هزم البلد وانتصرت القضية
بلال خبيز
لنا أن نتفكر ملياً في معنى أن يخرج القنطار في هذا الوقت بالذات. فلو أنه خرج في وقت غير ملائم، وما أكثر الأوقات غير الملائمة لمن كان مثله، لوجد نفسه في خانة المهمشين الذين يجهدون للاختفاء بين الحشود ولا ينجحون، لأن الحشود تعتبرهم دخلاء ومتطفلين.
خرج سمير القنطار من سجنه الطويل. خرج ومازال في ثياب الميدان. يريد أن يثبت أن القضية التي سجن لأجلها مازالت تستحق تكرار التجربة المرة؛ تجربة الأسر والتعذيب. وهو في الحقيقة لا يحتاج إلى كبير جهد ليثبت ما يود اثباته. فحرارة هذه القضية تنتقل من جيل إلى جيل. والثابت في تجربة الرجل ومعاناته، أنه ذهب إلى السجن عضواً ناشطاً في حزب سياسي- عسكري، وخرج منه عضواً في حزب آخر. الأحزاب تتغير وتتبدل، لكن القضية تبقى على حرارتها.
ليس سمير القنطار وحيداً في مذهبه هذا، ولا متفرداً في ما يعتقده ويجدد اعتقاده. الحزب الذي كانت له اليد الطولى في تحريره من الأسر تكونت نواته الأولى من ناشطين في أحزاب أخرى. بعض هذه الأحزاب بلغ سن التقاعد القانونية، وبعضها أوقفت تصاريف القضية خفقان قلبه، وبعضها الآخر مازال حياً إلى حين. وليستمر حياً تلون بكل لون وتمذهب بكل مذهب، فقارع أبطال القضية «إياها» زمناً وناصبهم عداء مستحكماً، ودافع عنهم أزمانا أخرى، وليتمكن من النجاة كل مرة، كان يتلون مع ما يعتقد أنه اللون الذي سيسود ويتحكم.
مقاتلو زمن حرية القنطار التي سبقت أسره كانوا متعددي المشارب. لكنهم في غالبهم الأعم كانوا يصدرون عن مبادئ وأفكار كانت يومذاك رائجة في دنيا العرب، وفي العالم على حد سواء. وكثيراً ما بذلوا دماً في سبيل نصرة مبادئهم. ذلك أن النضال في بلاد كالتي نحن منها، يتوجه دائماً بوجهين على الأقل. ثمة الصراع، مسلحاً أو غير مسلح، ضد المشروع الإسرائيلي ومن يواليه من وجه أول. وثمة الصراع ضد السلطان المحلي، بهدف نقل البلاد التي نحن منها من عالم الظلمة إلى عالم النور. هكذا تعاقب على القتال ضد المشروع الإسرائيلي مناضلون من كل لون. وكان ثمة دائماً من يقترح على المجتمعات الاجتماعية والسياسية أفكاراً للاهتداء بها ونظريات للتطبيق، من الماركسية إلى الفكر القومي العربي، مروراً بكل الأفكار القومية الأقل شأناً وتطلباً، وصولاً إلى الأصوليات الإسلامية. وكل طرف من هؤلاء حمل أفكاراً و«حاجج» من أجل إقناع الناس بها وتجنيد المناضلين في سبيلها. وكثيراً ما تبادلت الأطراف المتصارعة تهم التخوين في ما بينها. إلى حد أن معارك التخوين بين الأشقاء كانت تبدو في بعض الأحيان أعنف وأشد شراسة من وقائع النزال مع العدو الإسرائيلي. وربما يكون مثل أحداث غزة الأخيرة واضطرار بعض مقاتلي حركة «فتح» ومسؤوليها إلى الهرب نحو العدو طمعاً في النجاة من نار الشقيق قاطع الوضوح في سياقه هذا.
إذن عاد سمير القنطار إلى بلده وأحبائه، ووجد وجهاً من وجهي النضال الذي انخرط في مندرجاته حياً ومنتصراً. لكنه على الأرجح لم يجد من رفاق الأمس الذي كان يقاتل معهم يوم اعتقل وسجن، من يستطيع تنظيم استقبال حاشد له، يجعله يشعر أن سنوات السجن لم تذهب هباء، وانه لم ينفقها سدى. وهذا -والحق يقال- أصاب الكثيرين غيره ممن سبقوه إلى التحرر من الأسر. إذ لم يكن متيسراً للمناضلين الذين اعتقلوا في سجون إسرائيلية أن يتم استقبالهم حين تم تحريرهم بالحفاوة التي استقبل بها القنطار. بعضهم خرج من المعتقلات الإسرائيلية في الوقت الذي كانت فيه حروب الإخوة في بلده ساخنة إلى حد مكّن هؤلاء الإخوة من نسيان الأسرى المحررين. وبعضهم أيضاً لم يجد من يهديه زياً عسكرياً أو يسمح له باعتلاء منبر، ليس لنقص في الفصاحة، بل لنقص في الشروط التي تسمح له باعتلاء منبر.
على هذا، يمكن لنا أن نتفكر ملياً في معنى أن يخرج القنطار في هذا الوقت بالذات. فلو أنه خرج في وقت غير ملائم، وما أكثر الأوقات غير الملائمة لمن كان مثله، لوجد نفسه في خانة المهمشين الذين يجهدون للاختفاء بين الحشود ولا ينجحون، لأن الحشود تعتبرهم دخلاء ومتطفلين.
من سوء حظنا في البلاد التي نحن منها، أن نجبر على المرابطة في جبهتين ساخنتين على الأقل. جبهة داخلية وأخرى خارجية. وما إن نغلب هدفاً على آخر، وكلاهما ملح؛ حتى يتهمنا البعض بالتخاذل والخيانة. فمن يقدِّم معركة الداخل على الخارج يصبح خائناً للقضية، ومن يقدِّم معركة الخارج على الداخل يخون البلد الذي هو منه. أما توخي العدل والإنصاف بين وجهي القضية والنضال، فأمر مازال مستعصياً على مناضلينا وسياسيينا وقادتنا الذين نفديهم بدمائنا.
* كاتب لبناني