النقاش وحبش وكارلوس وحداد “أسرار الصندوق الأسود” لغسان شربل
جهاد الترك
شخصيات بلا أقنعة تكشف عن حقيقتها الإنسانية
استغرق إعداد هذا الكتاب، وفقاً للمؤلف، آلافاً من ساعات العمل وأسفاراً في اتجاهات مختلفة، ويتناول، بالتحديد، حياة أربع شخصيات تقاطعت أعمالهم في النصف الثاني من القرن العشرين، واستطاعوا، مجتمعين ومنفردين، أن يهزوا ضمير العالم ويذكروه بالظلم اللاحق بالفلسطينيين. وتميّز هؤلاء عن سواهم باعتمادهم للمرة الأولى عمليات نوعية وجريئة، أهمها، على الاطلاق، خطف الطائرات.
هذه الشخصيات هي: كارلوس، وديع حداد، جورج حبش وأنيس النقاش. الأول هو “أشهر مطلوب في العالم” قبل أن ينتقل اللقب الى أسامة بن لادن في القرن الحالي. يروي المؤلف، في مقدمة الكتاب، أن القضاء الفرنسي لم يسمح له بزيارة كارلوس في سجنه، فاضطر الي محاورته عبر محاميته. غير أن هذه الأخيرة لم ترو غليله، باعتبار أنها قدمت أجوبة تكشف وتخفي في آن معاً. والأرجح أنها تخفي أكثر مما تكشف جاعلة من السعي الى معرفة الحقيقة أمراً مشوباً بسحر القلق والغموض والترقب.
يحاور المؤلف في الكتاب أيضاً رجالاً ألفوا العمل السري، لا بل كانوا يتحركون في الظل، في سكينة العتمة حيث تبدو الحقائق والأهداف من ذلك النوع غير المألوف الذي يخاطب الأحاسيس الدفينة والمشاعر الملتبسة والمخيلة الجياشة. انصرف هؤلاء الى خطف الطائرات واحتجاز الرهائن وزرع العبوات ونشر الخوف على المصير والمفاجآت غير المتوقعة والمرعبة في معظم الأحيان.
يرى الكاتب، في سياق تلك الفترة التي أصبحت من دفاتر الماضي البعيد، أن هؤلاء تمردوا على الظلم وطاردوا “العدو في كل مكان”. وعادوا من الرحلة. هذا أصيب في روحه وقهرته الأيام. وذاك أصيب في جسده ويعيش مدمناً على الأدوية واجترار الذكريات. وثالث ألقت به الأقدار الصعبة جثة هامدة دفنت على بعد آلاف الأميال من التراب الذي كان يناديه.
كارلوس
يستهل شربل توطئة حواراته الممتعة الملأى بالأسرار وصفحات ملتبسة من التاريخ القريب، بمشهد درامي إذا صح التعبير هو من نسيج مضمون الكتاب. يكتب قائلاً: “حاورت كارلوس فرن الهاتف وجاء في صوت مجهول: “أنت تنشغل بكارلوس وتنسى من جعله نجماً. كان مهماً حين كان يستمع الى توجيهات معلمه وديع حداد الذي أحاله على التقاعد بعد عملية فيينا. القصة الفعلية موجودة لدى رفاق وديع، فلماذا لا تبحث عنها؟ لديهم خزنة أسرار تتعدى قصة كارلوس”.
