هامش باريس يصنع أناقة لمدينة تشبهها
فاروق يوسف
لا تقيم باريس في البانتيون. يمكن النظر من ذلك المرتفع المقدس حيث قبور العظماء إلى الضواحي البعيدة. لكن يمكننا أن نرى تلك الضواحي بيسر أكثر من سطح “لافاييت”، سوق الملابس الشهيرة. لا تسوّق باريس الموت في صفته أثرا خالدا بل تنظر إلى حاضرها بعين التاجر المترف بتوقعاته المرتبكة. سكان باريس البعيدون كانوا موضوع رحلتي الأخيرة إليها. أبناء الهامش الذين يهبون باريس المعنى الذي تنتظره في صفتها عاصمة خالدة للنور. هناك لا أحد يسأل أحدا آخر “من أين أتيت ولا كيف أتيت؟”. يكفي أن يكون المرء في باريس ليكون فرنسيا بمعنى من المعاني. لكنه المعنى الذي تطمح إليه فرنسا، بحسب تعبيرات ثورتها (الإخاء، العدل، المساواة). صحيح أني لم أجرب أن أكون فرنسياً، غير أن الفضاء من حولي كان يعدني بنوع فرنسي من الرؤية إلى الآخر، حيث أقف ويقف معي الملايين ممن تعدهم باريس بنورها.
لملمت المرأة الضئيلة نفسها حتى بدت كما لو أنها تتكور على نفسها وهي تراني أقف قريبا منها وفي يدي عدسة تصوير. لولا حركتها المرتابة والمستفزة تلك ما كنت لأنتبه الى وجودها. كانت حواسي كلها متوجهة إلى نصب أرمان المدور، الذي هو عبارة عن ساعات مختلفة الحجم، بعضها فوق البعض الآخر. ساعات تخترق الفضاء، كل واحدة منها تقترح وقتا مختلفا. لم يكن أرمان من خلال ساعاته قد فكر في جمالية فنية من نوع ما، بل كانت فكرة الزمن المستعاد اضطرارا هي ملهمته التي قرر أن يمشي وراءها صاغرا كما نفعل نحن في كل لحظة.
امرأة سان لازار
قريبا من محطة سان لازار في باريس وجدتني فجأة أمام تمثال أرمان وأنا أنظر بقلق وارتباك بين حين وآخر إلى ساعتي. كان الزمن يحيط بالمكان ويحرّك هواءه غير أن ظهور تلك المرأة جعلني أشعر أن ساعتي هي الأخرى قد توقفت عن العمل، وصارت جزءاً من مأثرة أرمان. حينذاك قررت أن اتلصص على المرأة التي صارت تستعيد هيئتها تدريجيا مطمئنةً بعدما رأتني أبتعد عنها. كان لديها ما تجمعه من الأشياء من حولها: أكياس صغيرة مبعثرة صارت تلتحق بها، بجسدها الضامر وأناقتها الرثة التي لا تذكّر بزمن في عينه. لم تكن المرأة مختبئة وإن بدت لي أول وهلة كذلك. غير أنها بالتأكيد لم تكن تنظر إلى احد ولم تكن تنتظر مثلي. في المقابل بدا جلوسها هناك طقساً مألوفا بالنسبة الى الواقفين من الشباب المهاجرين الذين لم يلتفت أحد منهم إليها. حين رفعت رأسها في اتجاه ساعات أرمان، صارت تتكلم بصوت عال. لم تكن لغتها فرنسية، ولا أيّ لغة يمكن تسميتها. تخيلت أنها كانت تخاطب الزمن بلغته. تلقي الكلمات كمن يلقي حجاراً في مياه بركة. كلمة شاردة، ومن ثم نظرة متأملة وبعدها كلمة أخرى وهكذا. هل كانت تهذي غاضبة وهي تخاطب أحدا ما يقيم في أعماقها؟
