حتى لا تبدو المصالحات اللبنانية فولكلورا
خالد غزال
تسود الأجواء السياسية اللبنانية هذه الأيام «بهجة» مصالحات سياسية بين أخصام متنافرة، وذلك في أكثر من منطقة لبنانية، كانت آخرها وأهمها المصالحة التي تمت في مدينة طرابلس الشمالية. ليس جديدا على اللبنانيين مثل هذه المصالحات السريعة والشكلية في أحيان كثيرة، فهي تعكس تقليدا لبنانيا قديما يقوم على حل المشكلات أو تجاوزها بما يسمى عند اللبنانيين بـ«تبويس اللحى». وهو أمر يتقبله اللبنانيون بسرور بديلا عن التناحر العنفي والمسلح الذي خبروه ويتكرر لديهم كل يوم.
أتت المصالحات الأخيرة في سياق اتسم منذ احداث مايو/أيار 2008 بتوتر العنف المتنقل في أكثر من منطقة وتصاعده كلما تأزم الوضع السياسي، وتزايدت مطالب الأطراف المتخاصمة. هو توتر ترافق مع تصعيد مذهبي حاد بدا لكثيرين في الداخل والخارج أن البلد مقبل على انفجارات كبرى ستكون لها تداعيات إقليمية وعربية. في هذا الصدد كان حديث الرئيس السوري بشار الأسد الذي حذر من انفجار الوضع في الشمال اللبناني مشبها مصالح سورية في لبنان بمصالح روسيا في جورجيا. وفي السياق نفسه كانت التصريحات السعودية والمصرية محذرة وبشكل إنذاري من تفاعل الصراع في الشمال وانعكاساته الخطيرة على الوضع اللبناني الداخلي، خصوصا، ووصول التداعيات الى ما يتجاوز الساحة اللبنانية.
اما في الداخل اللبناني، فقد قرأت القوى السياسية التصريحات السورية ومعها التحذيرات العربية، من أن الحكم في سورية يعرض مجددا على الوضع الدولي اقتراحاته بوضع حد لأخطار الحركات السلفية في لبنان عن طريق العودة العسكرية مجددا على غرار ما حصل العام 1976 عندما نال الرئيس الراحل حافظ الأسد تفويضا عربيا ودوليا بدخول لبنان لوضع حد لانفلات المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية آنذاك، وهو ما تحقق له عبر «قوات الردع العربية» التي تحولت بعد أشهر إلى قوات سورية صافية.
يتساءل المواطن اللبناني عن «السر» الذي جعل القوى المتخاصمة في 14 آذار و8 آذار تتجاوب مع مطلب التصالح وتطلق خطابا توافقيا واستعدادا لتجاوز الصراعات. يصدر كل طرف عن هواجس حقيقية أساسها ما يمكن أن يترتب على العودة السورية إلى لبنان، حتى ولو كانت إلى منطقة الشمال كما يجري التلويح به. بالنسبة الى قوى 8 آذار، والمعني بها بشكل رئيسي «حزب الله» مما لا شك فيه ان الحزب يتوافق راهنا مع السياسة السورية في كثير من محاورها وأهدافها ومصالحها في لبنان. لكن الحزب يتصرف ويبني حساباته إلى أبعد من الظرف الراهن. تشير أوساط في «حزب الله» في مجالسها الداخلية الى توجّس من وصول المفاوضات السورية الإسرائيلية إلى مرحلة التسوية الفعلية، وهي تسوية تضمر مطالب إسرائيلية واضحة منذ الآن تتصل بفك العلاقة السورية مع إيران، أو على الأقل تقليصها الى الحد الأدنى، ثم، وهو الأهم، نزع سلاح «حزب الله» وتحويله الى حزب سياسي. يدرك «حزب الله» أن قيام الحكم السوري، على افتراض وصل الى اتفاق مع إسرائيل، بهذه المهمة ستكون أصعب في حال بقي الأمر الميداني على ما هو عليه، أي بعدم وجود قوات عسكرية سورية في لبنان، فيما سيكون الوضع ميسورا للحكم السوري بوجود قواته في لبنان. أما العامل الآخر الذي جعل «حزب الله» يقدم هذا الخطاب التوافقي، فهو حاجة الحزب داخليا لفك الاستنفار من حوله الذي ازداد بعد أحداث ايار /مايو الماضية وبما يجعل الحزب «يهضم» ما قضمه من تغيير التوازن في المعادلة الداخلية اللبنانية.
