سوريا وسنة لبنان ولعبة الشرق الأوسط
سليمان العقيلي
تتميز العلاقات بين الحكم السوري والسنة في لبنان بكثير من التعقيد منذ الانقلاب الذي قاده الرئيس حافظ الأسد عام 1970 وسمي بالحركة التصحيحية. وبعد خمس سنوات فقط من العهد السوري الجديد انفجرت الحرب الأهلية اللبنانية على خلفية الاحتكاك المسيحي الفلسطيني. حيث رأى المسيحيون اللبنانيون أن دولتهم اختطفتها منظمة التحرير الفلسطينية بمساعدة من القوى الوطنية اللبنانية، التي كانت ترى في النضال الفلسطيني واجبا قوميا. وكان السنة في لبنان على رأس هذه القوى الوطنية سواء اليسارية أو القومية. ودخلت القوات السورية لبنان بزعم حماية المسيحيين من الفلسطينيين عام 1976 وكأن الحرب جاءت تمهيدا للسيطرة السورية.
بعد خروج منظمة التحرير من لبنان عام 1982 إثر الغزو الإسرائيلي الشامل الذي وصل إلى بيروت وحاصر المنظمة. انكشف الغطاء العسكري عن السنة. وطاردت الحركات الفلسطينية الثورية الموالية لدمشق فلول منظمة التحرير في طرابلس – حيث احتمت في حاضنتها السنية – لكنها أخرجت بفعل الضغط السوري وطردت المنظمة عسكريا من كل لبنان، لكيما تستفرد دمشق بالساحة. انقضت الفصائل الموالية لسوريا في بيروت الغربية (وهي حركة أمل والحزب التقدمي الاشتراكي) على ميليشيا سنية صغيرة تسمى (المرابطون) أنشئت بدافع قومي لدعم النضال الفلسطيني وكانت تملك إذاعة ونشرة صحفية. وتم تجريد الحركة من السلاح وهرب قادتها من بيروت الغربية. ومن اللافت أن الحزب التقدمي الاشتراكي بقيادة وليد جنبلاط فض شراكته مع السوريين لاحقا وانضم إلى الاستقلاليين السنة والموارنة وشكل الجميع ما عرف بتيار 14 آذار المناوئ للهيمنة السورية.
لم يكن السنة في لبنان قد شاركوا في الحرب الأهلية فهم أهل تجارة وعلم وصحافة. ولم يكونوا في يوم من الأيام بحاجة لأن يحملوا السلاح لأنهم يتمتعون بحماية عربية إقليمية. لكنه تم النظر دوما إلى أنهم موالون للنضال الفلسطيني قوميا (من وجهة نظر سورية)، وأنهم يؤثرون الوحدة العربية على الوطن اللبناني (من وجهة نظر مسيحية مارونية).
بخروج المقاومة الفلسطينية وبالقضاء على المرابطين تم تجريد السنة في بيروت من أية قوة عسكرية أو حتى سياسية. وكان هذا هدفاً (سورياً / مارونياً يمينياً). وما زال هذا الهدف قائما (لاحظ تحالف ميشيل عون مع حزب الله ومع سوريا في الوقت الراهن).
جرت محاولات لتفتيت الجسم السني بإنشاء جماعات وجمعيات جديدة مثل الأحباش الذين تزعمهم رجل الدين الإثيوبي عبد الله الهرري وأسس لهم جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية واتسمت هذه الجمعية بإغداقها للمال لحشد الأتباع. وتردد عن تبعية هذه الجمعية للمخابرات السورية. وقد نجح واحد من أعضاء هذه الجماعة الجديدة في أول انتخابات نيابية بعد تطبيق اتفاق الطائف في الحصول على مقعد سني في البرلمان، فيما ظل زعيمها يكفر علماء السنة.
جرت عدة اغتيالات لرموز سنية في لبنان وتم تخويف أية قوة سنية سياسية أو دينية من أن تخرج عن المصالح السورية. إلى أن تم اغتيال الرمز السني الكبير الذي كان قد أنعش حظوظ السنة في الدولة اللبنانية وهو رفيق الحريري. وتمت محاولة فاشلة لإلصاق الجريمة بجماعة سنية سلفية وتمت فبركة شريط (أبو عدس) بعد اختفائه أو إخفائه، وهو سلفي فلسطيني. وصار ما صار من خروج القوات السورية بآلياتها العسكرية بعد المظاهرة المليونية التي سميت ثورة الأرز في 14 آذار / مارس 2005. بعد أن سلمت الذخائر والأسلحة لمواليها وحلفائها ليكونوا البدلاء. وبدأ مسلسل اغتيالات شخصيات 14 آذار المناوئين لسوريا وهم من القيادات المسيحية الاستقلالية في الغالب وبعض السنة. واختتم المسلسل بغزوة بيروت الغربية في مايو 2008 التي استهدف فيها أهل السنة ومؤسساتهم الثقافية والاجتماعية والإعلامية لإرغامهم على الرضوخ لمطالب حزب الله وحلفائه بالقوة.
وفي مواكبة لهذا المسلسل جرى اختراق الجماعات السنية وتم دفعها للتطرف وتمويلها بالأسلحة والأموال. حيث انفجرت معركة نهر البارد بواسطة فتح الإسلام التي يقودها الفلسطيني المتطرف شاكر العبسي. الذي ثبت أنه مقرب من سوريا ويعيش تحت حمايتها. وثبت ضلوع أسماء سعودية سلفية إما بتزوير الجوازات أو بالاسم الحقيقي عن طريق تجنيد القاعدة وبتمرير إقليمي.
هذه الأحداث وغيرها تعكس مأزق العلاقات السورية/ السنية في لبنان. فكثير من السنة الذين لم يتم تطويعهم خلال الفترة السورية يرون أن النظام السوري يستهدفهم، ويعمل على إضعافهم بل وتهديد وجودهم عن طريق تحريض الموالين له. وفي رأي المراقبين أنه ليس هناك موقف سياسي معاد لسنة لبنان باعتبارهم طائفة لبنانية، إنما لطبيعة العلاقات المذهبية بين الأغلبية السنية في لبنان وفي سوريا، وما تمثله هذه العلاقة – وفق فهم النظام – من تهديد سياسي.
ولترجمة هذه المخاوف تحالف النظام مع الموارنة في السبعينات، ثم مع طهران أثناء الحرب العراقية الإيرانية في الثمانيات. ثم مع حزب الله. أن سوريا سعت وتسعى لتحقيق الأهداف التالية:
1 – دعم العلويين في طرابلس وإيجاد مراكز لحزب الله فيها لخلخلة القوة السنية في شمال لبنان التي تمثل الخزان الرئيس للقوة السنية.
2 – إضعاف رئيس الوزراء السني عن طريق الحصول على الثلث المعطل في مجلس الوزراء. وتقوية المعارضين له.
3 – دعم التيار الجهادي بين القوى السلفية السنية في لبنان ودفعها لارتكاب الأخطاء تسهيلا للقضاء على التيار المعتدل غير المسيس فيها.
4 – توريط الشباب السلفي من الدول الخليجية والعربية لأجل تشويه بلدانهم واعتبارها مصدر الإرهاب بهدف إضعاف تأثير هذه البلدان في السياسة الإقليمية.
5 – تقوية ودعم جماعات الرفض الفلسطينية داخل المخيمات وتعزيز الإيديولوجيا الدينية في عقيدتها. لإضعاف السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير.
ومجمل هذه الأهداف يصب في مصالح سياسية سورية نابعة من القلق السوري المبالغ فيه حول أمن النظام واستقراره، والدور السياسي السوري في قضية الشرق الأوسط، وفي مجمل التأثير السوري في لعبة المصالح الإقليمية بالمنطقة. وقد ازدادت هذه المخاوف بعد غزو الولايات المتحدة للعراق وسقوط نظام البعث في بغداد ونشوء النظام الديموقراطي فيها. وكذلك بعد ظهور لجنة التحقيق الدولية في مقتل رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري وما يوجه من اتهامات لدور دمشق في الجريمة. وتداعيات ذلك على رموز النظام.
لذلك تحرص دمشق على التقرب من واشنطن، وسبيلها لذلك قبضة قوية في بيروت وإضعاف أدوار الآخرين للاستئثار بالتأثير في لبنان واستخدام القضية الفلسطينية وجعلهما مفتاحا لعلاقة مع القوى الغربية التي ترى دمشق أنها مصدر الخطر أو الحماية.