مدن عملاقة تقوم على ركائز هشّة
نشرت مجلة “بيزنس ويك” (عدد تشرين الأول 2010) تقريراً موسعاً عن حال المدن العربية ومستقبلها، منه نقتطف:
من يتأمل في الواقع الراهن للمدن العربية، لا تفوته الحال الحرجة التي وصلت إليها. ففي ظل النمو السكاني المطرد، الذي لا تولّده الزيادة الطبيعية فحسب بل أيضاً موجات الهجرة الوافدة والنزوح الكثيف للعمالة من الأرياف، بات العديد من هذه المدن حاضرات مليونية تتمدد بصورة عشوائية في كل الاتجاهات، في حين أن بعضها، كالقاهرة مثلاً، حجز موقعه بين كبريات مدن العالم. وفيما يتواصل تمدد هذه المدن وتكتظّ بالمقيمين فيها، يضيق الخناق على هؤلاء يوماً بعد يوم، باعتبار أن التضخّم البشري والعمراني غير المنضبط يجعل منها مدناً غير قابلة للعيش، لا تتسم إلا بالفوضى المدينية المتمثلة في المباني العشوائية والأحياء المكتظة والضوضاء والازدحام المروري، فضلاً عن التلوّث وقصور مرافق المياه والصرف الصحي والخدمات الأخرى، في حين تغيب الكهرباء أو الاتصالات أو الطرق المعبّدة عن أحياء برمّتها. ويزيد في الطين بلة تفاقم الأزمات الاجتماعية كالبطالة وارتفاع معدّلات الجريمة وانتشار أحزمة الفقر. يقول جورج عطاالله، الشريك في Booz&Co. المتمركزة في بيروت: “لقد وصلت مدننا العربية الى مرحلة حاسمة من عمر تطوّرها. وإذا لم تفكّر الحكومات في إيجاد حلول سريعة للمشاكل الآنية، قد تواجه مشاكل يستحيل حلها”. ويضيف: “إننا نقف أكثر فأكثر أمام مدن عملاقة لكنها عاجزة عن تلبية احتياجات سكانها”.
لكن الحكومات العربية لا تقف مكتوفة اليدين أمام هذا الواقع، ويسعى العديد منها بخطى حثيثة الى نفض الغبار عن المدن العربية البالية. ولم يوقف مدّ الأزمة الاقتصادية والمالية الخطط الرامية الى تحديث هذه المدن وجعلها أكثر قابلية للعيش. وتمتلئ جعبة هذه الحكومات بمدن اقتصادية ومجتمعات ذكية وجزر اصطناعية وقطارات أنفاق وجسور معلّقة، فضلاً عن مصانع ومحطات لإنتاج الطاقة وجامعات حديثة ومدن طبية، من شأنها أن تغيّر المشهد العمراني المدني في العالم العربي خلال العقود المقبلة. أكثر من ذلك، تشرك الحكومات القطاع الخاص أكثر فأكثر بوضع الخطط العامة للمشاريع التنموية الكبرى في المدن وتنفيذها.
ويُترجم ذلك بمبادرة العديد من الحكومات الى وضع مساحات واسعة من الأراضي قد تصرف المستثمرين سواء للاستخدام التجاري أو الصناعي، وتقديم التسهيلات اللازمة إليهم من بنى تحتية وتمويل وامتيازات مالية وحوافز ضريبية.
وتبرز الطاقة في طليعة الملفات الشائكة على هذا المستوى. وتتجه بلدان المنطقة الى تبني حلول الطاقة على اختلافها، التقليدية والمتجدّدة، لسد الحتياجات المتنامية للمدن من الكهرباء. فأبوظبي مثلاً تعتزم تشييد أربعة مفاعلات نووية لإنتاج الطاقة بحلول العام 2017، وأعلنت كل من الكويت والسعودية ومصر والأردن عن خطط مماثلة لتوفير الطاقة من المصدر النووي.
وتخطط أبوظبي لإنتاج سبعة في المئة من احتياجاتها من الطاقة عبر موارد الطاقة المتجدّدة بحلول العام 2020. وهي تبني ثاني أكبر مصنع في العالم لإنتاج الطاقة الشمسية، وتسعى الى تطبيق برنامج لتعزيز انتشار الألواح الشمسة فوق أسطح المنازل.
