الجنسانية في الإسلام…عنف ذكوري ودونية الهوية الأنثوية
نظام مارديني
لماذا يتحول المسلم الى أصولي متشدد؟ لعله السؤال الأهم الذي يطرحه كتاب الباحث عبد الصمد الديالمي، الذي يشير الى أن العنف الرمزي الذي تمارسه الأصولية ضد الفكر العقلاني يجد امتداداً طبيعياً في الأرهاب الفيزيقي الموجه ضد أبرياء، وضد مثقفين، في العالم العربي والإسلامي، غير أن السؤال يبقى، هل يمكن اختزال الإسلام في هذه الصورة السلبية؟
ينطلق الرهان المعرفي لنصوص هذا الكتاب من إرادة التدليل على أهمية العوامل في تشكل الشخصية الأصولية، كالعوامل الأقتصادية والسياسية والإيديولوجية، إلا ان الافتراض بأن العامل الجنسي لا ينتج هنا عن العجز الجنسي، وإنما يرتبط بظروف حضرية ـ مسكنية تتميز بالإثارة الجنسية وفي الوقت ذاته لا تسمح بإرضاء الرغبات الجنسية، لاسيما أن الاحياء التي ينحدر منها الأصوليون هي أحياء تتميز مساكنها بالضيق والاكتظاظ…
منذ البداية، وجد الإنسان نفسه أمام ضرورة فهم الطبيعة وتنظيمها، فأنسنها حين اعتبرها جسداً وذلك قصد استيعابها. إن إحالة الإنسان البدائي الأولى و»المركزية« هي ذاته، وبالأدق جسده، ومن ثم اسقط نظام جسده على الطبيعة فأصبحت كل أشياء العالم رموزاً للجسد ولأعضائه. أكثر من ذلك، أسقط الإنسان قدسية على بعض الأماكن انطلاقاً من تشابهها الشكلي أو الوظيفي مع بعض أعضاء جسده المحرمة المقدسة. إسقاط يتم بشكل لاشعوري تعبيراً عن نسقية إجمالية ضرورية في فعل استيعاب العالم. ما العالم في نهاية الأمر سوى جسد كبير، إن »الإنسان كون صغير والكون إنسان كبير«، على ما يقول النفري.
كان لا بد من إقامة منطق التقابلات المعمارية انطلاقاً من التقابلات الجنسية ـ الجسدية، المؤسسة بشكل لا شعوري للنظام التعميري والمعماري. فالتقابل بين المركز والمحيط في القرية يقوم حتماً على التقابل بين الطاهر والمدنس، وهذا التقابل له أصل جنساني بين جنسانية مذكرة طاهرة وجنسانية مؤنثة قذرة.
إن نسقية إجمالية ما، كنتاج لفهم عملي، هي التي تقيم تماثلاً بين الجسد والدار، بين الجسد والدوار، بين الجسد والمدينة (ما قبل المدينة الصناعية). فالكل يشارك في رمزية شاملة وواحدة تحوي كل مستويات الوجود والوعي. من ثم تتكون استمرارية »المنطقة« شبه طبيعية بين أذرع الأنا، وهي الجسد والدار والمدينة. بفضل تلك الأذرع يحافظ الأنا (الفردي والجماعي) على وجوده وعلى سيادته. إن الدار امتداد للجسد، بل إنها جسد ثان يحمي ويحتمي داخل جسد أكبر، جسد المدينة. أي ان ما يسري على الجنس يسري على المجال.
بهذا المجال لم يكن غريباً أن تتم أنسنة العالم انطلاقاً من الجسد، فالجسد دلالة ونظام. وبشكل »طبيعي«، آلي ولا شعوري، يتم إسقاط نظام الجسد على العالم، وتبدو الوساطة الجسدية وساطة حتمية، أولية ووحيدة، تحقق الاندماج والتماثل بين الأنا والعالم، فيفقد العالم وحشيته،ويفقد غرابته، وهو ما يشير إليه ميرلو ـ بونتي بالقول: »إن الجسد هو رحم كل منطق مجالي، إنه ليس فقط أحد المدركات من بين المدركات، إنه مقياس… كل ابعاد العالم«.
ويجد الباحث الديالمي أربعة أنماط للعلاقة بين الجنس والمجال، هي:
[ النمط الرمزي، ويدور حول إعطاء دلالة جنسية للموضوع المعماري.
[ النمط اللساني، ويكمن في تسمية أمكنة معينة من المجال بأسماء اعضاء جسدية (الرأس، الفم، الصدر…). وتكون تلك الأعضاء مجنسنة أو قابلة للتجنسن.
[ النمط الوظيفي، وتدور أسئلته حول أمكنة الفعل الجنسي.