اما بالنسبة الى فريق 14 آذار، فمن الواضح أن العودة السورية إلى لبنان ستعني لها الهزيمة الكاملة سياسيا وأمنيا، وهي التي بنت «انتصاراتها» الداخلية وركبت مصالح وأهدافا سياسية أساسها الموقف المضاد للنظام السوري، بل اعتباره الحلقة المركزية في برنامجها النضالي منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري في شباط من العام 2005. لذا ستكون العودة العسكرية السورية بما سيرافقها من نفوذ سياسي متجدد بمثابة انتحار لهذه القوى. لذا لم يكن غريبا أن تستنفر مصالحها بشكل واسع، وتسعى الى قطع الطريق على الأسباب والعوامل التي تقدم لسورية حججا تساعدها على التدخل المباشر مجددا في الحياة السياسية اللبنانية، ولو اقتضى الأمر تجاوزا لمرارات ما تزال تعتمل في صفوها منذ أحداث ايار /مايو الماضي.
إذا كانت المصالح المباشرة والأخطار الامنية المحدقة بالبلد و«السائحة» بين منطقة وأخرى قد قلصت التباعد السائد بين أطراف النزاع، إلا أن هذه الأخطار قابلة لأن تعاود انفجارها إذا لم تسيّج باتفاقات سياسية في شأن المعضلات التي يعاني منها البلد، والتي تشكل مصدر الخطر. ان ما يمنع الانفجار ان يجتمع اللبنانيون ويضعوا خلافاتهم على الطاولة ومناقشتها والوصول إلى حدود مشتركة من التفاهم. يبدو الشرط الأول مرتبطا بتسليم جميع الأطراف بأولوية الدولة بوصفها تمثل المشترك بين اللبنانيين، وهو مشترك سيأخذ بداهة من حصص الطوائف التي زحفت على مكونات الدولة وصادرتها وتقاتل كل واحدة لـ«نهش» أكبر الحصص من «وجبة» التعيينات والتوظيفات، ناهيك بالهيمنة على سائر مقدرات البلد المالية والأمنية. إن الدعوة إلى طاولة الحوار التي حدد رئيس الجمهورية موعده منتصف الشهر الجاري، والتي سيكون على رأس جدول أعمالها مناقشة الاستراتيجية الدفاعية، ستشكل مفصلا في إمكان اللبنانيين نقاش معضلاتهم حقا. فالاستراتيجية الدفاعية عنوان كبير لقضايا خلافية، فهي تطال مسألة هوية لبنان وعلاقاته العربية والإقليمية وموقع لبنان في الصراع العربي الإسرائيلي، وكذلك مسألة سلطة الدولة على أراضيها وقرار الحرب والسلم لجهة من يتخذه. إن الانفتاح على نقاش هذه القضايا أولا سيؤسس لإمكان تسوية داخلية على قاعدة سياسية ستشكل عنصر رئيسا في تسييج المصالحات التي تحققت أو التي يمكن أن تحصل لاحقا في مناطق اخرى. اذا كان نقاش الاستراتيجية الدفاعية يأخذ أولوية، إلا أن البلد يحفل بمعضلات لا تقل خطورة عن الأمن، ويأتي على رأسها الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتفاقم تدهورا وارتفاعا في غلاء المعيشة وانحدارا في وضع المواطن اللبناني. لا يخفى ان المعضلات الاجتماعية والاقتصادية اليوم تتسبب في انفجارات واضرابات وتمردات مفتوحة على اضطرابات أمنية في أكثر من مكان، ما يعني أن المصالحات معنية بمعالجة الوضع الاقتصادي والمعيشي كأولوية موازية للاستراتيجية الدفاعية. في الأمثال الشعبية اللبنانية أن الإنسان عند اشتداد المصاعب عليه «يتعلق بحبال الهواء» أملا في الانقاذ. ينطبق هذا المثل على الحال الشعبية اللبنانية في كل المناطق على السواء، أكانت تابعة لقوى الموالاة أم للمعارضة. يريد اللبناني خلاصا من الوضع السائد، فهل تكون المصالحات بداية الخروج من النفق، أم سيكون اللبناني مجددا على موعد مع الاضطراب الأمني بعد أن «يذوب ثلج تبويس اللحى»؟
كاتب من لبنان