بين الربابة والمسجد
على النقيض من امرأة الساعات، كانت امرأة بوبور. فيما كنت أتابع لعبة أحد الباعة وهو يسعى إلى اقناع الطيور الواقعية بالاختلاط بطيوره المنحوتة من مادة رخيصة مصدر تسلية خيالية لي، سمعت جملة موسيقية قصيرة جدا تتكرر بوقع ثابت كما لو أنها ضربات ناقوس كنيسة منسيّ. لم يكن هناك عزف موسيقيّ. إبرة تضرب الجسد أو قطرة مطر تهبط أو جزء من كلمة يتكرر كلازمة في أوقات مضبوطة في نسبتها. جملة قصيرة مثل أنين خافت تتكرر برتابة صار لها الفضاء المحيط بمركز جورج بومبيدو مائدةً مفتوحة. لم يقل لي صديقي الرسام هيمت كلمة حين صرنا معاً نبحث عن مصدر ذلك الصوت الساحر بغرابته. حين وقفنا أمام المرأة المسنّة ذات المظهر الريفي التي كانت تعزف على آلة موسيقية تشبه الربابة البدوية، أحاطتنا ثقة تلك المرأة بما تفعل بالدهشة. مرّت أربعة أيام ونحن نحجّ إليها كل يوم لنجدها جالسة على الأرض في المكان عينه، في ظل عمود مرمري أبيض ضخم هو جزء من معمار المركز الفني العتيد. لم تكن الجملة الموسيقية القصيرة قد تغيرت أو امحت أجزاء منها أو أضيفت إليها أجزاء أخرى. هي على العموم جملة لا تؤسس لحوار متوقع بين إثنين. ذلك لأنها تحضر مقطوعة عما قبلها وعما بعدها ولا تعلق بشيء حين تصعد مثل بخار. ثياب المرأة الريفية لم تكن تشي بالمكان الذي قدمت منه، غير أن المرأة حين سمعت صاحبي يسألها بالفرنسية قالت له: بلغاريا. فكأنها تظهر اهتمامها بشرح مصدر جملتها الموسيقية أو التصريح بمواطنتها، بعدها استفهمت بلغة لم يفهمها أحد منا فأجابها صاحبي بطريقتها: عراق. توقفت المرأة المسنّة عن العزف ونظرت إلينا وصارت تتكلم بأسى وإشفاق. كان واضحا أن المرأة تألمت من أجلنا فيما كنا نضع النقود في الإناء الصغير الذي جعلته أمامها. كلّمتنا ونظرت إلينا وهذا ما لم يكن في إمكان امرأة باربيس العربية أن تفعله. تلك المرأة التي لم أر وجهها غير أنها ملأتني حزنا. فحين كنا نمشي في أحد أحياء باريس الأفريقية برز فجأة أمامنا مسجد اسلامي صغير فقررت أن أصوّره: الباب والدعاء والبسملة المكتوبة بخط مغربي. لكن هيمت قال لي فجأة: لم تر ما هو أهم من المسجد. التفتُّ إلى حيث أشار خفيةً، فإذا بي أرى امرأة جالسة على الأرض قرب المسجد وقد وضعت يدها على وجهها لتخفيه كلية. من المؤكد أنها ظنت ان جلستها هناك كانت موضوعا لمحاولة التصوير. الأسوأ لو أنها تخيلتنا نوعا من الشرطة السرية التي تفتش عن المتسولين وتعتقلهم. ضعف حجتها في مقاومة الخارج كان جليا بعكس امرأة الساعات التي كانت تحارب الزمن بضراوة الأنثى التي غادرتها منذ زمن بعيد.
وعد بأناقة متمردة
لقد التقيت ثلاث نساء في باريس لم يكنّ فرنسيات، غير أنهن، كما شعرت، كن يمثلن جزءاً من روح باريس المسرفة في تنوعها والمتباهية بتعدد وجوهها وأفواهها: المدينة التي قبلت بساركوزي ملكا. هل كانت ماري انطوانيت أفضل من كارلا؟ سيعجب ساركوزي بهذا السؤال المداهن والمريح. ننتظر من فرنسا الشيء الفاتن الذي يهبها إياه الآخرون. فما ان اكتشفت فرنسا أن زمنها الاستعماري قد انتهى حتى صارت تتحدث بلغة ثقافية شفافة مع الآخر الذي كانت إلى وقت قريب تصنّفه تابعا. رأيت صور كارلا وهي عارية على جدران باريس وخصوصاً في الضواحي، في المحيط الذي يعرفه زوجها ساركوزي جيدا يوم كان وزيرا للداخلية، وهو ابن تجربة العنف الصعبة. لا فرق ان يكون صانعها أو إنتاجها، المهم أن يكون الآن قائدها في الفضاء الاميركي. كارلا ليست نساء فرنسا كلهن. هي النموذج الذي يفضل الذاهب إلى باريس أن لا يلتقيه. وقد لا يلتقيه. حين ضعت في السوق الأفريقية نسيت كارلا بل كل النساء الأوروبيات وتمنيت لو أن الأنوثة خلقت أفريقية بقوة الجمال الذي لا يمكن حصر تجلياته. لا أتحدث عن الجسد فهو معجزة جمال بريء مصدرها الخالق، بل أتحدث عن الثياب التي تصنع لذلك الجسد إيقاعه البصري الساحر. ربما هي مفارقة غريبة أن تضعك باريس في قلب أفريقيا. يصدق هذا القول أيضا على الوجوه الهندية والصينية لباريس. الانوثة الافريقية حاضرة بقوة في باريس بما يجعل عاصمة الموضة تنصت بشغف وهلع وانبهار إلى ذلك العصف الأفريقي من الأناقة الفالتة مثل نص مفتوح. وهي أناقة لا تأسر الحواس وحدها، ذلك لأنها تقترح وعدا ثقافيا مكتظا بخيال المدينة الفاضلة. حين تقف الأفريقية في المترو أو تمر في الشارع فإنها تملك الفضاء كله. كل شيء من حولها يكتسب نضارة البراري التي تنسج الغزلان المسرعة خيال خضرتها. شهوات وأدعية تختصرها كل حركة وكل لون. لا تحضر الزخرفة إلا من أجل المعنى، وهو معنى يجد في غموضه كلّ مسرّته. لقد شعرت أن النساء الأفريقيات يلقّنّ باريس كل لحظة درسا في الاناقة، هي أناقة الهامش الذي ما فتئت عاصمة النور تنظر إليه بحذر رغبةً في إعادة صناعته فرنسياً. وكما يبدو لي فإن تعبير “الهجرة المنتقاة” الذي هو نوع من رد الفعل العنصري المتستر، حضر متأخرا كثيرا.
ارخبيل الملذات
أفريقيا كلها في باربيس، احد أحياء باريس المكتظة بالمهاجرين. هناك أشياء من الهند والصين يمكن المرء أن يهتدي إليها أيضا عند حدود المنطقة عينها. هذا باذنجان من مالي، الثاني باذنجان من بوركينا فاسو. ضحكتُ لأني توهمت الأول نوعا أخضر من الطماطم فيما كنت متأكدا من أن الثاني هو نوع مصغّر من الفلفل. أما الأشياء الغريبة الأخرى والمعروضة في صفتها خضروات وفواكه فلم أسأل عنها، ذلك لأنها بدت لي مثل حطب المواقد. من كل هذا اليباس يستخرج الأفريقي لذة طعام، هي ابنة التجربة الفذة في التماهي الباسل والمضني مع الطبيعة. لم أجرّب الدخول إلى مطعم أفريقي خوفا من المفاجآت الغذائية، غير أن الهرب من رائحة الأطعمة الأوروبية قادني ذات مرة إلى مطعم صيني يقع قريبا من “محطة الشرق”. مطعم بلا رائحة مزعجة، قلت لنفسي، هو إذاً! منذ اللحظة الأولى اكتشفت أني اهتديت إلى مطعم ينطوي على فكرة انتحارية (عشرة أورو مقابل أن تأكل قدر ما تستطيع). وكما توقعت كان ذلك المطعم الصيني مكانا يرتاده ذوو الأحجام الكبيرة. الصحون الممتلئة بالطعام لا يمكن أن تراها في مطعم آخر. في إمكانك أن تأكل حد التخمة. جرّبت الأصناف الغذائية المعروضة كلها، وهي لذيذة فعلا. بدأتُ بالمقبّلات وأنتهيت بالحلوى مرورا بالطيور والأعشاب والأغذية البحرية. ماذا بعد؟ لا بد من المغادرة. حين غادرنا المطعم نظرت إلى صاحبي مستفهما: كما لو أننا لم نأكل شيئا. طعامهم خفيف الظل مثلهم. ترى الصيني ولا تراه في الوقت نفسه. هذا ما يقوله الفرنسيون وهو ما يعبّر عن تجربة واقعية في العيش. لذلك يتمنى الفرنسيون لو كان كل الأجانب صينيين. في باربيس، وهو الحي الأفريقي بضراوة، لا يعد الفضاء إلا بباريس التي لا يحلم بها الفرنسيون. وهي باريس التي تودّ أن تكون عاصمة العالم