[ النمط الحدودي، ويتعلق بانتصاب حدود مجالية بين عالم الرجال وعالم النساء، أي تقسيم الفضاء المجالي الى أماكن خاصة بالرجال وأخرى خاصة بالنساء، داخل البيت وخارجه.
يضاف الى ذلك، فإن الحدود الجنسية انطلاقاً من تحولها الى حدود باطنية، تستمر في الأماكن الأكثر حداثة مثل المقهى. فجلوس المرأة في المقهى لم يتحرر من بعض الشروط التي تبين الحداثة المجالية لا تعني آلياً الحداثة الجنسية. فنادراً ما تجلس المرأة لوحدها في المقهى. ونادراً ما تجلس في رصيفه، كما أن هناك مقاهي لا تخالطها النساء البتة، دون أن تجد مقاهي خاصة بالنساء.
إن لا جنسانية المقهى ـ بمعنى أنه مكان لا يعترف بالحدود الجنسية بل يشكل نقطة التقاء ـ تظل لا جنسانية مبدئية، غير مندمجة بعد في الحس العملي، وفي الحس المشترك. إن شعورية التقسيم الحدودي للمكان (وقصديته) تقوم على استبطان تجنيس المجال في اللا شعور العميق للفرد والمجتمع.
في المدن الكبيرة، تتأرجح الأوساط الشعبية بين تأجج الرغبة الجنسية وبين قلة حظوظ إشباعها. ولكن كيف تتأجج الرغبة؟ ولماذا يتعذر إشباعها؟
يتبين من هذا التحليل أن المدينة مثيرة جنسياً من حيث طابعها الرأسمالي، لكنها محبطة بالنظر الى القيود الدينية المفروضة على الجنس. وهي محبطة انطلاقاً من رأسماليتها أيضاً، بحيث أن إمكانات الحصول على سكن مستقل بالنسبة للشباب تظل ضئيلة. فحتى لو تبنى الشاب الأختيار الجنسي غير الشرعي، يطرح له سؤال »أين«؟ أين يمكن للشاب الاختيار الجنسي أن يشبع رغبته الجنسية؟ سؤال يبرز تناقض المدينة الرأسمالية في العالم العربي، أي عدم وظيفتها: تأجيج الرغبة الجنسية من جهة، والعجز عن توفير المكان المناسب نظراً لاعتبارات سوقية (قبل الاعتبارات الدينية والقانونية) من جهة أخرى. فالعالم العربي لا يزال حضور المرأة في الشارع العمومي يثير سلوكات ذكورية عنيفة، تنطلق من النظرة المفتشة الملحة لتنتهي بالأغتصاب، مروراً بالمعاكسة والتحرش. ومرد ذلك أن الفاعل الاجتماعي العربي، من خلال سوسيولوجيته العفوية، يحمل المرأة مسؤولية التفكك الاخلاقي والأجتماعي الذي تعاني منه المجتمعات العربية التي لا تفرض الحجاب أو الفصل الصارم بين الجنسين، غير أن تحميل المرأة مسؤولية ما يقع من مصائب تأويل ذكوري وسطحي للتاريخ يتجاهل أو يجهل الأسباب الحقيقية للأحداث. رموز كثيرة حولت الهوية الجنسية الذكرية، منذ البدء، الى سيادة والى امتيازات »طبيعية«، وتجعل من الهوية الأنثوية هوية دونية، تابعة، ناقصة بشكل »طبيعي«… آليات متنوعة يستعملها المجتمع لتديين ـ تسييس العلاقة الزوجية بحيث تغدو العائلة فضاء لعلاقة عمودية تخدم سيادة الزوج وامتيازاته، وتخدم استمرار نسب الزوج عبر تحويله الى أب يجسد السلطة. من أجل ذلك، يقوم الزوج ـ الأب بإعالة النساء والأطفال، فتتحول مؤسسة العائلة (من إعالة) الى أسرة آسرة تمنع المرأة من التطلع الى الاستقلال. المطروح اليوم هو تحديث الأسرة، أي الانتهاء من النظر الى الأدوار الجنسية: أدوار بيولوجية ثابتة، والمطلوب هو تحويل الأسرة الى مؤسسة ديموقراطية تتحرر داخلها المرأة من التبعية (للأب أو الزوج). فهناك ترابط بين تحديث الأسرة (كمجموعة علاقات بين ـ جنسية) وتحرير المرأة، لأن تحديث الأسرة شرط لتحرير المرأة، ولأن تحرير المرأة شرط لتحديث الأسرة. أبعد من ذلك، يشكل تحديث الأسـرة شرطاً ضرورياً لإنتاج المواطن.
ـ عبد الصمد الديالمي ـ »المدينة الإسلامية والأصولية والإرهاب ـ مقاربة جنسية« ـ دار الساقي ـ رابطة العقلانيين العرب ـ ٢٠٠٨
([) كاتب سوري