لطالما بحثنا عن الإنسان الكوني كي نتفاهم معه على المستقبل
قاسم حداد: ليس هناك تخوم صارمة تحجب الشعر
اسكندر حبش
«لست ضيفا على أحد»، عنوان الكتاب الجديد الصادر حديثا لقاسم حداد، وفيه يروي تجربته وتفاصيل إقامته في ألمانيا خلال مشروع «شرق ـ غرب». كتاب في قسمين إذا جاز التعبير، الأول، توصيف لبعض المشاهدات والحالات المعيوشة، والثاني، قصائد، لا تهرب بدورها من تأثير ذلك المكان.
حول الكتاب، هذا الحوار الذي جرى بالبريد الالكتروني، مع قاسم، الموجود حاليا بألمانيا ـ لإقامة ثانية تمتد لفترة عام بدعوة من «الأكاديمية الألمانية للتبادل الثقافي».
«لست ضيفا على أحد» كتابك الأخير، ولد من مشروع «ديوان شرق غرب». كيف كانت التجربة، إنسانيا وثقافيا؟
∎قبلتُ الدعوة بحماس كبير، لكنني جئتها بقدر لا باس به من القلق، طلبت منهم اختصار الأسابيع الستة المقررة إلى ثلاثة، وفي يوم السفر مرضت، فتأخرت أسبوعاً ثالثاً، لكي تصبح الزيارة أسبوعين.
وحالما بدأت إقامتي ندمت، تقريبا، على ترددي وعلى اختصاري فترة البقاء. لقد كانت التجربة مدهشة بالنسبة إليّ شخصياً، على الصعيد الإنساني كنت في امتحان جديد لم أفشل فيه (أمام نفسي على الأقل)، أنا الذي لم أتعود الغياب عن البيت مدة طويلة. فلم أشعر بالغياب والغربة بعيدا عن العائلة. قبل ذلك كنت أشعر بالضياع خارج البيت فعلياً وليس مجازاً.
ثقافياً، اكتشفت أنني يمكن أن أجلس بشغف الطفل في غرفة المعرفة في مدرسة العالم، وأتعلم طريقة جديدة مختلفة للحياة خارج البيت. فقد كان الكون أكثر رحابة من قلقي المقيم.
نحن نتكلم كثيرا، نظرياً، عن سبل الحوار الحضاري بوسائطه الثقافية، لكن يندر أن نصادف الفرص الحرة لممارسة هذه الفكرة بحرية وبلا تدخل من برامج تعد (رسمياً) خارج إرادتنا. في مثل هذه الفرص أعتقد أن ثمة مجالاً لأن نضع أنفسنا في مهب فعل ذلك الحوار على هوانا، وبعفوية الزهرة في حديقة الطبيعة، نفعل ذلك دون أن نكون في سياق لا يروقنا، أو نكون مجبرين على تجرّع حدود منظومته الباردة. الأدب والفن والشعر والثقافة هي طريقة حياة، يعمل المبدعون على اقتراحها على العالم في سلوك إنساني مباشر. هذا درس أتعلمه يومياً
هل تقصد أننا لم نعرف بعد كيفية الدخول إلى قلب هذا الحوار الثقافي مع العالم؟
∎من يستطيع الزعم أنه يعرف؟ من قال عرفت فقد جهل.
هل الكتابة كانت تشكل جزءا من هذا المشروع؟ وهل شعرت بقلق ما من أن تكتب بناء على «طلب» ما إذا جاز التعبير؟
∎ليس ثمة (طلب) قسري للكتابة ضمن المشروع. لم اشعر بذلك، من جهتي على الأقل، ولم أكتب بناء عليه، ربما لو لم أكتب شيئا فلن يطالبني (أقصد يحاسبني) أحد على ذلك. ربما كانت الكتابة جزءا من المشروع، لكنني تعاملت معها بوصفها مكونا من عناصر التجربة، فيمكن أن لا أكتب شيئاً. هكذا شعرت بالضبط. كتبت لأنني أحببت ذلك بالدرجة الأولى. لا أعرف كيف ذهب الآخرون إلى الكتابة في ذلك المشروع.
هناك، لا أحد يجبرك على فعل ما لا تحب. هذا هو الشرط الإنساني، جوهرياً في تلك المشاريع الحوارات. وحتى حين يسألونك عن أمر، سوف يحتاطون كثيرا لئلا يبدو ذلك قسراً. على العكس، سوف يسبقونك في تحقيق حاجاتك قبل أن تفصح عنها. وهذا ما لا يحدث في أمكنة كثيرة نعرفها جيداً. فأنت، عندهم، في المكان الحر المريح من الكون.
على العكس، ربما كلما وجدت نفسك راغبا في البوح والتعبير عن ذاتك ضمن هذه التجربة، فأنت تذهب إلى الطريق الصحيحة لاكتشاف الأفق أمامك، أفق هو البوابات اللانهائية نحو الآخر، الإنسان الكوني الذي ستحسن صياغة تبادل أنخاب الحياة معه، والتفاهم معا على ملامح مستقبل، هو بالنسبة لنا ضربٌ من المجاهيل، لفرط تعثرنا ونحن نحلم به كلما بالغنا في عزلتنا عن العالم.
