صفحات ثقافية

الأنوثة في فكر ابن عربي»: الحبّ أصل العالم

null
كمال المهتار

«لقد صار قلبي قابلاً كلّ صورة/ فمرعى لغزلانٍ ودير لرهبانِ/ وبيت لأوثانٍ وكعبة طائف/ وألواح توراة ومصحف قرآنِ/ أدين بدين الحبّ أنّى توجّهت/ ركائبه، فالحب ديني وإيماني»، بهذه الأبيات نطلّ من نافذة الشعر على وجدان متصوّف العربية الأشهر محيي الدين ابن عربي المعروف بالشيخ الأكبر وسلطان العارفين والكبريت الأحمر، في كتاب الباحثة المغربية نزهة براضة، الصادر حديثاً لدى «دار الساقي»، والذي تلقي فيه المؤلفة الضوء على إنتاج متصوّف شغل العالم العربي بمؤلّفاته وآرائه الصوفية منذ حوالى ألف عام ولم يزل.

يخبرنا التاريخ عن ابن عربي أنه ولد في مورسيا بالأندلس، والتقى ابن رشد فيلسوف العربية الأشهر وناظره وتلقّى علومه على يد أكابر أهل الفقه واللغة، واتجه إلى التصوّف منذ صغره بعدما همّ بحياة اللهو، وخدم المتصوّفة الشهيرة فاطمة بنت مثنى القرطبية سنين عديدة، وكانت تقول له: «أنا أمك الإلهية»، واعترف لها بالولادة عليه، نعني الولادة الروحية، دون أن يعترف لأحد من الرجال المتصوّفين بهذه الولادة، ليبدأ رحلته الشهيرة بعد ذلك إلى مكّة ويلتقي الشيخ مكين الدين الأصفهاني ويعشق ابنته نظام أيّما عشق، ووضع لأجلها ديوان شعر هو «ترجمان الأشواق» وقد وصفها بقوله: «عذراء هيفاء، تقيّد النظر، من العابدات العالمات السائحات الزاهدات، شيخة الحرمين…»، وتنقّل بين المتصوفين في رحلاته. بعد ذلك أكمل حياته سائحاً في الأمصار، وتعرّض للمضايقات والمتاعب في مصر وصلت حدّ محاولة اغتياله، ففرّ إلى دمشق بعدما كَثُر مريدوه من الأمراء وذوي المراتب العليا والعامّة، ووضع مؤلفات عديدة أهمّها كتاباه المشهوران: «الفتوحات المكّيّة» و«فصوص الحكم» وتوفّي فيها ودُفن في قاسيون.

في هذا الكتاب تقدّم المؤلفة خدمة جليلة في توضيح فكر ابن عربي، بعدما ظلّ موضوع الأنوثة مطوياً (وإن تناولته أبحاث ودراسات الباحثين التي لم تعطه حقّه من البحث والدراسة والكشف) مدّة طويلة وتمّت دراسة النواحي الأخرى من فكره كموضوع الإنسان الكامل والحقيقة المحمّديّة، وإهمال هذا الموضوع الإنساني الذي لايقلّ ضرورة وأهمية عن الموضوعين السابقين، ربما لقلّة الباحثات واحتكار الذكور لمهمّة البحث هذه! غير أننا، وبعد قراءتنا لكتاب نزهة براضة، لانجد مهرباً من الاستشعار بأهمّيته وتصويبه البوصلة المعرفية عبر تشريح الطريق وتسهيله على القارئ للنظر إلى عمق فكر رجل بقي صادقاً لمعتقده ومؤمناً به، إلى درجة لايمكننا أن نفصل بين حياته وأفكاره أثناء مطالعتنا لكتاباته إذا أردنا فهمه فهماً صحيحاً.

الأنوثة كقضية

اعتبر ابن عربي الأنوثة قضيته المركزية، شغل نفسه بها طوال حياته، محاولاً التخفيف من حدّة الصدامية بين مفهومَي الأنوثة والذكورة، وذلك عبر جمعهما في مصطلح واحد، طريقه الحبّ، ألا وهو القَطبية التي تؤلف مبدأ الإنسانية التي تعدّ هي الكمال. ونستطيع القول إن ابن عربي ميّز بين ثلاثة أنواع من الحب: الحبّ الطبيعيّ والحبّ الروحيّ والحبّ الإلهيّ، كما حاول الشيخ الأكبر تصحيح المفاهيم بعدما قلبها وأرساها على أسس لا مجال للشك بها، نعني القرآن والسنة والأحاديث النبوية من مثل آيات: «وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كلّ زوج بهيج» (سورة لقمان، الآية: 10)، «وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى» (سورة النجم، الآية: 45)…، وأحاديث للرسول من مثل: «حبّب إليّ من الدنيا: النساء والطيب وجعلت قرّة عيني في الصلاة»، وقال أيضاً: «إنما النساء شقائق الرجال»…، وذلك لإثباته أن مبدأ الزوجية لايتضمن التمييز والتفاضل بين الطرفين، وقد لاقى ابن عربي من جرّاء ذلك معارضة شديدة من علماء الدين والفلسفة بلغت عند ابن تيمية حدّ التكفير الخالص لأنه -بحسب زعمهم- خالف الشرع وأنكر العقل.

