تناقضات الرأسمالية المتوحشة
محمود عوض
كما الطوفان أو الإعصار، تلاحقت حالات الخسائر والإفلاسات والانهيارات في مؤسسات وشركات وبنوك محورية في الاقتصاد الأميركي خلال الأسابيع الأخيرة. تابعنا رابع أكبر البنوك الأميركية يعلن إفلاسه بعد 150 سنة من النشاط. تابعنا انهيار أكبر شركتين للرهن العقاري وقيام الحكومة الأميركية بوضع اليد عليهما. تابعنا قيام الاحتياطي الفيدرالي الأميركي (البنك المركزي) بالتدخل المباشر لإنقاذ أكبر شركة أميركية دولية للتأمين، والمستمرة منذ 90 سنة، قبل انهيارها بأربع وعشرين ساعة من خلال إقراضها 85 بليون دولار. تابعنا ارتفاع إجمالي التدخل الحكومي الأميركي لإنقاذ تلك المؤسسات المالية والعقارية في القطاع الخاص بما بلغ حتى كتابة هذه السطور سبعمئة بليون دولار من أموال دافعي الضرائب الأميركيين، في انقلاب كامل وصريح على فلسفة اقتصاد السوق التي تلح بها أميركا على كل دول العالم.
كان ميلتون فريدمان الاقتصادي الأميركي الراحل وأحد أبرز المدافعين عن الليبرالية الاقتصادية يقول ويكرر: «إن المسؤولية الاجتماعية الوحيدة للبيزنيس هي أن يزيد أرباحه». يعني: المهمة الوحيدة لأصحاب المال هي أن يزيدوا أرباحهم. بالطبع كان الوجه الآخر للشعار نفسه ـ وحسب فلسفة الليبرالية الاقتصادية ذاتها ـ هو أن مبرر استحقاق تلك الأرباح أساسه القدرة على المخاطرة، لأنه في حال الفشل يكون العقاب هو الخسارة والإفلاس والخروج من اللعبة. الآن تنقلب الآية. فعند الأرباح يكون صاحب المال الخاص هو وحده المستفيد. لكن عند الخسائر يتحمل دافعو الضرائب الغرم عن ما لم يستشرهم أحد فيه أصلا.
في هذا الإعصار الأخير إذن تابعنا اللعبة وعكسها. تابعنا توسعات غير مسبوقة في الإقراض العقاري في السوق الأميركية وقروض غير منضبطة من بنوك راسخة ومضاربات مذهلة على سلع ومشتقات باتساع السوق الدولية. وحينما جاءت الواقعة وبدأ الإعصار الاقتصادي لم يذكرنا أحد بما كان جرى في أميركا ذاتها في سنة 1990 وفي سنة 1987 ولا حتى بالكساد الكبير في سنة 1929. بكلمات آلان غرينسبان الرئيس السابق للاحتياطي الفيدرالي الأميركي ـ البنك المركزي ـ طوال 19 سنة، فإن هذه الأزمة الأخيرة الراهنة هي الأخطر منذ قرن كامل، معتبرا أن القسوة الاستثنائية لهذه الأزمة المالية ستؤدي إلى انهيار عدد كبير من المؤسسات المالية، وأن «الحكومة الفيدرالية لا يمكنها أن تضع شبكة أمان فوق كل الشركات المالية التي تتعرض للإفلاس». مع ذلك فقد اضطرت الحكومة الأميركية إلى تدخل غير مألوف من السلطات العامة في الولايات المتحدة حيث الحرية الاقتصادية هي المعيار. والسبب في رأي آلان غرينسبان هو «العولمة المتسارعة في السنوات العشر الأخيرة» إذ «لم نشهد أبدا هذه الدرجة الكبيرة من تشابك المصالح على الصعيد العالمي».
ففي الجانب الآخر من المحيط الأطلسي قام بنك انكلترا بتأمين 20 بليون جنيه إسترليني (36 بليون دولار) والبنك المركزي الأوروبي تدخل بمئة بليون دولار لمنع امتداد الانهيار الأميركي بالحدة نفسها إلى دول الاتحاد الأوروبي. اليابان واستراليا والهند ضخت 33 بليون دولار. وفي الاتجاه نفسه تحركت حكومات وبنوك مركزية في آسيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط لتهدئة التراجعات الحادة التي شهدتها بورصاتها المالية ذات الارتباط العضوي بالاقتصاد الأميركي. وبينما أفصحت بعض الدول بشفافية عن حجم ومستوى تدخلاتها في الأسواق المالية لجأت دول أخرى إلى درجات مختلفة من التعتيم الإعلامي حتى لا تفيق شعوبها على حجم الخسائر المالية الجارية، سواء نتيجة لمضاربات الأموال الأميركية في بورصاتها المحلية أو مضارباتها هي في البورصات الأميركية. وأصبح حجم الخسائر في كل حالة يتوقف على مدى انجرار الدولة سابقا لتحرير سوقها المالية وسماحها بالدخول والخروج السهل للأموال استجابة لإلحاح صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومن ورائهما ضغوط الحكومة الأميركية ذاتها.
كشفت هذه الأزمة /الإعصار عن تناقضات العولمة المالية كما استمرت أميركا تبشر بها. من ناحية تريد أميركا من الآخرين فتح مؤسساتهم المالية أمامها وإزالة كل قيد على دخول وخروج الأموال. ومن ناحية أخرى هي تمارس أقصى درجات التدخل الحكومي عند الضرورة، وفي سوقها الخاص, وبما يناسب مصالحها كما تبين في هذه الأزمة الراهنة، إذ قامت باستخدام أموال عامة، أموال دافعي الضرائب، لإنقاذ مؤسسات خاصة بدل تركها تتحمل مسؤولية وعواقب أخطائها بما يقتضيه منطق الليبرالية الاقتصادية وحرية السوق وترك «اليد الخفية» تصحح ما جرى.
الدول الوحيدة التي نجت من هذه الأزمة /الإعصار هي بالضبط الدول نفسها التي استخلصت الدروس الصحيحة من ذلك الإعصار الاقتصادي الآخر الذي كانت دول جنوب شرق آسيا شهدته في سنتي 1997/1998. وقتها أيضا استجابت تلك الدول لإلحاح صندوق النقد والبنك الدوليين وضغوط الحكومة الأميركية لكي تفتح أسواقها وتطلق الحرية الكاملة في تعاملاتها المالية دخولا وخروجا بحجة أننا دخلنا عصر العولمة. بالطبع نتذكر ما جرى من زلزال اقتصادي مفاجئ إذ استيقظت تلك الدول ذات صباح لتجد نفسها في مواجهة الخراب والإفلاس. في حينها كان مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا هو الوحيد الذي وقف معترضا وفارضا قيودا صارمة على حركة دخول وخروج الأموال غير عابئ باعتراضات وإدانات أخطبوط العولمة. لكن في المقابل كانت ماليزيا هي أول دولة تخرج من توابع ذلك الزلزال الاقتصادي وبكلفة أقل كثيرا مما تحملته دول أخرى.. من أندونيسيا إلى كوريا الجنوبية وتايلاند وباقي السلسلة.
في مقدمات الأزمة الراهنة كان ملحوظا من البداية أن دولا بحجم الصين مثلا رفضت الانجرار إلى لعبة المضاربات .. سواء بأموالها هي داخل أميركا أو بأموال أميركا داخل سوقها . دول أخرى بمستوى الجزائر مثلا أصرت على فرض ضرائب على الأرباح المحولة من داخل الجزائر إلى خارجها، إضافة إلى ضرائب أخرى على الأرباح الأجنبية داخل الجزائر. وللعلم : هذه أساسا أفكار وإجراءات دعا إليها أصلا مفكرون رأسماليون، أحدهم فاز بجائزة نوبل في الاقتصاد. بالطبع لم تنجح الجزائر في ذلك إلا بعد أن نجت بنفسها من أخطبوط القروض والديون الأجنبية فأصرت على تسديد كل ديونها الأجنبية قبل مواعيد استحقاقها. وللغرابة .. تلك خطوة كانت الدول الدائنة ترفضها من البداية لأنها لا تستفيد فقط من الحصول على فوائد وأقساط الديون، وإنما لأن استمرار الديون يجعل الباب مفتوحا لفرض وصاية صندوق النقد والبنك الدوليين وكل قوى العولمة.
كشفت الأزمة الراهنة أيضا عن تناقض آخر وإن يكن بشكل غير مباشر. في الشهر الماضي مثلا فكرت الحكومة المصرية ـ فقط: فكرت ـ في إقامة مصنع جديد للحديد يحتاجه السوق المصري. لكن أعضاء فريق أميركا وصندوق النقد والبنك الدوليين داخل مصر اعترضوا بصوت رجل واحد قائلين: لقد التزمنا سابقا بإخراج القطاع العام المصري من الصناعة فكيف نسمح الآن لهذا القطاع العام بإقامة مصنع جديد حتى ولو كان التمويل سيتم من أرباح هذا القطاع العام ذاته؟ هذا تدخل حكومي في اقتصاد السوق حتى لو لم يكن سيتم بأموال حكومية.
في الأزمة الراهنة تستخدم الإدارة الأميركية أموالا حكومية لتصحيح انحرافات وانهيارات مالية في اقتصاد السوق. وفي الجانب العقاري من الأزمة هبطت أسعار المنازل بنسبة خمسة وعشرين في المئة ومن المتوقع أن يصل الهبوط إلى نسبة أربعين في المئة نتيجة توسعات غير مدروسة في التمويل واستخدامات غير واعية لوظائف البورصات المالية.
في المقابل، بل وفي ذروة هذه الأزمة الراهنة التي انتقلت من أميركا إلى بورصات العالم، يذيع التلفزيون الحكومي المصري حملة إعلانية غريبة ومريبة لحث المواطن العادي ـ غير الخبير أصلا بالبورصة ولا بالأوراق المالية ـ لكي يشتري لنفسه أسهما بواسطة البورصة بلا رقيب ولا حسيب ولا وسيط كما لو أن مفهوم البورصة يتساوى مع مفهوم كازينو القمار. لكن حتى القمار يفترض فيه المكسب والخسارة. لكن بالمنطق الحكومي المصري المستجد هذا فإن المقامرة بشراء أسهم ـ أي أسهم ـ هي عملية مضمونة المكسب والربح. لقد أصبح الأمر هزلا في موقف الجد، وكأن أصحاب تلك الحملة الإعلانية يسعون فقط إلى شفط أموال المواطن البسيط لتعويض خسائر البورصة المصرية التي تراجع مؤشرها بنسبة 13 في المئة في أسبوع وخمسين في المئة خلال ثلاثة أشهر. ومن قبل جرى الإلحاح على الحكومة المصرية لكي تضع يدها على أموال التأمينات الاجتماعية ـ وهي أساسا أموال خاصة ـ حتى تضعها تحت تصرف بنك أميركي محدد بحجة أنه الأقدر على استثمارها. هذا البنك بحد ذاته هو الآن في مقدم عشر بنوك أميركية أخرى مرشحة للانهيار والإفلاس في سياق الأزمة الراهنة.
في ما جرى ويجري في سوق المال الأميركي، ومنه بالامتداد إلى الدول الأخرى، دروس عديدة مستفادة بالنسبة لدولنا النامية أساسا. أهم تلك الدروس وأخطرها على الإطلاق هو أن أسواق المال في دولنا النامية يجب تحصينها ضد جشع الآخرين، وان بنوك القطاع العام وشركات التأمين في بلادنا هي آخر الحصون المتاحة ضد قوى الخصخصة وقطاع الطرق… وان الرأسمالية المتوحشة لم تعد تستطيع أن تكون طليقة حتى داخل بلدها الأم بعد كل ما لحق بالمواطن الأميركي من خراب وإفلاس. وفي مسار هذه الأزمة الأميركية الراهنة ربما تكشف الحقائق تاليا إلى أي حد أصبحت حكوماتنا وأفرادنا ـ من الخليج إلى المحيط ـ هم أيضا من بين ضحاياها.
* كاتب مصري.
الحياة – 21/09/08