افق الكتابة
ثمة قسمان، إذا أتيح لنا قول ذلك، في الكتاب. الأول عبارة عن سرد تحكي فيه عن بعض تفاصيل الرحلة إلى برلين، والثاني سلسلة من القصائد، لكنها تقع في المناخ عينه، أي أنها تنتمي إلى مكانها الألماني. لِمَ كنت بحاجة إلى وسيلتي تعبير للكتابة. إلى نوعين أدبيين؟
∎لا أعرف. حقيقة لم أتوقف كثيراً أمام (وسيلتيّ تعبير) كما تشير في سؤالك. لقد كنت أكتب فحسب. الشكل يأتي في ما بعد. أنت تعرف جيداً، النوع ليس مشكلة بالنسبة لي منذ زمن طويل. أجد نفسي في الكتابة كلها. لا أكثر، ولا أقل.
ولعلك تلاحظ في كتبي الأخيرة أنني افتح لنصوص الكتاب الأفق رحباً ليشمل ما ينسجم مع لحظتي في الكتابة ومع سياق تجربتي الفنية، ليس روحياً فحسب، ولكن تقنياً على وجه الخصوص.
ليس ثمة تخوم صارمة تحجب الشعر عن كل ما أكتبه في هذا الكتاب أو ذاك. فالشاعر لا يتخلى عن روحه ولغته كلما بدأ في الكتابة. من هنا أشعر بأنني لا انتقل من نوع إلى آخر في كتاب (لستَ ضيفاً على أحد)، شرط الشعر، بمستوياته التعبيرية، هو ما يقودني في السفر والإقامة.
تركز في كتابتك على حالات وأشخاص، أكثر مما نقرأ عن المدينة. أي تبتعد كثيرا عن كتابة الرحلات؟ لماذا؟ ألم يقدم المكان سحرا خاصــا؟ أم أن المكــان هو بالنسبــة إليــك هـذه العلاقة الإنسانية؟
∎ها أنت قلتها: المكان هو هذه العلاقات الإنسانية.
أنا لا اذهب إلى صحراء جليدية، فالمكان يكتسب طبيعته من البشر في حياتهم. وربما أيضا أنني لا أحسن كتابة أدب الرحلات كما متعارف عليه. أو إنني لا اعرفه بالمعنى التقني بالذات.
وحقيقة الأمر أن ثمة حالات إنسانية وكائنات حيوية هي التي فتحت لي آفاق الاتصال بالتجربة برمتها. وفعلاً ما كنت سأعرف المدينة (الحاضرة في الكتاب على كل حال)، لولا تقاطعي مع هذه الكائنات الحيوية التي ساعدتني على صقل دواخلي المرتبكة القلقة بالحجر القديم لهذه المدينة المكنوزة بالتاريخ والفن والتجربة. بأمل أنني فعلت ذلك بروح الشاعر المقيم وليس بعين السائح العابر.
في العنوان وكأن ثمة موقفا، يشي «بسرابية» الرحلة؟ هل هذا صحيح؟ هل تخبرنا لمَ اخترته؟
∎لكنني، فعلاً، لم أكن ضيفاً على أحد آنذاك. فقد كنتُ في البيت.
هكذا بالضبط كنت أعيش وأتصرف وأتحرك بعفويتي التي ساعدتني على الولع بالتجربة في برلين ومع أهلها. فحين تكون في بيتك لا تعود تفكر في رسميات التعامل وحرج الغريب. هناك لم أكن غريبا بالمعنى الإنساني للكلمة. تعاملت مع من حولي برغبة الأسئلة وليس بسلوك الساكن المتطلب.
لم أفكر في العنوان، لقد لقطته من أحد النصوص داخل الكتاب بعد الانتهاء من إعداده للطبع. شعرت أنه يعبر عني في تلك التجربة. وليس ثمة (سرابية) في الأمر.
بعد تلك الإقامة القصيرة، أنت حاليا في برلين لمدة عام. هل تضعنا في أجواء هذه الإقامة الجديدة؟ في أي إطار هي؟
∎هذه الإقامة تختلف، نوعياً، عن ذلك المشروع. هذه المرة أنا في برلين بدعوة من الأكاديمية الألمانية للتبادل الثقافي، في منحة تفرغ للكتابة ضــمن برنامـج (الفنان المقيم). منحة تتيح لك حقوقا مؤمنة بكامل احتياج الحياة المريحة ومخصصاتها وتأميناتها. لكي تتفرغ لعملك. الأكاديمية تدعو كل عام بين 15 إلى 20 شخصاً من شتى حقول الإبداع، فنون تشكيلية وسينما ومسرح وشعر وأدب، وتوفر للشخص ما يحتاجه حسب طبيعة عمله. على أن يكون لك مشروع محدد تعمل على انجازه في هذه الإقامة. وليس مطلوباً فعل شيء آخر. وتتوفر لك تأشيرة خاصة تتيح لك التنقل الحر في عموم دول أوروبا، ملبياً دعوات المشاركات التي (ترغب) في الاستجابة لها.
وما هو هذا المشروع، هل لنا أن نعرفه؟
∎إنني أصحب طرفة بن العبد منذ سنوات طويلة، أتبادل معه الأنخاب بين وقت وآخر. وهو قنديل السفر الدائم
الطويل