إمامة المرأة

لدى معاينتنا نصوص ابن عربي بفكر منفتح ومتجرّد، نرى ارتكازه الجلي على الشرع والعقل، كما نشاهد الحضور المكثّف للآيات القرآنية والأحاديث النبوية والتي اعتمد عليها، إضافة إلى الكشف العرفاني، في إطلاق آرائه وتصحيح مفاهيم المقولات الدينية والمجتمعية السائدة عن المرأة، فنقرأ في معرض رفضه للحجاب لجهة تمييز الحرة عن الأمة، أو لجهة التفريق بين الذكر والأنثى عبر معيار الجنس لأن هذا المعيار فيه حطّ من قيمة الإنسان: «لو كان الستر للمرأة أصلاً لما قيل لها في الإحرام لا تستري وجهك»، كما نقرأ قوله في موضوع الإرث لجهة حظ الذكر وحظ الأنثى: «أشار الحق بـ(…) قوة المرأة وضعف الرجل بصورة الميراث، فأعطى الأكثر للأضعف كي يقوى من جهة الضعف ومن جهة النشء…»، ومواضيع عديدة شكلت إشكاليات في المجتمع الإسلامي كموضوع الإمامة والتي هي حكر على الرجل في المفهوم العام رغم عدم اتفاق الفقهاء عى حصرها بالرجل، فجاء ابن عربي ليتطرق إلى مواضيع تعطي الأنثى أهميتها وكينونتها ووجودها. يقول ابن عربي: «فمن الناس من أجاز إمامة المرأة على الإطلاق بالرجال والنساء وبه أقول، ومنهم من منع إمامتها على الإطلاق، ومنهم من أجاز إمامتها بالنساء دون الرجال. الاعتبار في ذلك: شهد رسول الله لبعض النساء بالكمال كما شهد لبعض الرجال، وإن كانوا أكثر من النساء في الكمال وهو النبوّة، والنبوّة أمامة، فصحت إمامة المرأة والأصل إجازة إمامتها…».

ابن عربي والحبّ

يعدّ الحب لدى ابن عربي الدافع الأقوى والأساس في إنشاء الحياة والحفاظ على ديمومتها وذلك بالانجذاب والاستحسان بين الذكورة والأنوثة في سبيل بلوغ الغاية ألا وهي الكمال، والكمال هو صفة الله، والله هو أصل هذا الكون ومسبّبه وعلّة وجوده، وبلوغ هذه المرتبة هي تشبّه بالحق واقتداء به، إضافة إلى رؤيته لصور الموجودات في الموجودات الأخرى من حيث هي تجلٍّ لأسماء الله في موجوداته، وهذا التصوّر يدفعنا إلى التعجب من فكر هذا المتصوّف الاختراقي والإنساني الشامل من حيث تقدّمه على المتصوفين والمفكرين في هذه النظرة إلى المرأة والوجود، ما جعل فكره الرؤيوي يصل إلينا رغم هذه السنوات كلّها، بوهجه وإشكاليته.

بالطبع، سنظلم هذا الرجل ظلماً كبيراً إذا ما تناولنا مؤلفاته من وجه واحد، لأن فكره لا يقوم إلا على الإحاطة بكليته، فهو يعترف بين المتقابلَين ويثبت النقيضيَن لأنهما من مظاهر الحقّ وضرورة وجودية غير خاضعة للتفاضل. ولا بدّ من استعمال التأويل لاستظهار المعاني ومتابعة عملية توليدها لدى المتصوّف والمتلقّي على حد سواء، فالمتصوّفون يعتمدون اعتماداً كبيراً على الاختزال والرمز والإبهام، وذلك لأسباب تحفظ أسرارهم، ولا تعلنها سهلة مباشرة، كي لا تفقد بريقها وتألّقها، كما قد دفعهم حرصهم على حياتهم إلى استعمال هذه الطرق، خصوصاً بعد صلب الحلاج المتصوّف الكبير.

«الأنوثة في فكر ابن عربي» كتاب قد لا تُسرّ به الذكورة العربية كثيرا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى