ما يحدث في لبنان

حزب الله»: خارج عن «كََنَف» الدولة أم العكس؟

دلال البزري
هذه المرة كان الجرم مشهوداً. فبعد غزوة بيروت في ايار (مايو) الماضي، حصل تقدم انطلاقاً من اهم مواقع «حزب الله» العسكرية، من خط دفاعه الثاني، حيث التحصينات تحت الارض وفوقها… هكذا أسقط رجاله طوافة عسكرية تحمل العلم اللبناني، واصابوا عن قرب، وبرصاصتين، الضابط الطيار سمير حنا. التفاصيل المتعلقة بالحادث تضيف قليلا الى كيفية الاسقاط، والقتل والحجز والضرب والمنع من الاتصال. لكنها لا تغير في الاساسي: انه اعتداء سافر على سلاح الدولة، تنقصه الذريعة نقصانا فادحاً. انها الاولى من نوعها. وكذلك هو الاول من نوعه ذاك الصمت الذي تلاها، وابتلع ألسنة رجالات كورسه اليومي. وحده احد المفْتين احال الجريمة الى اسرائيل… من دون قصد ربما. فيما وصفت قناة OTV العونية الجريمة بـ«الحادث الذي وقع نتيجة عطل في طوافة». ولم ينبس حلفاء الحزب ببنت شفة باستثناء سليم الحص. ولولا نصيحة نبيه بري للحزب بتسليم «العنصر» الذي اطلق النار، لربما كنا ما زلنا حتى الآن نخمّن، بعد المفتي، إن كانت اسرائيل قد فعلتها ايضا هذه المرة… بهدف «الإيقاع بين الجيش والمقاومة».
فجأة، وللمرة الاولى ايضاً، يتحلّى الحزب وحلفاؤه بفضيلة «عدم المزايدة» على «الحادث»، يعظون الناس بها وبفوائدها. وتنقضّ آلته الاعلامية على كل الذين يريدون معرفة حقيقة الجريمة ومناقشة ذيولها… وتتهمهم بما اعتيد عليه من اتهامات. والحزب نفسه «يهيب ويفترض»… ماذا؟ «عدم استغلال الحادث»، كما فعل هو في مار مخايل. ثم يقرّع الموالي له: «أصوات مزعجة… بأوصاف مقيتة»… «عقل شيطاني،عملاء اميركا واسرائيل»… كل هؤلاء الذين يريدون ان يعرفوا، هؤلاء الذين يتساءلون.
كيف يمكن وصف هذا النوع الجديد من الارهاب؟ تخوين من يسألون عن جريمة لا تملك للاسف اية ذريعة؟ غزوة بيروت، ما الذي بررها؟ محاولات «عملاء اسرائيل» في الحكومة النيل من سلاح المقاومة بقرارين يخرقان سدّا واحد او اثنين من سدودها المنيعة السرية. فكانت غزوة بيروت، عمليتهم «النظيفة، الخفيفة»… حسنا ماذا الآن؟ بعدما أَبعد الحزب عن نفسه كأس «كَنَف الدولة» المرّ؛ و«الكنف» مجرد جناح او ظل او حضن؛ اي شيء من الامومة الحانية؟
ما الذي يفسّر الجريمة الجديدة للحزب؟ ما الذي تنطوي عليه من معان؟ ممنوع السؤال. والا فالتهمة المحروقة: العمالة لاسرائيل! انها نقلة جديدة نوعية في الهيمنة، خارج «كنف الدولة»: المزايدون يحرّمون المزايدة. وهذه قاعدة ثابتة من قواعد الدولة السطانية، او قلْ المملوكية المؤتمرة بأوامر الولي الفقيه… تصوَّر إن استطعت!
ما الذي دفع الى قتل الضابط سمير حنا؟ إحتمالان: الاول يضع الجريمة ضمن السلسلة التي قضتْ على بعض كبار ضباط الجيش اللبناني كوسام عيد وفرنسوا الحاج، وهي جزء من مؤامرة تستهدف تفريغ المؤسسة العسكرية من طاقاتها ومهاراتها الكبرى. والمعروف عن الشهيد سمير حنا انه متفوق في الطيران وفي التدريب عليه، ومعروف أيضاً ان الجيش اللبناني وصلته طوافات عسكرية قطرية، وهو ينتظر طوافات اخرى، والطوافة الاخيرة التي سقطت واحدة منها.
اما الاحتمال الثاني، فهو «الخطأ التنظيمي»، المعروف في القاموس اللبناني بـ»عدم إنضباط العنصر» أو «غفلته». وقد نسب في الحرب الاهلية الماضية العديد من الجرائم الى هذه النوعية تحديداً من العناصر. ويعني قيام عنصر بقتل مدنيين او عسكريين من غير ان يكون حزبه او مشروع حزبه ينويان القيام بهكذا جريمة. وهنا «كان العنصر يعتقد بأنه تحت طوافة اسرائيلية… فقتل قائدها». التفاصيل الدقيقة المتعلقة بالجريمة ذاهبة الى بعيد. والغموض ينسج الخيال من دون جهد. مثل شريط الفيديو الذي يصور «الاشاوس يضربون الضابط الجريح بكعوب رشاشاتهم ويرفسونه بأحذيتهم العسكرية ليترك الضحية للنزيف الشديد… حتى الموت!»(عن مقال لفؤاد الهاشم في «الوطن» الكويتية). لكن الحزب قدم الى التحقيق عنصراً تحمل سيرته كل الاسباب التخفيفية: من آل المقداد، من قرية حدودية، من جهاز «التعبئة العسكرية» في الحزب، من وحدة قتالية خاصة، شارك في حرب تموز وحاز على تنويه من الحزب… تصور، أيضاً، ان العنصر «غير المنضبط»، أو «العاقل» من هذه القماشة!
بعد ذلك، الى اين، الى ماذا سيفضي التحقيق؟ هل سيخرق الجيش الجهاز او الهيئة المسؤولين عن الجريمة، ويعاقب مرتكبيها، كما فعل الحزب مع الجيش في احداث مار مخايل الدموية، والتي كان حرّض شبابه عليها؟ طبعا لا. فالحزب خارج «كنف» الدولة شرعيا وبحسب البيان الوزراي الغامض الذي لم تسعفه عبقرية عبارة «الكَنَف» هذه. بل ميدانيا، الدولة في «كنفه»… واما بعد رفض تحقيق من هذا القبيل، فهل سيكون بوسع العدالة غير التراخي مع الجريمة؟ وبحكمة؟ خوفاً من الفتنة… والحرب الاهلية… وكل ما يرهبنا به سلاح «حزب الله»؟
اما «الحوار الوطني»، بصفته «طريقنا للخروج من الازمة»، فهل سيختلف عن التحقيق؟ ام انه بالاحرى الطريق الأضمن لخوض الانتخابات النيابية؟ ومن دون الالتفات الى انه، اي الحوار، سيأتي قي «كنف» دولة مخترقة الاركان؟
لم يمرّ عامان على ملحمة الجيش اللبناني ضد الارهاب ذي المصدر السني، المتشظّي والسرّي… ولا مرّ اسبوعان على مقتل عشرة عسكريين من الجيش اللبناني في تفجير عن بُعد ينُسب الى نفس هذا الارهاب. والآن الارهاب ذو المصدر الشيعي المُمأسس، المنظم، الشرعي: فكَّا كمّاشة داخل الوطن الصغير. وعلى حدوده بلدان طامعَان به، يتفاوضان؛ سورية واسرائيل. وأبعد منهما ايران واميركا… والكل بصدد إعادة صوع دوره «على ضؤ المتغيرات»، فيما الوطن الصغير ينتظر في الدم والدموع والايديولوجيا استقرار هذه الادوار.
الحياة     – 07/09/08

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى