ما يحدث في لبنان

السـفارات لا تكفـل إقامـة الأخـوّة

null
لؤي حسين
ربما، بعد بعض الوقت تبدأ المياه بين سوريا ولبنان بالعودة إلى مجاريها. والإشارات إلى ذلك تبشّر بأن هذه المياه قد تفيض من شدة دفقها الجديد عن المجاري التي عرفها البلدان منذ أصبحا بلدين عضوين في أكثر من هيئة دولية وإقليمية بعد استقلالهما عن الاستعمار الفرنسي. فقد ينفتح بينهما المجرى الدبلوماسي، الذي طالما كان مطلبا لقسم من اللبنانيين ومرفوضا بالمقابل من أغلب السوريين. وعلى الأرجح أن يواكب فتح هذه المجاري، قديمها وجديدها، خطابات تحت ـرسمية أو تحت ـ إعلامية من كلا الطرفين، ومن أطراف أكثر، تنسب لنفسها أو لحلفائها النصر بهذا »الفتح«؛ وقد نشهد عراكا بين هذه الأطراف على أبوّة هذا النصر، لن يخلو من الاختلاف على تسميته وتوصيفه.
لكن مع ذلك سيؤكد الطرفان أن الدم لا يصير ماءً، وأنه لا يصح إلا الصحيح، وأن المشروع الأميركي قد سقط وفشل في فك عرى الأخوّة وشق أواصرها. وسيعمّ الإعلام بروتوكولات مصافاة النفوس وخطابات التأكيد على أصالة أخوّة البلدين والشعبين، وعلى تَميُّز العلاقة بينهما عن علاقة أي منهما بأي بلد آخر شقيقا كان أم صديقا، أو حتى عدوا: إذ إن العلاقة »المميزة« بين البلدين جعلت حتى العداوة بينهما متميزة، حيث بلغ العداء بين البلدين (أو بين أطراف في البلدين) حد التآمر ومحاولة الإلغاء والإسقاط وتخوين كل من يتعامل مع الطرف الآخر/العدو، ولم يتوانَ الطرفان عن زج بعض الأشخاص في السجون، وصارت العداوة بينهما شرعية وقانونية بحيث اعتد بها القضاء السوري الذي لم يتردد بتوجيه تهم لشخصيات ثقافية وسياسية سورية بالتعامل مع جهات وأطراف لبنانية رسمية وغير رسمية على أنها جهات عدوة، وأصدر أحكاما بالسجن على من ثبتت عليه مثل هذه الاتهامات، من دون الاعتبار إن كان هذا التعامل محض تعامل ثقافي، أو إن كان المُدانون مثقفين تربطهم بمثقفين لبنانيين »أواصر« ثقافية »أخوية« »مميزة«.
هذه التجربة العدائية »الأخوية« التي لم تنته بعد، وإن كان العمل على إنهائها قائم بشكل جدي من الدولتين اللبنانية والسورية وبمساعدات شقيقة وصديقة، تستدعي إعادة التفكير بالأوصاف الطنانة وبالمصطلحات الرنانة التي اعتاد كل ذي شأن في البلدين إطلاقها، بمناسبة وبغير مناسبة، لتوصيف عمق وأصالة العلاقة بين البلدين والشعبين الجارين. فالأخوّة والتميز و»سوا ربينا« والقرابة والأصول والمصير الواحد الخ، سقطت جميعها في التجربة الخلافية الأخيرة، ولم تستطع الثبات في حماية العلاقة بين البلدين من الانهيارت المتتالية والمفجعة. وعلى الأرجح لن يكون بمقدورها، ولو أضيف لها المصالح المشتركة والتبادل الدبلوماسي والمجلس الأعلى، من أن تحول دون سقطات أخرى قد لا تقتصر على إغلاق الحدود وتقطيع الاتصالات وكيل الاتهامات واعتقال الخونة، بل الخشية من أنه كلما زاد الإطناب بتميّز العلاقة بين البلدين كلما اشتدت العداوة حين يقع الخلاف. مع أن الخلاف بين أي كيانين سياسيين أمر طبيعي، لكن الامر غير الطبيعي هو أن يتحول هذا الخلاف خلال لحظة، لحظة واحدة، إلى عداوة وكره وبغض وتآمر… الخ.
الرئيسان اللبناني والسوري يدشنان بداية المرحلة الجديدة القادمة. وتنبئنا الأخبار والقراءة بين السطور وتفسير التصريحات أن المرحلة القريبة القادمة ستأخذ منحى جديدا مبنيا على اعتراف الدولة السورية بشكل رسمي باستقلال لبنان، وسيترسّم ذلك بزرع سفارات متبادلة في العاصمتين: دمشق وبيروت. هذا الأمر يثير استغراب ودهشة البعض في كلا البلدين؛ ويشكك بعض آخر بإمكانية حصول هذا الاعتراف بعد رفض سوري وتنكّر وتهرّب طيلة عقود استقلال البلدين.
تعدد القوى ووسائل الإعلام وتوفر حرية التعبير في لبنان يتيحان لنا الاطلاع على نقاشات تدور بين مرحب بهذه الخطوة وبين مستهجن لها. إلا أن نقاشا سوريا في هذا الموضوع يبدو منعدما أو تحت السمع. فمثل هذا الموضوع ليس شأنا للعامة ولا للخاصة في سوريا، إذ هو حكر على القيادة السياسية الرسمية. ولكن حتى إن علت أصوات النقاش في الأوساط اللبنانية فهذا لا يعني أنها معنية بصناعة مثل هذا القرار الذي هو حكر على قيادات سياسية أبدية كما السورية.
جانب من الحوار اللبناني يتناول النقاش في جدوى الإبقاء على المجلس الأعلى اللبناني السوري أو إلغائه (بعض من هذا النقاش يعود للمناكفات بين القوى اللبنانية لا أكثر). حاجتنا إلى مثل هذا المجلس تحكمها طبيعة العلاقة بين البلدين وتعقيداتها وتشعباتها. وما بين البلدين الآن قد لا يحتاج إلى أكثر من سفير وثلاثة موظفين، وقد نشهد الكثير من قرارات سحبهم وإعادتهم في قادم السنوات. لكن إن كنا بحاجة إلى مجلس أعلى فيجب ألا يكون حكوميا أو رسميا بل أهلي صرف، وعلى ألا يكون دوره أن ينظم ويدير ما بيننا من علاقة مهترئة قائمة على النفاق والمزايدة، بل ليعمل على إنشاء علاقة متميزة بشكل حقيقي وأخوية بشكل صادق، وليس يقوم على ما بيننا من عرى وأواصر وتاريخ وأصل، بل على حاجتنا الماسة كجارين لصيقين جدا الى التعاون للارتقاء بشعبينا إلى حياة أفضل لجميع أفراد البلدين.
حاجتنا إذاً إلى مجلس أعلى تصنع هيئاته وتديرها قطاعات شعبية وأهلية لإقامة ثقافة أخوية وسياحة أخوية وشباب أخوي الخ. على أن تكون جميع هذه الفعاليات »نظيفة« من السياسة و»بريئة« من الأُطر الرسمية. فهو بذلك هيئة مدنية وإن لم يكن قوامها مؤسسات المجتمع المدني في البلدين، لانعدام مثل هذه المؤسسات في سوريا. وبالتالي فإن هذه المهمة، إن كانت مقبولة، تقع على عاتق فعاليات وهيئات لبنانية بعد أن تقتنع بعض النخب اللبنانية، وخاصة المثقفين، بأن لبنان لن يرتاح من نكباته إلا بتآخ صادق مع سوريا. فتطبيع العلاقات على المستوى الرسمي والحكومي لا يكفل توطيد علاقة أخوية واستقرارها واستمرارها، حتى بوجود اعتراف سوري باستقلال لبنان وبوجود سفارات يمكن إلغاؤها بجرة قلم، ولن يكون من الصعب العودة عن جميع الإجراءات التطبيعية الرسمية خلال لحظة، ولن تتردد الجماهير في الالتفاف حول قياداتها في مواجهة الأخوة/الأعداء في أي لحظة، وخلال لحظة. فهذه الجماهير استمرأت على ما يبدو أن تدفع ثمن وتكلفة العداوة حين تقع، وتكتفي بالفرجة على السلطات تجني ثمار الأخوّة حين تسود.
([) كاتب وناشر سوري

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى