إنّي…عميل
فارس خشّان
أكاد لا أذكر أن إسمي ذُكر يوما، إلا وهو مزنّر بوصف “عميل”.
والله العظيم ،أنا لا أشكو ولا أتبرّم ،من حصول ذلك، لا بل أنا أُقر وأعترف أنّي أكون حزينا، إن مرّ يوم من دون أن “يُعير” أحد لعمالتي أيّ اعتبار. لقد أصبحتّ مدمنا.
إلا أنّ ما يحُزّ في نفسي كثيرا، هو جهلي معنى هذه العبارة، على الرغم من أنني حاولت جاهدا أن أفهمها. راجعتُ القاموس والمنجد وأشقاءهما، واستعنتُ بكبار اللغويين، ولكن عبثا أسعى. حاليا تجول فكرة في رأسي، وبتُ على شفا الاقتناع بها، بشفاعة تلك القاعدة المنطقية التي تقول إن “الضرورات تُبيح المحظورات”. نعم، فأنا أُفتش عن أبرع من نُسميهم “مشعوذين” لعلّه يُسخّر قدراته الفائقة فيستحضر لي المعلّم سيبويه، لأطلعه على مشكلتي المستعصية.
مرة حاولتُ أن أجد مرادفات منطقية لوصف عميل، فقلتُ للجالسين معي: أنا أُرجّح أن يكون معنى هذه الكلمة إما صحافي، وإما كاتب، وإما محلّل، وإما مؤلف، وإما متكلّم، وإما طموح، وإما معروف، وإما مجتهد، وإما “حشّور”، وفي أسوأ الحالات أن يكون معناها مزيجًا من كلمتين معا، على غرار صحافي طموح، أو كاتب مجتهد، أو محلّل “حشّور” …
ولم يسعفني الجالسون معي على استكمال التفتيش عن معنى وصف “عميل”، فقد قطعوا “حبل أفكاري” بقهقهات عالية، وكأنهم يتذوقون المشهد الأخير من الفيلم الفرنسي الكوميدي الشهير “عشاء الأغبياء”.
ومنذ تلك “الجلسة “أخذتُ عهدًا على نفسي ألا أُتلمس فكّ طلاسم هذه الأُحجية على صوت عال، فمن يتجاهل حكمة الأجداد يُصيبه ما أصابني. ألم يتركوا لنا نصائح ذهبية بأن نحرص على ضمّ ما يُقلقنا الى صدورنا كما كان يحرص الجاحظ على تصوير شخصياته في عشقها اللامتناهي لمحفظة نقودها؟
وعملاً بهذه الحكمة، رحتُ أُفكّر وحيدا وتوصلتُ إلى استنتاجات لا بأس بها، ولكنني لم أزل في مرحلة “حذف الاحتمالات الخاطئة”.
إليكم إلى أين وصلت .
“كلاسيكيا “وصفُ عميل يشمل كلّ شخص يُنفّذ ما يقوله له أعداء وطنه. وإذا توسّعنا قليلاً في فهم هذا الوصف نصل الى أنّ وصف عميل يعني كل شخص يفشي أسرار المجموعة التي يعمل فيها، إلى مجموعة مناوئة لها، تستخدمه لقاء بدل مادي أو معنوي، أو هو كل شخص ينقل معلومات زوّدته بها المجموعة التي تستخدمه لنشرها ضمن المجموعة التي ينتمي إليها، من أجل تضليلها أو توريطها أو ترهيبها أو إرباكها، أو “فرقعة “مكوّناتها.
وسعيتُ إلى تطبيق هذه المفاهيم على شخصي الكريم، فلم أُوفّق بالحصول على إجابة شافية، ولكنني وُفقت بالوصول الى نقطة انطلاق جديدة، ولهذا أنا أُريد الاستنجاد بالمعلّم سيبويه، حتى ولو أثرتُ عليّ شفقة الأمة –عفوا، أُمي- فظنّت أن “المادة الرمادية” قد سالت من دماغي، بعدما ثقبه “حكّي” اللامتناهي والدؤوب له، ففاض منسوبه كثيرا عن كمية نقاط الماء التي يقولون إنها تنخر… الصخر.
على أيّ حال، المحطة التي أنطلق منها حاليا تجاوزت محطات كثيرة ومهمة.