وتكثّف البلدان العربية استثماراتها في مشاريع تحلية المياه. ففي السعودية، فازت شركة كورية جنوبية بعقد قيمته 1,5 مليار دولار لبناء محطة جديدة لتحلية المياه في رأس الزور الواقعة في شرق البلاد. وستكون المحطة عند انطلاق تشغيلها أكبر محطة تحلية للمياه في العالم. وتخصص المحطة بعض إنتاجها لخدمة شركة معادن، في حين ستغذي منطقة الرياض والنعيرية وحفر الباطن والقيصومة والخفجي. ويُقدّر أن العالم العربي مقبل على عجز مائي كبير يساوي 261 مليار متر مكعب بحلول العام 2030.
وتستحوذ المواصلات على المزيد من الاهتمام الحكومي. ويجري تطوير نوعين من المواصلات في المدن العربية، أولهما يعزّز في داخلها. ويبرز هذا الاتجاه بوضوح في أبوظبي والرياض والدوحة وغيرها. وتتضمن خطة أبوظبي للعام 2030 تنفيذ مجموعة مداخل الى الجزيرة على مراحل متعددة وإنشاء شبكة مترو، فضلاً عن ربط أبوظبي بالإمارات المجاورة سواء بالطرق أو بالسكك الحديدية. وتعتزم السعودية تنفيذ شبكة مترو الرياض في السنوات الخمس المقبلة الى جانب مشاريع للسكك الحديدية تربط بين المناطق الداخلية السعودية كما تربط تلك بمحيطها. أما قطر، فمن مشاريعها إنشاء مترو الدوحة ومطار الدوحة الدولي الجديد وجسر يربط بينها والبحرين، فضلاً عن مشروع السكك الحديدية المشترك بين بلدان الخليج.
تخصص بلدان الخليج 26 مليار دولار لتطوير شبكات النقل العام على اختلافها، في خطوة تهدف الى تعزيز التحوّل نحو استخدام النقل العام. ويؤدي الاستخدام المكثّف للمركبات الى اختناق حركة المرور ويفاقم مشكلة التلوث ويؤدي الى تدهور الأمان فوق الطرق، ما يبطئ النمو الاقتصادي ويقوّض نوعية العيش بالنسبة الى سكان المدن.
وتتوقع منظمة الأمم المتحدة أن تتحول 90 في المئة من المناطق السكانية في بلدان مجلس التعاون الخليجي الى مناطق حضرية بحلول العام 2025، مقابل نسبة عالمية لا يزيد متوسطها عن 57 في المئة.
وأقرّت الكويت خطة تنموية بقيمة تفوق مئة مليار دولار تنفّذ في أربع سنوات. وتتضمن الخطة إقامة مشاريع بنى تحتية ومشاريع في قطاعي الصحة والتعليم. وبموجب الخطة، ستقدّم الحكومة تمويلاً بنسبة 50 في المئة للمشاريع العتيدة، على أن يتم توفير النسبة المتبقية من قبل مستثمرين من القطاع الخاص.
وتشجّع مدن عربية عدة تشييد المباني الذكية. ويتجلى هذا المظهر العمراني في دبي وأبوظبي والبحرين ومدن سعودية عدة. وتخطّط السعودية لتشييد مبان ذكية بكلفة 40 مليار دولار بحلول 2018، طبقاً لبيانات أصدرها معرض البناء السعودي 2010 الذي سيلتئم في الرياض في الشهر الجاري، ويُقدّر قيمة قطاع المباني الذكية في بلدان الخليج بما يفوق 300 مليار دولار.
وتخفّض المباني الذكية الأكلاف التشغيلية وتقتصد في استهلاك الطاقة، لكن البدر يرى فيها أيضاً “فائدة اقتصادية من حيث خلق الوظائف نتيجة تشجيع استثمارات القطاع الخاص، وفائدة اجتماعي تجعل المدينة جذابة للعيش بتطوير الممرات والمتنزهات والحدائق، وفائدة بيئية بالتقليل من أثر النمو السكاني على البيئة المدينية”.