لم يكن المقصود بهؤلاء “الرفاق” سوى تلك الزمرة من المتمردين على الأمر الواقع الذين جمعهم وديع حداد فاجتمعوا حوله في محاولة، على الأرجح، للتدخل الفوري العنيف في صنع شيء من التاريخ، قدر استطاعتهم وتعبيراً عن قدراتهم المتوافرة لهم في تلك الأثناء. كان وديع حداد مسؤولاً، في تلك المرحلة المكشوفة على شتى الاحتمالات، عن “المجال الخارجي” في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي ارتبط اسمها طويلاً بقائدها الراحل الدكتور جورج حبش. طالبان فلسطينيان التقيا على مقاعد الجامعة الأميركية في بيروت. أغرقتهما النكبة التي عصفت بالوطن العربي في العام 1948، في مستنقع من الأسئلة المقلقة عن حال الأمة ومستقبلها. في هذا الاطار، وقبل عقود من طائرات أسامة بن لادن، انهمكت مجموعة في قيادة “الجبهة الشعبية” في البحث عن وسيلة فاعلة لإيقاظ ضمير العالم من غفوته الثقيلة وتذكيره بالظلم المتوحش الذي لحق بالشعب الفلسطيني. بدا أن من جملة الأهداف المتوخاة أيضاً توسيع دائرة المعركة ضد اسرائيل الى أقصى مدى جغرافي ممكن على هذا الأساس، أقر مبدأ خطف الطائرات. وسيقع علي عاتق وديع حداد عبء التخطيط والتنفيذ واستقطاب “الرفاق” الأجانب المعادين للامبريالية الى حد الاستعداد غير المسبوق لمقاتلتها على مسارح قريبة وبعيدة.
يجتهد المؤلف في صوغ حواراته والاسهاب في تغليفها بطبقة شفافة من الروايات الملازمة لها، على نحو شيق. يلملم الكاتب، في هذا الاطار، بعثرة واسعة من شتات ذلك التاريخ القريب الذي أصبح بعيداً، على الأرجح، نظراً الى الانقلاب المدوي الذي حصل نتيجة لزوال الاتحاد السوفياتي في مطلع التسعينات الماضية.
في هذه الأجواء بالتحديد التي تعيدنا الى ذلك الزمن المفعم بحرارة “النضال” وهيمنة المقاربة الأيديولوجية للتاريخ والأحداث، ستولد قصة “مريم” اليابانية، و”مجاهد” الأرمني، و”سالم” الفنزويلي الذي لم يكن سوى كارلوس أشهر مطلوب في العالم قبل أن يسقط فريسة سهلة في يد الفرنسيين لينتقل اللقب، في مطلع القرن الجاري، الى أسامة بن لادن. في هذه الأجواء أيضاً، يتذكر المؤلف أن مساعد كارلوس في عملية احتجاز وزراء “أوبك” في فيينا في العام 1973، كان شاباً عربياً. راح يسأل عنه، فإذا به يكتشف بأنه لم يكن سوى اللبناني أنيس النقاش الذي التحق باكراً بالثورة الايرانية. وبعد ذلك سيتردد اسمه في العالم حين حاول اغتيال رئيس الوزراء الايراني السابق، شهبور بختيار في باريس.
وقع النقاش أيضاً في قبضة المخابرات الفرنسية وأمضى عقداً في السجن. والغريب، كما يزعم المؤلف، أن المحققين الفرنسيين لم يكلفوا أنفسهم عناء الاستفسار عن مساهمته في عملية الاحتجاز.
عملية “أوبك”
يضيف غسان شربل بأنه اتصل بالنقاش المقيم في طهران وتواعدا على اللقاء في بيروت. طلب منه أن يعترف للمرة الأولى بمشاركته في عملية “أوبك” وأن يروي قصته كاملة. وعده النقاش بدرس هذه القضية وتداعياتها الأمنية والقانونية. وحين أبدى موافقته، التقيا من جديد، وأسفر اجتماعهما عن حلقات نشرت في مجلة “الوسط” في الشهر الأخير من العام 2000. يعترف شربل بأن بعض كلام النقاش استفز مشاعر كارلوس فقرر أن يوضح موقفه من هذه المسألة. والنتيجة تمكن المؤلف من محاورته في الشهر التالي.
