لماذا تقصّد المعلّم “بَنـْشرة” زيارة سليمان؟
نصير الأسعد
خرج على مضمون البيان المشترك في موضوعي المزارع والمفقودين وضخ أحقاده على الأكثرية اللبنانية
في معظم المواقف من نتائج زيارة رئيس الجمهورية ميشال سليمان إلى دمشق والتي صدرت في الأيام القليلة الماضية، كان ثمّة تقاطعٌ على إعتبار تلك النتائج “هزيلة” بمعيار الانتقال بالعلاقات اللبنانية ـ السورية إلى مرحلة جديدة تكون فيها “صحيحة” وجدية.
التبادل الديبلوماسي “مباعٌ” مسبقاً إلى ساركوزي
صحيحٌ أن الزيارة إنتهت إلى إعلان التبادل الديبلوماسي على مستوى السفارة بين لبنان وسوريا، وهو ـ أي التبادل الديبلوماسي ـ مطلبٌ لبناني “تاريخي”. غير أنه لا يمكن القول إن هذا الإنجاز من ثمار الزيارة نفسها، لأن رئيس النظام السوري “باعه” في وقت سابق إلى الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في مقابل استمرار انفتاح باريس عليه. أما سائر المطالب اللبنانية الأخرى، فقد وردت في بيان مشترك يتضمن إحالتها إلى لجان.. وإلى الوقت.
دلالة “المجلس الأعلى” بجانب العلاقات الديبلوماسية
على أنّ ثمّة ما لم ينتبه إليه عديدون، يمثّل الموقف السوري “الحقيقي” و”الفعلي” من الزيارة.
ففي موازاة الإعلان عن إقامة علاقات ديبلوماسية، كان لافتاً تكليف الأمين العام لـ”المجلس الأعلى” اللبناني ـ السوري نصري خوري تلاوة البيان المشترك عن قمّة دمشق.
لا شك أن التفسير المباشر لهذا “التكليف” هو إصرار النظام السوري على إعلان تمسّكه بـ”المجلس الأعلى” بل فرض استمراره في وقت ثمّة مطالبة لبنانية على نطاق واسع بـ”إعادة النظر” في مبرّر وجوده في المرحلة التالية من العلاقات اللبنانية ـ السورية. وإلا كانت “الأصول” تقضي بأن تتم تلاوته من جانب وزير خارجية الدولة “المضيفة” في حضور وزير خارجية الدولة “الضيفة”.
المعلّم يخرج عن البيان المشترك
لكن وزير خارجية النظام السوري وليد المعلم، إضافة إلى المعنى السابق للتكليف، أراد أن يريح نفسه من “عبء” البيان المشترك ليدلي بمواقف من خارجه بل متناقضة معه وتنسفه.
وهكذا، فيما ينصّ البيان المشترك على “إستئناف أعمال اللجنة المشتركة لتحديد الحدود اللبنانية ـ السورية وترسيمها وفق آلية وسلّم أولويات يتفق عليهما بين الجانبين (..)”، سارع المعلّم إلى القول إنه “لا يمكن ترسيم مزارع شبعا في ظل الإحتلال الإسرائيلي”، مضيفاً أنّ “البيان كان واضحاً لجهة ان الاحتلال هو السبب الرئيسي في ما يجري.. ولا بدّ من إنهاء هذا الاحتلال” (!).
وفيما يتضمن البيان المشترك “تفعيل أعمال اللجنة المشتركة المتعلقة بالمفقودين من الطرفين وتكثيفها واعتماد الآليات الكفيلة بالوصول إلى نتائج نهائية بالسرعة الممكنة (..)”، سارع المعلّم بالرغم من ضحالة البيان لهذه الناحية، إلى اعتبار انّ “الموضوع شائك ومعقّد والبحث فيه يحتاج إلى فتح قبور جماعية داخل لبنان وفي البحر، والنظر إلى من سلّم بعض اللبنانيين إلى إسرائيل (..)”.
المفاوضات “الصعبة” والإنزعاج السوري
لا يمكن أن يكون الفصل السوري بين البيان المشترك ـ وقد كلّف نصري خوري بتلاوته ـ والمؤتمر الصحافي لوليد المعلّم ـ في حضور وزير خارجية لبنان فوزي صلوخ ـ بلا هدف. والهدف يمكن إستنتاجه بـ”سهولة”. إنه “خفضُ” مستوى نتائج الزيارة وقطع الطريق على أي محاولة للقول إن النتائج قابلة للتطور. إنه تقصّدُ الإساءة إلى رئيس الجمهورية اللبنانية. وإذا كان إضطرار المعلّم إلى الحديث من خارج البيان المشترك يعكس شيئاً، فإنه يعكس حقيقة ان المفاوضات التي أجراها الرئيس سليمان كانت صعبة على الأرجح، ما “أزعج” الجانب السوري.. على الأرجح أيضاً.
