space أدى إلى إعادة النظر في مفهوم المثقف الملتزم والمثقف العام كما يؤكد ذلك “دوجلاس كلنر” في دراساته العميقة عن هذا التطور.
وهو يذكر بهذا الصدد أن الفيلسوف الأميركي المعروف “جون ديوي” سبق له أن طرح في بداية القرن العشرين فكرة مؤداها إنشاء جريدة مهمتها نشر أخبار “الأفكار الجديدة”، ويعني بها آخر أخبار العلم والتكنولوجيا والعالم الفكري، وإتاحتها للجمهور العام، لأن ذلك من شأنه -كما كان يقرر- نشر الديمقراطية. كما أن الكاتب المسرحي الألماني الشهير “برتولد بريخت” والفيلسوف “والتر بنيامين” سبق لهما أن اكتشفا الطابع الثوري الكامن في التكنولوجيات الجديدة، مثل الأفلام السينمائية والإذاعة، وشجعا المثقفين الراديكاليين على أن يجيدوا استخدام هذه التكنولوجيات، لكي تصبح أدوات لإضفاء الديمقراطية على المجتمع وتثويره إذا اتضحت الحاجة الماسَّة إلى ذلك.
ويبدو مصداق هذا التوجه في أن عديداً من الكُتاب الآن أصبحوا يفضلون مخاطبة الجماهير من خلال البرامج التلفزيونية، بحكم أن التلفزيون يشاهده كل الناس حتى الأميين منهم الذين لا يقرؤون ولا يكتبون. وبعبارة أخرى أصبحت الرسالة التلفزيونية أيّاً كان شكلها أوقع في التأثير من الكلمة المكتوبة، تماماً مثلما أصبح النشر الإلكتروني يزاحم بشدة النشر التقليدي.
ونحن نعرف أن الإذاعة والتلفزيون في عديد من البلاد كانت مغلقة أمام أصوات المعارضة، وذلك في الدول التي تهيمن فيها السلطة على “الميديا”، وحتى في الدول التي يهيمن فيها القطاع الخاص عليها. غير أن المثقفين الثوريين استطاعوا تجاوز هذه الحدود بإنشاء محطاتهم الإذاعية والتلفزيونية الخاصة، التي سمحت لهم بممارسة المعارضة للنظم السياسية القائمة.
غير أن ظهور شبكة الإنترنت أحدث ثورة في مجال الديمقراطية التشاركية لأنها خلقت فضاءات عامة Spaces جديدة سمحت للأصوات المتعددة بأن تعبر عن نفسها. ومعنى ذلك أن هذه الفضاءات العامة الجديدة أصبحت مجالات حيوية لنشر الأفكار النقدية والتقدُّمية، ومن ناحية أخرى يمكن أن تكون مجالاً للتحكم من قبل الدولة، حتى لو كان ذلك صعباً من الناحية الفنية وإن لم يكن مستحيلاً. ولابد لنا أن نلتفت إلى أن الإنترنت كفضاء معلوماتي يمكن أن تكون مجالاً لنشر الأفكار التقدمية، أو على العكس نشر الأفكار المحافظة بل والرجعية. وقد رأينا في العالم العربي مُدوَّنات دينية محافظة تنشر الفكر الديني الأصولي بالمعنى السيئ للكلمة، والذي يقوم على أساس القياس الخاطئ والتأويل المُنحرف للنصوص الدينية.
وإذا كانت شبكة الإنترنت بفضائها المعلوماتي الواسع الآفاق تقدم فرصاً جديدة للمثقفين التقدميين لكي يمارسوا النقد الاجتماعي المسؤول، ويقدموا رؤاهم لمستقبل مجتمعاتهم، إلا أنه لابد لهم -لكي يقوموا بشكل فعَّال بهذه الوظيفة- من إتقان كيفية التعامل الفعال مع هذه التكنولوجيات الجديدة. وفي ضوء ذلك علينا أن نؤكد أن شبكة الإنترنت ليست مقصورة على المثقفين التقدميين فقط، لأنها مفتوحة لأصوات اليمين والوسط واليسار.
ويمكن أن يستخدمها من يريدون تطوير مجتمعاتهم إلى الأفضل حتى تتعامل بكفاءة مع تحديات العولمة، وكذلك الرجعيون بل والإرهابيون الذين يستخدمونها لنشر فكرهم الإرهابي.
والدليل على ذلك أن هناك مواقع للجماعات الإرهابية على الشبكة تنشر برامج موضوعها “كيف تصنع قنبلة” أو كيف تستخدم السلاح! وليتأمل القارئ خطورة مثل هذه الرسائل القاتلة!
وإذا كانت الصراعات السياسية قد ظلت تقليدياً تتم في المجالس النيابية وفي المصانع والشوارع، إلا أنها في المستقبل -وفي ضوء إنجازات الثورة الاتصالية- ستُمارَس على شبكة الإنترنت ذاتها، كما رأينا في حالة المُدوَّنات السياسية المعارضة لاتجاهات النظم السياسية المختلفة، بما فيها المدونات العربية. فهذه المدونات تُحرَّر في سياقات عربية شمولية وسلطوية وشبه ليبرالية، تضع قيوداً متعددة على حرية التفكير وحرية التعبير. ومن هنا يلجأ المدونون إلى الفضاء المعلوماتي حيث لا قيود لكي يعبِّروا عن ذواتهم في المُدوَّنات الشخصية، أو عن معارضتهم لحكوماتهم في المُدوَّنات السياسية.
ونظراً إلى ذلك فعلى هؤلاء المهتمين بالسياسة كما ستمارس في المستقبل وبالتعبيرات الثقافية الجديدة أن يتابعوا بدقة المدوَّنات والمدونين و”الفيس بوك” وغيرها من التكنولوجيات الحديثة. والفكرة الجوهرية هنا أنه على شبكة الإنترنت يمكن أن نجد أفكاراً ورؤى الغرض منها خدمة الجماهير العريضة وليس خدمة المصالح الطبقية الضيقة للنخب السياسية الحاكمة، سواء كانوا من أهل السلطة أو من رجال الأعمال.
وسيؤدي هذا التطور إلى بزوغ نوع جديد من أنواع الديمقراطية هي ديمقراطية الفضاء المعلوماتي Cyber Space حيث سيتم تعليم الناس كيف يستخدمون شبكة الإنترنت، وكيف يحصلون على المعلومات، وكيف يكوِّنون آراءهم المستقلة، بدلاً من أن يكونوا ضحايا هيمنة “الميديا” بكل أنواعها كالجرائد والإذاعة والتلفزيون التي تسيطر عليها الحكومات. وهذه الديمقراطية الجديدة ستقوم على أساس تعدد الأصوات الفكرية، وعدم هيمنة التفكير الأحادي على عقول الناس.
والواقع أن ديمقراطية الفضاء المعلوماتي -باعتبارها شكلاً مستحدَثاً من أشكال الديمقراطية- تطرح على المفكرين والباحثين عديداً من الأسئلة. ومن أهمها مَن -في المستقبل- سيسطر على “الميديا”، وعن قدرة الجمهور على النفاذ إلى شبكة الإنترنت (لدينا هنا مشكلة الفجوة الرقمية) Digition gap.
بمعنى، مَن يملك ومَن لا يملك جهاز كمبيوتر يتيح له الاطلاع الدائم على الشبكة، وبالإضافة إلى ذلك هناك أسئلة خاصة بمسؤولية “الميديا” وطرق محاسبتها، وكيفية تمويلها وتنظيمها. ومن ناحية أخرى هناك موضوعات بالغة الأهمية من بينها ما هو نوع الثقافة التي من شأنها أن تنمِّي الحرية الفردية والديمقراطية وتمنح السعادة للناس، وتساعدهم على تحسين نوعية حياتهم.
هذه كلها أسئلة وإن كانت تتعلق بالمستقبل إلا أنه لابد أن نثيرها منذ الآن. وفي تقديرنا أن أهم موضوع يستحق مناقشة عميقة هو نوع الثقافة الذي ينبغي تنميته في عصر العولمة، التي تميل القوى الدولية المتحكمة فيها إلى تقنين ثقافة رأسمالية -إن صحَّ التعبير- لا تركز على الحاجات الإنسانية الأساسية، ولا تحترم بالقدر الكافي الخصوصيات الثقافية. وإذا كانت هناك اتجاهات لصياغة ثقافة كونية فعلينا أن نراقب هذه العملية برؤية نقدية، حتى لا تصاغ على حساب القيم الثقافية لحضارتنا العربية الإسلامية.
جريدة الاتحاد