المفاجأة الأهم والأكثر صخباً وحلحلة للألغاز التي كانت تتربّص بالكاتب وتعوق انتقاله السلس من سر الى آخر، تمثلت في عثوره على “الصندوق الأسود”. مهدت له الظروف بعد طول ترقب وانتظار ومكابدة للعراقيل والتساؤلات المحيّرة، أن يلتقي الرجل الذي كان الى جانب وديع حداد وهو على سرير النزاع الأخير. كما التقى الرجل الذي تولى القيادة من بعده. والرجل الذي شارك في خطف جورج حبش من سجنه في سوريا. والرجل الذي تسلّم من شخص ألماني غربي حطت طائرته في مطار بيروت، حقيبة تحتوي على خمسة ملايين دولار مقابل الافراج عن طائرة “لوفتهانزا”. كما التقى من شارك في عملية “مطار الثورة” في الأردن، وأيضاً في عملية “عنتيبي” التي تحولت مأساة، وأيضاً من شارك في التخطيط لعملية اللدّ التي نفذها يابانيون. كما اجتمع بالرجل الذي أشرف على تدريب كارلوس في أحد معكسرات اليمن الجنوبي في تلك الأثناء.
الصندوق الأسود
يقول المؤلف، وهو محق في ذلك، إنه عثر في “الصندوق الأسود” على ما لم يكن يتوقع على الاطلاق. من بين المعلومات التي أزالت حواجز شائكة من طريقه تلك التي تفيد بأن وديع حداد نجح في تجنيد شبان يساريين من جنسيات مختلفة أرسلهم بعد ذلك في مهمات صعبة ومشوقة وخطيرة الى أوروبا. كان من بين هذه الزمرة الغامضة، شاب كردي عراقي يساري يؤدي حالياً دوراً سياسياً فاعلاً في المشهد السياسي العراقي. لم يكن هذا الرجل إلا جلال طالباني. يقول الكاتب عن هذه الواقعة: “بعد أعوام سألت الرئيس طالباني حول هذه القصة، وفاجأني باعترافه بصحتها، ونشرت حديثه في صحيفة “الحياة”…”.
يرى المؤلف، على نحو من الكشف عن الجانب الآخر من الصورة، أن رفاق وديع حداد الذين يسّرت له الظروف التعرف إليهم عن كثب، انهم يشكلون نماذج من التجربة الإنسانية ـ السياسية لم تعد متوافرة في الزمن الحالي. يقول، وهو الذي احتك بهم عن قرب، إنهم “انقياء في هذا العالم الملوّث”. ويضيف: “حاولت أن أشتري دواء للرجل الذي أقعدته رصاصات “الموساد” فرفض وقال: إذا قبلت ثمن الدواء فسأشعر بأنني بعت الأسرار. إن هذا الرجل الذي يعيش في ظروف مالية بالغة الصعوبة هو عينه من تسلّم حقيبة الخمسة ملايين دولار”.
ولعل ما يجعل من هذا الكتاب صندوقاً أسود بالفعل، هو بالتحديد ما ينطوي عليه من حقائق ذاتية أكثر منها موضوعية عن أقدار هؤلاء المتمرّدين المتطلعين الى حياة أكثر توازناً وابتعاداً عن الظلم والتوحش الأعمى. ومع ذلك، لم يكن سهلاً الاقتراب من هذه “الحقائق” المذكورة لو لم يمهّد الكاتب للتوصل إليها من خلال المعلومات الموضوعية التي راح يجمع نتفها ببطء وحذر وهدوء من هذا المصدر أو ذاك، من هذه الحادثة أو تلك. والأغلب أن غسان شربل بدا محايداً حيث ينبغي أن يكون، مفسحاً في المجال أمام المادة الصلبة للمعلومات لتبوح عن نفسها بنفسها من دون أن يقحم نفسها بها. ولو فعل ذلك، وهو أمر لا ينسجم مع الطبيعة المهنية الصارمة للكاتب، لأطلق رصاصة الرحمة على الصندوق الأسود الذي أشار إليه. والأرجح أن في هذه الشرذمة من المعلومات والوقائع والأحداث والشخصيات التي نسجها الكاتب مستخدماً دينامياتها الذاتية في إطار من التجرد الكامل، بدت جذابة ومغرية، تطلق الخيال من مكانه وتحمل الكاتب، كائناً من كان، على التدخل قليلاً أو كثيراً هنا وهناك. غير ان شربل يحجم عن ذلك من دون أن يحرم كلاً من المراحل والشخصيات التي قاربها، حقها الطبيعي من السياق الدرامي والحبكة المشوقة والكشف المشهدي عن الغموض الشفاف الكامن فيها. من أجل هذه الأسباب، بدا الكاتب مهنياً لا يقبل المساومة على مادته الصحافية، وفي الوقت عينه، يرفض أن يفرغ هذه المادة من محتواها الإنساني وظروفها المعقدة التي يتعذر تقويمها بالمقاييس السياسية التي غالباً ما تخفي أجزاء حيوية من الحقيقة المنشودة.
وجوه بلا أقنعة
يقترب كل من الشخصيات التي حاورها الكاتب، أو تقصّى خيوطها العنكبوتية، من ضفة الحقيقة الإنسانية، والأغلب من المشهد الحميمي لمعاناة ذاتية مرهقة، تمكن الإعلام الموجه او المستخدم على نحو مبتذل، من طمسها باعتبارها من المحرمات التي لا ينبغي أن تخرج الى العلن. لم تعد شخصيات الكتاب، في هذا السياق من الكشف عن الحقائق الذاتية والموضوعية، تتحدث من خلف الجدران، من حيث يتحول الصوت حشرجة تقشعر لها الأبدان لأنها تبشر بالانتقام أو الموت أو إلقاء الذعر في القلوب. على النقيض من ذلك، تخلع هذه الشخصيات أقنعة ليست من صنعها بل من ابتكار الآخرين الذين لجأوا الى الوهم والتهويل للإيحاء بأن القناع هو الأصل والوجه هو الفرع. فإذا بهذه الشخصيات تثبت، على نحو غير مسبوق، بأنها من لحم ودم ومشاعر وذكريات وأحاسيس لا تختلف عن الناس العاديين. ولكن مع فارق أساسي أن هؤلاء انقلبوا على الأمر الواقع واستخدموا العنف، في تلك الفترة من طغيان الإيديولوجيا السياسية، لإيصال رسالة مرعبة الى من يهمّه الأمر. بدت هذه الشخصيات، بغض النظر عن ميلها الجارف الى إعلان التمرد ونبذ التاريخ الذي يكتبه الأقوياء وأصحاب المصالح والاستراتيجيات الكبرى، وليدة تلك الفترة الملتبسة من صراع الجبابرة على رقعة الشطرنج الدولية. ألقى هؤلاء حجراً في المياه الراكدة، ثم لم يلبثوا أن استمرأوا هذه المهمة، فراحوا يستعدون لتمزيق صفحات من كتاب التاريخ المعاصر واستبدالها بأخرى من صنعهم. والأخطر في هذا التوجه أنهم راحوا يفكرون بالاستغناء عن إلقاء الحجارة واستبدالها بعملية تنقية شاملة للمياه الملوثة. ومع ذلك، قد نقتنع أو لا نقتنع بمحاولة كهذه هي من نسيج المستحيلات او اجتراح المعجزات، ولكننا، من ناحية أخرى، نفاجأ على نقيض ما زُرع في أذهاننا، بأن تغيير العالم حاجة إنسانية ملحة على الدوام. وأن هذه المحاولة ليست حكراً على البشر الخارقين أو أولئك الذين نترقب قدومهم الى الأرض منذ أقدم الأزمنة من حيث لا نعلم من أين هم آتون وإلى أين هم بالبشرية ذاهبون. شخصيات الكتاب من هذا النسيج المغاير، الذين يسعون الى تقديم قراءة مختلفة للتاريخ والعالم والإنسان الفرد.
الكتاب: أسرار الصندوق الأسود
الكاتب: غسان شربل
الناشر: بيروت، رياض الريس للكتب والنشر، 08/09/2008
المستقبل