“العقلية”: النفوذ و”البيع والشراء”
إذاً نتائج هزيلة من جهة وتقصّد سوري لـ”التفخيت” بالزيارة أو “بَنْشَرتها” من جهة أخرى. فما هي الأسباب التي تجعل النظام في سوريا “ينهي” زيارة الرئيس سليمان إلى دمشق بهذه “الطريقة”؟
في هذه الأسباب، لا شك أن “عقلية” النظام الحاكم في دمشق تحتل موقعاً رئيسياً. فالنظام السوري ليس فقط لا يحترم إستقلال لبنان وسيادته، بل هو “حالمٌ دائم” بـ”نمط” محدد للعلاقة بلبنان لا مكان فيه لـ”الأخوة الصادقة”، نمطٌ يمكّنه من ممارسة “النفوذ” بأشكاله كافة. والمثال ـ المباشر ـ على ذلك هو أنه لم “يعطِ” التبادل الديبلوماسي للبنان مباشرة بل أعطاه لـ”طرف ثالث” هو فرنسا بقصد “شراء” مقابل له. إذاً هي “عقلية النفوذ” والهيمنة و”البيع والشراء”. وبهذا المعنى تصبح موافقته على علاقات ديبلوماسية مع لبنان موافقة “اضطرارية” تجاه الغرب وتنتظر أثماناً مقابلة.
إنتظار
وفي الأسباب أيضاً، في ضوء “العقلية” المشار إليها آنفاً، من الواضح أن النظام السوري الذي قام بعددٍ من التموضعات. سواء تجاه إسرائيل أو تجاه الغرب ـ الأوروبي ـ ينتظر نتائج لتلك التموضعات. التفاوض غير المباشر مع إسرائيل بواسطة تركيا يحتاج كي يصبح مباشراً إلى رضى أميركي. والرضى الأميركي مشروط بـ”دفتر” معلن وينتظر نتائج الانتخابات الأميركية. والولايات المتحدة نفسها في حالة شبه “إنتظارية” حالياً. أما “البوابة” الفرنسية فهي من وجهة نظره “تحتمل نفساً طويلاً، طالما أن فرنسا تمثٌل بالنسبة إليه مدخلاً الى المجتمع الدولي الذي ينتظر بدوره تبلور “الصورة الأميركية” في الأشهر المقبلة.
العلاقات السورية ـ الايرانية
كذلك في الأسباب أن النظام السوري لا يمكنه أن يقدّم للبنان ما يساعده على إنهاء ملفاته المعقدة، لتعلق العديد منها بإيران ـ و”حزب الله” استطراداً، مما يجعل نظام دمشق “لا يمون” بدون إيران. كذلك ان مسألة مثل حدود مزارع شبعا تتطلب كي يتجرأ النظام السوري على تحديدها وترسيمها، أن يكون التفاوض السوري ـ الإسرائيلي قد توصل الى نتائج “حاسمة” تتيح لهذا النظام “بيع” إيران والفك عنها بـ”أثمان” محددة، وهذا ليس متحققاً الآن. وفي هذه الحالة، ليس ما يفرض على نظام دمشق إعادة نظر بعلاقاته مع طهران على نحو حاسم. ولذلك، وعلى الرغم من الإشارات ـ السياسية والأمنية ـ المتبادلة بين دمشق وطهران فإن العلاقات السورية ـ الإيرانية التي تشهد “إختلافات” ليس فيها “إفتراقات” حاسمة. فـ”الإختلافات” حقيقية لكنّ “الإفتراقات” رهنٌ بتطوّرات “جذرية” يمكن أن تحصل في أمد منظور لكنها لم تحصل بعد.
وإلى كل الأسباب السالفة من “العقلية” إلى “الانتظارية” إلى “الانضباط” ـ مرحلياً على الأقل ـ بالعلاقة مع إيران، يضاف أن النظام السوري عبّر بوضوح شديد سواء بتصريحات المعلم عندما زار القصر الجمهوري أو في المؤتمر الصحافي في دمشق أثناء زيارة الرئيس سليمان عن عدائية حيال الفريق اللبناني الأكثري، رابطاً تصحيح العلاقات اللبنانية ـ السورية وتطويرها بتغير التوازن السياسي في لبنان في صالح الفريق الأقلّي.
رهانات نظام الأسد.. وتفويت فرصة
وعليه، وفقاً لكل المعاني الآنفة، لا مفر من القول إن “هزال” نتائج زيارة رئيس الجمهورية يعود الى النظام السوري وحساباته ورهاناته، أي الى مواصلته ربط العلاقات اللبنانية ـ السورية بـ”حلم” النفوذ في لبنان من جهة وبـ”بازار” على الصعيد الاقليمي ـ الدولي من جهة أخرى.
ولا مبالغة في القول تالياً إن نظام الأسد يفوّت فرصة سانحة مرة أخرى ليس فقط على لبنان ـ ورئيسه ـ بل على سوريا أساساً حيث يمعن في إخضاع نفسه لـ”إمتحان” عربي ـ ودولي “دائم” إنطلاقاً من لبنان.
المستقبل