لقد بات ثابتا لديّ، أنّ لا صلة لي بالعدو الإسرائيلي الذي، كان قبل تموز 2006 غاشمًا، وأضحى بعدها بفعل تدخل الملائكة بالمعركة البرية، غشيما. (ولأن الشيء بالشيء يُذكر، إسمحوا لي أن أسأل الشيخ نعيم قاسم، صاحب السبابة المنتصبة دائما أمام ناظريّ: هل الملائكة، التي نشرتم كتبا عن دورها في حرب الوعد الصادق، وكفّر أخوكم بالأمة نوّاف الموسوي كل من ينفي تدخلها، ستكون من ضمن الإستراتيجية الدفاعية، على اعتبار أنّك في مناجاة ذاتك حسمت أنّ طاولة الحوار الوطني التي لم تنعقد بعد، قد تبنّت مسألة توأمة الجيش “العاجز” بمقاومة “النصر الإلهي”؟)
تأكد لي ذلك، لأنّ رجليّ لم تطآ الأرض الأحب الى قلبي، فهل يُعقل أن أكون مسيحيًا، أعيش في لبنان، ولا أسير على درب السيّد المسيح من التبشير بالولادة حتى ما بعد القيامة، وأكتفي بما يرويه لي أخوتي في الدين الذين يأخذون إجازة من مراقبة ثقب الأوزون في القطبين؟
وتأكد لي ذلك، لأنني لم أتعرّف بعد إلى أي ّيهودي يحمل الجنسية الإسرائيلية. مرة التقيتُ في إحدى الدول الأوروبية بشخص عربي قال لي إنه يحمل هذه الجنسية، فأشحتُ نظري عنه، مع أنّي أتفهّم ظروفه جيّدا، كتفهمكم لظروف عزمي بشارة.
كما بات ثابتاً لديّ، انني لا أنقل ما يحصل في تجمعات المقاومة والممانعة إلى أحد، لأنني في الأصل لا أذهب إليها، فعلى سبيل المثال لا الحصر، وبفعل تقادم الزمن، أجهل متى كانت المرة الأخيرة التي دخلتُ فيها الى حارة حريك خصوصا وإلى الضاحية الجنوبية عموما، ولعلّ السيّد حسن نصرالله يستطيع أن يُسعفني إذا راجع جهاز أمنه التاريخ الذي استقبلني فيه، للمرة الثالثة والأخيرة، ضمن مجموعة، في مكان مجهول منّي، كما أنني دخلتُ سوريا، مرتين في حياتي، الأولى لثلاث ساعات، وكانت برفقة واحد من أترابي قبل أن يزدان إسمه بلقبَي السعادة فالمعالي، والثانية كانت حين عبرت برّا الى عمّان، وامتنعتُ عن تكرار هذه المجازفة لاحقاً، لأنّه وقبل أن تُقفل السلطات السورية بواباتها الحدودية بوجهي، أقفلتها تلك السيارات السورية التي تسير عكس السير على الأوتوسترادات، وهي ساهية حتى عن واجب إضاءة مصابيحها ليلاً.
وهذه الحقائق الشخصية تعني أنني منقطع عن أسرار النظام السوري، ولا أنتمي إلى “حزب الله” ولا إلى أيّ مجموعة مقرّبة منه، كما أنّ الصلات التي كانت تربطني بـ”التيار الوطني الحر” عموديًا وأفقيًا انقطعت، بعد ضبطي للعماد ميشال عون، في وضع غير طبيعي، يوقّع على نص يجعل حاضره يخجل من ماضيه أو ماضيه يخجل من حاضره، مما يعني أنني لا أصلح لأكون عميلاً بالمفهوم الكلاسيكي لهذه الكلمة، فأنا غير مؤهل لا للإفصاح عن سر ولا لدسّ معلومة.
ويبقى هناك احتمال يحتاج الى تدقيق مباشر مع المعلّم سيبويه: هل معارضة “حزب الله” والنظام السوري يُمكن وضعها في سياق تفسير وصف عميل؟
أنا لا أُصدّق ذلك.
أنا لا أُصدّق أنّني عميل، إذا تمنيت للعديسة أن تكون بجمال مسكاف عام، وإذا حلمتُ بأن يكون لبنان قادرا على تشكيل لجنة تحقيق لتفحص حرب تموز تعتمد المعايير نفسها التي اعتمدتها لجنة “فينوغراد”، وإذا تطلعتُ الى أن تكون المحكمة السورية التي أصدرت حكمها على عبد الحليم خدّام مقنعة كالمحكمة الإسرائيلية العليا التي أصدرت حكمها لمصلحة عزمي بشارة، وإذا اعتبرت أن “حزب الله”، بكل تمظهراته باستثناء هويات المنتسبين إليه، جزء لا يتجزّأ من الحرس الثوري الإيراني، وإذا استنتجت من كل ما قام به النظام السوري وما نطق به، أنّ له اليد الطولى في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وإذا شاركت، بوزناتي، في “ثورة الصراخ” لتحرير بلادي من الوصاية السورية، وإذا مانعت هذه العودة من نافذة “التذاكي”، وإذا أيّدت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان التي تُعفيني من واجب الانتقام، لأنه بغياب العدالة القادرة تسود شريعة الغاب.
