المغني العالمي خوليو أغلاسياس في بصرى الشام
حفـل أسطـوري أفسدتـه دقـة التنظيـم
راشد عيسى
ابتعد السوريون عن عاصمتهم ١٤٠ كم جنوباً أمس الأول، حيث حفل المغني الإسباني العالمي خوليو أغلاسياس في مدرج بصرى الأثري الروماني، ومن لم يستطع منهم الحضور لعله كان مشدوداً بصورة ما إلى مناسبة استثنائية بهذا الحجم يحتضنها بلدهم. كل ما في الحفل استثنائي، بدءاً من اسم المغني، الذي لم يكفّ أثناء الغناء عن شكر سوريا، إلى دقة التنظيم البالغة، إلى نوعية الجمهور أيضاً.
ساعة ونصف الساعة غنى فيها خوليو، أعاده الجمهور مرتين إلى الغناء بعد أن أعلن النهاية. بدا الحفل مستعاراً من مكان وزمان آخرين. لا شك في أن المكان ألقى بهيبته الأسطورية ظلالاً عميقة من الشاعرية والرومانسية. زاد من روعتها نصف قمر أطلّ من سماء المدينة. الاستماع غالباً هو السائد. نقصد أن مشاركة الجمهور كانت أقل. فحركة المغني الستينيّ (مواليد العام ١٩٤٣) محدودة، وضيقة الخطوات، وغالباً ما غنى جالساً على كرسي، حركته لم تستطع أن تستنهض الجمهور، بمثل ما يفعل النجوم الشبان الذين يملأون المسرح بلهيب الرقص. ولو أن خوليو حاول أن يستعيض عن ذلك بالكلام come in Syria، راح يردد أثناء الغناء. ولكن للسينوغرافيا دورا أكبر، ولنا في حفل أنريكه أغلاسياس، نجل خوليو، العام الماضي في دمشق مثال. لقد بُني المسرح حينذاك في الهواء الطلق، ومَدّ المصمم بلسان من الخشبة إلى الجمهور، كان أنريكه حينها في كل لحظة بين أيدي الناس، فيما لا يمكنك أن تلتقط صورة لخوليو قريباً من الجمهور، خصوصاً مع نصف الدائرة (الرهيبة) الفاصلة بين خشبة المسرح والمدرج، والتي تلقي بروداً واضحاً في حفل من هذا النوع. هذا بالإضافة إلى الحشد المختصر (ثلاثة آلاف متفرج في مكان يتسع لخمسة عشر ألفاً)، فلقد عمدت الشركة المنظمة إلى توظيف جزء من عدد المقاعد فقط. كان بالإمكان أن توَظَّف كلها، ليستوعب المسرح ضعف العدد مع أسعار أقل (هناك ثلاث فئات للأسعار: مئة دولار، مئة وخمسين، مئتين). لكن تلك الأسعار كان لها دورها في تحديد نوعية الجمهور، لم يكن ذلك الجمهور الذي نعرفه في الاحتفالات الجماهيرية، في مسرحية فيروز مثلاً، ورغم أن الأسعار قريبة من أسعار خوليو، لاحظنا جمهوراً شعبياً، لعلّه تخلى عن جزء من لقمة العيش لصالح الذكرى الفيروزية، أما هنا فلا، بدا الجمهور مضبوطاً ومختاراً بعناية. ذلك كله خلق مسافة من البرود والاستماع دون المشاركة. الحشد ضروري أحياناً، من دونه خسرنا جرأة في الرقص، وجرأة في مشاركة الغناء. ولو أن الاستماع كان عميقاً في مرات قليلة، خصوصاً في أغنية الختام، حيث تُرك الغناء للجمهور، فبدا كأنه يقول ترتيلة ولا أجمل. إنها مشاهد من العمر حقاً.
المهذبون في العرض
خوليو غنّى بالإسبانية والإنكليزية والفرنسية، أغنيات يعرفها الجمهور في الغالب. وكان عبّر عن سعادته بإحساسه أنه يغني لثلاثة أجيال، وراح يتخيل أن أجداد الحضور وآباءهم قد مارسوا الجنس على إيقاع أغنياته. ولعله كان يتوقع شيئاً مماثلاً راهناً حين طالب الجمهور بأن يقودوا سياراتهم على مهل. غنى »نوستالجي« و»Crazy in love with you«، و »موراليتو«، و«مانويلا» وسواها. كما غنى دويتو بالانكليزية إلى جانب مغنية من الكورال، الذي رافقه رقصاً في كثير من الأغنيات، وقد دخل الرقص إلى الحلبة مرافقاً خوليو، في رقصات التانغو، والتشاتشا.
حفلة خوليو جزء من جولة عالمية له تتضمن تركيا وبوخارست والجبل الأسود وسواها، وقد جاءت بترتيب من شركة »نينار«، وهي شركة إنتاج فني وحفلات وعلاقات عامة، وبرعاية شكلية اسمية من احتفالية »دمشق عاصمة الثقافة العربية«. وقد قال أحد المنظمين إن الحفل غير ربحي، فهو يهدف إلى إحياء وتسليط الضوء على الأماكن السياحية. لكن الأهم هو أن سوريا اليوم إكثر إدراكاً من أي وقت مضى بأهمية الثقافة والفن في تحسين صورة سوريا، وربما في كسر طوق العزلة السياسية، وليس غريباً أن يبدأ، على سبيل المثال، تطبيع العلاقات الفرنسية السورية بالثقافة أولاً. ولا نحسب أن عروض فيروز في دمشق، وحفلات زياد الرحباني في آب القادم بعيدة عن هذا الهدف.
بقي أن نقول إن حفل خوليو »الأسطوري« في بصرى الشام أفسدته حقاً دقة التنظيم، خصوصاً مشهد أولئك الحراس مفتولي العضلات الذين جاؤوا بقصد تخويف العباد. كان بإمكانهم على الأقل تمويه تلك الشراسة الظاهرة، لكنّا لا نعتقد أن أمر الفن يستوي مع استعراض عضلات كهذا، ولا سيما أن المنظمين اختاروا سلفاً جمهوراً من أولئك المهذبين القادرين على دفع مئة دولار وما فوق.
(دمشق)
السفير