الانهيار المالي يتعمّق
مايكل روبرتز
بينما أكتب، تتعرّض الأسواق الماليّة في وول ستريت، ونيويورك، ولندن، وفي أنحاء العالم للاضطراب. فخلال 24 ساعة، اختفى مصرفان من أكبر أربعة مصارف استثماريّة في الولايات المتّحدة. وأعلن «ليمن بروذرز»، الذي بقي في السوق لمدّة 158 سنة، إفلاسه وخسر 25.000 أجير حول العالم، وظائفهم. كما استولى «بنك أوف أميركا»، وهو من أكبر البنوك الأميركيّة، على أهمّ المصارف الاستثماريّة في العالم: «ميريل لينش». وفعلياً، أمرت السلطات الماليّة الأميركيّة «بنك أوف أميركا» بتبنّي «ميريل لينش» ودفعت 50 مليار دولار لها في المقابل.
ولو لم يحصل ذلك، لأفلس هذا المصرف أيضاً، وكان حصل الأسوأ للرأسماليّة وهو قصور «ليمن» و«ميريل لينش» عن تطبيق عقودهما والتزاماتهما، ما كان سيؤدّي إلى إفلاس عدد آخر من المصارف، في وقتٍِ تتردّد فيه شائعات عن أنّ 15 مصرفاً هي في مأزق حالياً.
ومع إفلاس مصرف «BEAR STEARNS» في آذار الماضي، اختفت 3 من أكبر خمسة مصارف استثماريّة في الولايات المتّحدة في دخان الأزمة الماليّة.
إضافةً إلى ذلك، أعلنت أكبر شركة تأمين أميركيّة AIG حاجتها لمبلغ 40 مليار دولار خلال ساعات، تحت طائلة الإخلال بالتزاماتها. وطلبت قرضاً من الاحتياط الفدراليّ قبل فوات الأوان!
وحدث كل ذلك بعد أسبوع فقط من تأميم أكبر شركة شبه حكوميّة في العالم للقروض العقاريّة «fannie mae» و«Freddie mac» لحماية مالكي العقارات الأميركيّين وقطاع القروض العقاريّة من الإفلاس. وكان هذان الدائنان يملكان أكثر من 40% من القروض العقاريّة في الولايات المتّحدة و85% من القروض الجديدة. وهذا يعني أنّ عدم تمكّنهما من العمل، كان سيؤدّي إلى الانهيار التام للسوق العقاريّة. ولذلك، اضطرّت إدارة بوش إلى تأميمهما!
كيف حصلت هذه الفوضى العارمة في الرأسماليّة؟
لم يُشكّل الاقتصاديّون الرأسماليّون بعد، أيّة فكرة حقيقيّة حول الموضوع. فيقول البعض إنّ الخطأ مصدره المديرون التنفيذيّون الجشعون في المصارف، الذين خاضوا غمار استثمارات متهوّرة وأقرضوا الكثير من المال لأفراد لم يتمكّنوا من تسديد الدين. أمّا البعض الآخر، فيعتقد بأنّ الخطأ ارتكبه الاحتياطي الفدراليّ ومصارف مركزيّة أخرى، لأنها تركت مستويات الفائدة متدنّية، ما شجّع الناس على الاستدانة بشكل واسع كما شجع المصارف على الإقراض.
وهناك رأي يقول إنّ المصارف المركزية فشلت في «تنظيم» البنوك وبيوت الاستثمار من أجل التأكّد من أنّها تملك الأموال الكافية للعمل.
وربّما قضيّة انهيار شركة السفريات البريطانيّة XL هذا الأسبوع، التي خلّفت المئات من العاطلين من العمل وعشرات الآلاف من المسافرين الذين لم يتمكّنوا من العودة إلى منازلهم، تشير إلى أكثر الدلائل إثارةً للاهتمام، التي تُفسّر لماذا تجرف هذه الأزمة الماليّة هذا العدد الكبير من الشركات الماليّة الضخمة.
في السياق، يُفسّر المدير النتفيذي لـXL، باكياً أمام الصحف، أسباب انهيار مؤسّسته دون إنذار، ويعيدها إلى سببين: ــ الارتفاع الحاد في أسعار النفط الذي رفع تكاليف الشركة من خلال دفع نفقات وقود الطائرات. وثانياً الفشل في توفير المال الإضافيّ من قبل المصارف لتغطية النفقات الضرورية لاستمراريّة عمل الشركة.
وحدث ما حدث. ويكمن الخوف جرّاء أزمة الائتمان العالميّة من عدم رغبة المصارف في إعطاء القروض بنسب فائدة معقولة أو بشروط معقولة للشركات. لذلك، تُدفع المؤسّسات التي تُعاني من الصعوبات الماليّة، إلى الإفلاس، فتوقّعوا المزيد خلال العام المقبل.
ولماذا لا تستطيع المصارف إعطاء المزيد من القروض؟ لأنّها خسرت الكثير من المال جرّاء انخفاض قيمة الأصول التي اشترتها خلال السنوات الخمس والست السابقة. لذلك، عليها أن تقتصد والكفّ عن إعطاء القروض. كما يجب أن تبحث عن رؤوس أموال ومستثمرين جدد قبل معاودة الإدانة (هذا يُفسّر لماذا لم يعط أي مصرف القروض لـBEAR STEARNS، و«ليمن»، و«نورثرن روك» وآخرين).
لكن ما هي هذه الأصول التي خسرت كلّ هذه القيمة؟ تُسمّى في الأساس ضمانات مدعومة من القروض العقاريّة. سابقاً في السوق العقاريّة، كانت المصارف ومؤسّسات البناء تجذب الإيداعات من المدّخرين، وتعطيها قروضاً لأشخاص يريدون شراء منزل. إذاً من الإيداع إلى القرض السكني، المعادلة سهلة.
إنّما بدأ بعض المصرفيّين بـ«الابتكار» من أجل زيادة الأرباح، فاستدانوا من مصارف أخرى من أجل تقديم القروض العقاريّة. وأصبح هذا «التمويل الشموليّ» رائجاً في المصارف الأميركيّة، مثل «نورثرن روك»، التي كانت أشبه بالمؤسّسة العقاريّة النائمة حتّى أواسط التسعينيات، وتحوّلت إلى «مصرف» مع حملة أسهم وإدارة شرسة من أجل جلب المال لمستثمريها (لا مودعي المال فيها).
لكن القصّة لم تنتهِ عند هذا الحدّ، بل أتت المصارف بموّال جديد يقضي بتجميع القروض السكنيّة في سلّة تضمّ قروضاً ذات نوعيّة مختلفة تستطيع بيعها كسندات أمان لمصارف أخرى أو لمستثمرين ماليّين. وأدّى ذلك إلى «تنويع» مخاطرهم. إضافةً إلى ذلك، أقامت شركات أخذت كل هذه المسؤوليّات عن عاتقها، وهذا أتاح للمصارف الاستدانة أكثر وإعطاء قروض سكنيّة. وأدّى ذلك إلى انخفاض السيولة لدى البنوك من 10% من قيمة القروض إلى 5% أو أقلّ، أو حتّى 20% في ما خصّ المصارف الأميركيّة الكبرى.
لكن المشكلة لم تكن موجودة، إذ كانت السوق العقاريّة الأميركيّة تزدهر وكانت المصارف تستعيد المال التي تقرضه من خلال ارتفاع أسعار العقارات. كما كان أصحاب المنازل يتحمّلون تسديد ديونهم وأيضاً أخذ قروض أكبر. إضافةً إلى ذلك، كانت المصارف تستطيع إدانة أناس لا مدخول لهم لأنّها كانت تعتمد على قيمة ارتفاع أسعار البيوت من أجل تغطية قرضها. بعد ذلك، فشل كل شيء. فمنذ عام 2006، بدأ ارتفاع أسعار العقارات يتباطأ قبل أن يهبط. وعندما أثّر انخفاض أسعار العقارات على قدرة المستدينين في تسديد ديونهم، انخفضت رغبتهم في الاستدانة. فهبط سوق القروض العقاريّة. وتلى ذلك خسارة دائني القروض العقاريّة لأموالهم، واكتشف أصحاب الضمانات المدعومة من القروض العقاريّة أنّ «عقاراتهم» لم تكن تستحقّ ما دفعوه، وأنّ الجميع في العالم المالي كان لديه هذه الضمانات.
لماذا انهارت السوق العقاريّة؟ لماذا لم تبق على خطّها المستقيم صعوداً كما حصل لمدّة 18 عاماً؟ أغامر بجواب. أولاً: هناك «دورات حركيّة» تعمل في ظلّ الرأسماليّة الحديثة. وأهمّ قوانين هذه الدورات هي الربحيّة. وكما أوضح كارل ماركس، تعتبر نسبة الربح مفتاح الاستثمار والنمو في النظام الرأسماليّ. في المقابل، عدم الربح يعني لا استثمار، ولا مردود، ولا وظائف. لكنّ دورات الربح تتحرّك من خلال حلقات، فيرتفع الربح لفترة قبل أن يبدأ بالهبوط (…)
ومثّل هذا الارتفاع الهائل في أسعار المنازل، انحرافاً كبيراً في موارد الرأسماليّة في اتجاه قطاعات غير منتجة، لم تؤدِّ إلى أي ربح جديد، من خلال الاستثمارات في التكنولوجيا والقوى العاملة.
في النتيجة، خفّض ذلك قدرة الرأسماليّة على الاستثمار في تكنولوجيا جديدة من أجل دفع النمو الاقتصاديّ. فكانت العمليّة خلق رأسمال خياليّ. وهذا يتبيّن من خلال حدث واضح. فيمكنكم قياس حركة أسعار المنازل بين 1991 و 2006. عام 1994، توقّفت أسعار البيوت على المؤشّر 100، فيما ارتفعت إلى 200 عام 2006، ما يعني أنّها تضاعفت. وفعلياً، لم تكن أسعار العقارات في السوق منسجمة مع القيمة الحقيقيّة للمنزل. لقد أصبحت السوق العقاريّة مكاناً للمضاربة الماليّة. إلى ذلك، لا تعمل الرأسماليّة بسلاسة وبتطوّر هادئ، بل تعمل بعنف، وثقل، وبدورات انتعاش وانحسار.
إذاً، ماذا سيحصل الآن؟ سيفشل المزيد من المصارف، كما ستزداد التعاسة في الأسواق الماليّة. وسيخسر الموظّفون، الذين لا يهمّهم إذا ما خسر المستثمرون الكبار أموالهم، وظائفهم. لكنّنا لا نتحدّث عن الرؤساء الأغنياء الذين سبّبوا كلّ هذه الفوضى (والذين سيغادرون حاصلين على أرباحهم وتقاعدهم)، إنمّا نتكلّم عن عشرات الآلاف من ذوي الدخل المتوسّط الذين وضعوا كل مدخّراتهم في أسهم المصارف التي يعملون فيها، والتي أصبحت دون فائدة بعد اليوم.
علاوةً على ذلك، سيؤدّي انهيار النظام الماليّ إلى انكماش اقتصاديّ خطير بدأت ملامحه بالبروز في الولايات المتّحدة وبريطانيا وأوروبا واليابان، التي دخلت في الانهيار الاقتصادي. وسيؤدي ذلك إلى كفّ الناتج عن الارتفاع، وإلى فشل الشركات وزيادة البطالة والتضخّم بشكل ملحوظ. في المقابل، ضاع السياسيون في هذا الخضمّ. فلا تعرف الإدارة الجمهوريّة اليمينيّة ولا «العمّال الجدد» ما العمل. بالفعل، ارتبط «العمّال الجدد» كثيراً بمثال الرأسماليّة الأميركيّة مع «خياراتها الحرّة» و«فتح الأسواق»، ما يجعلهم أكثر نكراناً من الجمهوريّين. وأُممّ في الولايات المتّحدة دائنو القروض العقاريّة. أما في بريطانيا، فصدموا فقط وثرثروا حول «أسوأ أزمة خلال 60 عاماً».
في النهاية، ستتعافى الرأسماليّة، إلا إذا أتت حكومات تريد إنهاء حكم رأس المال. لكنّ الرأسماليّة ستتعافى فقط إذا ما أنعشت الربح. ولذلك، من الضروري القضاء على عدد من الوظائف وضمّ شركات لأخريات أغنى. وقد بدأت هذه العمليّة في القطاع الماليّ وستتواصل في كلّ الاقتصاد.
(عن «Socialist Appeal»، ترجمة شارة جزّار)
الأخيار