أنا لا أوافق أن عقلا يمكن أن يسمح باعتباري عميلا، إذا تمنيت للشعب السوري نظاما أرقى من الذي يقبض على أنفاسه وكتّابا أصدق من الواعظة بثينة شعبان التي تُجيد رؤية القشة في عين خصمها ولا ترى الجذع في عين نظامها، وجميع خريجي مدرسة “فيلكا إسرائيل” من علي جمالو وصولا الى أسعد ابو خليل، تمامًا كما أتمنى للبنانيين نظاما معاصرا يفهم الديموقراطية تطلعا الى المستقبل وليس عودة الى الوراء، وفائضًا من الكتّاب على قياس ساطع نور الدين، وسركيس نعّوم، ورفيق خوري، ونصير الأسعد، وخيرالله خيرالله، ووسام سعادة، وعماد موسى، وغسّان شربل، ووليد شقير، وراجح خوري، وزياد مخول، وغابي نصر، وعيسى غريّب، ومايكل يونغ، وعلي حماده، ونبيل بو منصف، وجهاد الزين، يتقدّمهم “قدوتنا” في أناقة القلم المتكبّر غسان تويني، ناهيك بما تفيض به أريحية كبار مثقفينا عندما يكتبون، وفي مقدم هؤلاء، المبدع أنطوان مسرّة والرصين محمد السمّاك والعارف رضوان السيّد، وغيرهم ممن يغيب اسمهم عن بالي كما أغيب أنا عن بالهم.
وأنا لا أحسب أن أحدًا يمكنه اعتباري عميلا، إذا أنهكتُ ميزانيتي الشهرية بشراء الشموع التي أُضيئها يوميًا، حتى يُعين الله الرئيس ميشال سليمان على عدم الوقوع في جهنّم الرئيس السابق أميل لحود، وإذا تمنيتُ التحديث السياسي مع شخصيات على قياس القامة الجاذبة لمارتن لوثر كينغ ورفيق الحريري وسمير قصير، وليس مع شخصيات منفّرة من منطق التحديث، بانعدام معاييرها، على غرار ما هو حاصل لدى أمثال وئام وهّاب، وإذا تمنيت لبلادي أحزابا سياسية مدنية، حتى لو كانت شبيهة بـ”حركة أمل” ورفضت أحزابا مذهبية، قلبًا وقالبًا، ولو كانت بقوة “حزب الله”، وإذا اعتبرتُ خلاص بلادي مستحيلاً بلا إسناد جيشها الوظيفة الحصرية المناطة به، وفق الدستور، وإذا تساءلتُ لماذا يستهزئون بدعم واشنطن للمؤسسة العسكرية، ويبجّلون طهران التي تمتنع عن منح ذراع شرعيتنا طلقة نارية واحدة حتى لا نقول صاروخ مخيبر واحداً ليرد يوم تتواقح علينا “مركبة إيليا” (ميركافا)، وإذا استأتُ من مخوّني مسؤولين في بلادي إن أقاموا علاقة جيّدة مع عواصم كبرى، في حين تجدهم أنفسهم يشمتون بمسؤولينا، إن ابتسم موظف في هذه العواصم، لبشار الاسد.
إذا كانت هذه هي العمالة، فبربكم قولوا لي ما هو الموقف، وما هي الموالاة، وما هي المعارضة، وما هو التوجّه، وما هي القناعة، وما هي التربية، وما هي العقيدة، وما هو الدستور، وما هو الفرد، وما هي الجماعة، وما هو الانتظام، وما هو العقاب، وما هو الثواب؟
على أي حال، لكل من يرفض أن ألجأ الى “مشعوذ” لاستحضار روح المعلّم سيبويه، أرجو أن يسارع الى نجدتي، فبدلاً من أن نهدر كل الجهود في الدعوة المكررة الى مؤتمر دولي لتحديد مفهوم الإرهاب، فلنعقد الخناصر (كلمة من أحدث نتاج أحد ديناصورات الصحافة اللبنانية) من أجل مؤتمر عربي أو لبناني لتحديد مفهوم عميل…
يقيني أن مؤتمرًا كهذا أصعب من إدخال النبعة في قائمة عجائب العالم، لأنه في هذه الحال، فالاحتمالات التي باتت متوافرة لديّ تؤكد أن العميل ليس من يساهم بإنارة العقول بالنقاش والنقد وكشف الحقائق والتذكير بالمُثل والمبادئ والتطرف للصح في مواجهة الخطأ (وهذه هي قمة الاعتدال)، إنما في كل من يُلبي نداء إسرائيل أو يستدعي إسرائيل الى حلبة التانغو، فيُعمّم الظلامية هناك ويُعطيها سمة دخول دائمة لتدمير كل ما يتم إنجازه…هنا.