الدولة اللبنانية المعلّقة
خالد غزال
أن يوصف بلد في القانون الدولي، أو في الحياة السياسية، بأن دولته معلقة، يعني بداهة أن هذا البلد محكوم بالفوضى والاضطراب اللذين يستوجبان وضع اليد عليه، وإخضاعه للوصاية، بما يمنع الضرر عن سكانه من احتراب القوى المتصارعة داخله، كما يتم الحجر عليه لمنع امتداد فوضاه إلى بلدان أخرى. تعرف بلدان متخلفة مثل هذا الواقع في أكثر من مكان. لكن هذا الوصف اليوم يطول بلدا طالما تغنى بالديمقراطية والريادة في حقوق الإنسان، فإذا به أمام نقاش لواقع دولته، فيه من «العجائب» القانونية والدستورية التي ندر أن عرفها بلد آخر.
بعد تأليف ما سمي بحكومة الاتحاد الوطني، انصب قسم واسع من نقاش البيان الوزاري على كلمة «الدولة» ومرجعيتها في قرارات الحرب والسلم، وفي استرجاع سائر الأراضي اللبنانية، وبالتحديد أكثر على رفض كلمة «في كنف الدولة». لم يكن النقاش «بيزنطيا» وعلى «جنس الملائكة» بمقدار ما كان يعكس من خلافات جوهرية حول مفهوم الدولة، وكيف يراه كل طرف من أطراف الصراع، وكيف يجب أن يوظفه في «إستراتيجيته» الخاصة، ولو كان الأمر يتعلق بالهيمنة الكاملة على هذه الدولة.
إذا كان النقاش اليوم يتخذ منحى المطالبة بسيادة الدولة على كل الأراضي اللبنانية والحد من سيطرة «دويلات الأمر الواقع»، وهو مطلب وطني لبناني بامتياز، فإن ذلك لا يمنع من التذكير بأن وجود الدولة وفعلها وتمثيلها للمشترك العام كان ولا يزال نقاشا فعليا وسياسيا منذ قيام الدولة نفسها وتكريس استقلالها في العام 1943.
أوجد الميثاق الوطني الاستقلالي «دولة منقوصة» عندما قسّم الصلاحيات المنوطة بالدولة بينها وبين الطوائف، وبما غلّب في النهاية موقع هذه الطوائف في القرارات المصيرية. ساهمت الحرب الأهلية في تفكك الدولة بوصفها مؤسسات تعبر عن حد من الوحدة، وتحولت الدولة إلى «دويلات الأمر الواقع» التي عملت حثيثا على انهيار الدولة لمصلحة مؤسساتها الجديدة. فمارست السلطة من جميع جوانبها، أمنا وجباية مالية، ولم تبق للدولة الفعلية سوى شكليات التمثيل الخارجي والإطار العام، على أن تقبل بأن تكون أضعف السلطات.
شكّل اتفاق الطائف تسوية أنهت الحرب الأهلية الساخنة في البلد، لكنها قامت على محاصصة طائفية ومذهبية أفدح في نتائجها السلبية من التسوية الطائفية الأولى في العام 1943. وشكلت السنوات التي تلت هجوما على الدولة بالمعنى الحقيقي، «فتناتشتها» الطوائف وسعت كل منها إلى تحصيل المقدار الأكبر من المنافع ولو كان ذلك على حساب العام. لم يمكن لمناسبتين استقلاليتين فعليتين أن تسهما في إحياء موقع الدولة مجددا، هاتان المناسبتان كانتا الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب العام 2000، والانسحاب السوري من لبنان العام 2005، ويعود السبب الرئيس إلى غياب منطق تغليب الدولة لمصلحة الخاص المتمثل بالطوائف.
منذ فترة غير قصيرة، يعاني البلد توجها هادفا إلى تمكين دولة أمر واقع ذات غلبة طائفية من الهيمنة، ولو بالقوة على الدولة وقراراتها ومؤسساتها. ليس الأمر جديدا على البلد الذي شهد محاولات طوائف للهيمنة، فانتهت «مشروعا انتحاريا» تسبب في دمار البلد والطوائف نفسها. لأن الطوائف يصعب عليها تجاوز كونها واحدا من مكونات البلد، وإن همها يظل مشدودا إلى إلحاق البلد بها، وهو واقع أظهرته صراعات الطوائف منذ الاستقلال، والذي كان وراء حروب أهلية متتالية، فإن الواقع اللبناني اليوم لا يشكل نموذجا مختلفا عما عرفه في العقود السابقة. إن السعي إلى تغليب دولة الأمر الواقع سيؤسس مجددا إلى مشاريع حروب أهلية جديدة تحوي في داخلها «مغامرات» و«مشاريع انتحارية» وستكون عواقبها وخيمة على مجمل البلد.
في تاريخ تكوّن الدول، وفي تاريخ العلم السياسي، تبدأ الدولة «فكرة»، ثم تتحول إلى واقع. يمثل النموذج اللبناني حالة خاصة أقل ما يقال فيها إن «الدولة» اليوم أشبه ما تكون بـ«فكرة» تحتاج إلى أن تتحول لواقع بعدما أطيح بكل مقوماتها. إنها دولة «موجودة بالقوة»، بالمعنى الفلسفي، أي ممكنة الوجود، وتحتاج إلى تحول الفكرة إلى فعل. ما يعني أن البلد يعيش اليوم في ظل «دولة معلقة»، لا تبشر الصراعات الدائرة ونظرة الطوائف إلى موقع الدولة بأي تفاؤل قريب في الإفراج عن الدولة.
لا تقوم الدولة اللبنانية من دون تسليم جميع القوى المتصارعة بالتنازل عن هذا «التوحش» في قضم كل ما يمت إلى الدولة بصلة. ولا تتأسس دولة من دون تسويات بين الطوائف لمصلحة «المساحة المشتركة» بين اللبنانيين والتي لا دولة من دون الوصول إليها. في ظل وصول الأزمة اللبنانية إلى هذا المستوى من التدهور، وفي ضوء استخدام طرف طائفي السلاح لحسم الخلافات الداخلية، والإصرار على فرض منطقه الخاص لمعنى الدولة ولكيفية تكونها ومسارها، وفي ظل سيادة منطق الطوائف والحفاظ على مواقعها بأي ثمن، لا يبدو أن لبنان مقبل على الانتقال من التعاطي مع الدولة كفكرة إلى التحول نحو الدولة كواقع.
يعيش اللبنانيون اليوم خوفا وقلقا من بقاء الدولة اللبنانية «معلقة»، ومن إمكان الغياب المتمادي لوجودها وسلطتها لحساب سلطات فئوية إلى أي جهة انتمت. ذاق اللبناني الطعم المر من حكم الميليشيات خلال الحرب الأهلية ومن السلطة الاستنسابية للقوى المسلحة. لذا لم يكن غريبا أن اللبنانيين قبلوا في العام 1989 بحكم الطائف، على رغم رؤيتهم للمخاطر التي يحملها في إعادة مأسسة البلد وتوزيعه حصصا على الطوائف والمذاهب، لا لسبب إلا لأنه ينهي الحرب الأهلية ومعها حكم الميليشيات. لذا لا يبدو غريبا اليوم هذا التعطش الذي يشعر به اللبناني العادي أو غير المستفيد من حكم الطوائف، إلى الدولة، وعودة مؤسساتها وقواها الأمنية، وسلطتها على كامل الأراضي اللبنانية.