ثمرة النفاق
جوزف ستغليتز*
بيوت من ورق، ودجاج تتجّه إلى قنّها لتبيت. اختر صورتك المبتذلة. يُعدّ الانهيار الجديد في الأزمة الماليّة، الذي قُورن بانهيار بورصة وول ستريت عام 1929، وليد قلّة أمانة المؤسّسات الماليّة، وعدم أهليّة صانعي القرار. لقد اعتدنا هذا النفاق. فالبنوك ترفض أي اقتراح لضبطها، وتصدّ أي خطوة تجاه تدابير تمنع الاحتكارات. وفي المقابل، عندما تقع المشاكل، تسارع إلى مطالبة الدولة بالتدخّل: يجب تقديم الكفالة لها، فأهميّتها تجعلها ممنوعة من الفشل.
لقد تعرّفنا إلى حجم شبكة الأمان. فمع انهيار البنك الاستثماري «ليمن بروذرز»، أحد أشهر أسماء «وول ستريت»، برزت حدود الاحتياط الفدرالي الأميركي وعدم رغبة الخزينة في الإغاثة.
ويتمحور السؤال الكبير حول الخطر المنهجي: إلى أي حدّ يمكن لانهيار مؤسسّة أن يهدّد النظام المالي أجمع؟ ولطالما سارعت «وول ستريت» إلى المبالغة في الخطر المنهجي. خذوا على سبيل المثال الأزمة الماليّة المكسيكيّة عام 1994. لكنّها في المقابل، ترفض السماح بفحص معاملاتها الخاصّة.
وخلال الأسبوع الفائت، رأى أمين وزير المال الأميركي، هنري بولسون، أنّ هناك خطراً منهجياً يسمح للحكومة بإنقاذ عمالقة الإقراض العقاري «freddie mac» و«fannie mae»، لكنّه لم يجد خطراً كافياً في ما خصّ «ليمن بروذرز».
وبرزت الأزمة الماليّة الحاليّة من خلال انهيار هائل في الثقة. وراهنت البنوك على الأصول والمدّخرات. كما صمّمت معاملات معقّدة من أجل تحريك المخاطر وإخفاء انخفاض قيمة المدّخرات. لكّن اللعبة ليست تعادل الربح مع الخسارة، بل ارتفاع مستوى الخسارة مقارنةً مع الربح.
وفيما يستفيق الناس على وهم النظام المالي، وفي حين يزداد كرههم للمخاطرة، تقع الخسارات، ويهبط السوق ويخسر الجميع.
وتتوقّف الأسواق الماليّة على الثقة، ولقد تآكلت الأخيرة. وفيما يُشير انهيار «ليمن بروذرز» إلى انخفاض الثقة، ستتردّد الانعكاسات لاحقاً.
لكنّ الأزمة تمتدّ إلى أبعد من القطاع المصرفي. فثمّة تضاؤل عالميّ في الثقة بصانعي القرار الأميركيّين. وخلال اجتماع الدول الثماني في هوكايدو في تموز الماضي، طمأن الأميركيّون الحضور إلى أنّ الأمور تتغيّر إلى الأفضل، لكن الأسابيع التي تلت الاجتماع لم تؤكّد سوى عدم الثقة بالخبراء الحكوميّين.
إذاً، إلى أي حد يمكننا أخذ المقارنات مع أزمة 1929 على محمل الجدّ؟ يعتقد معظم الاقتصاديّين أننا نملك الوسائل النقديّة والماليّة، والفهم اللازم من أجل تفادي انهيارات بهذا الحجم.
في المقابل، يستطيع صندوق النقد الدولي والخزينة الأميركيّة، بالتعاون مع بنوك مركزيّة ووزراء مال من بلدان عديدة أخرى، تحمّل «سياسيات الإنقاذ» التي أودت بإندونيسيا إلى الكارثة الاقتصاديّة عام 1998. لكن يصعب الإيمان بسياسات حكومة أشرفت على الإدارة السيّئة للحرب على العراق ولإعصار كاترينا. وإذا كان بإمكان أيّة إدارة تحويل هذه الأزمة إلى كساد اقتصاديّ جديد، فهي إدارة جورج بوش.
وفشل النظام المالي الأميركيّ في مسؤوليّتيه المصيريّتين: إدارة المخاطر وتخصيص رأس المال. ولم تنجح الصناعة في القيام بعملها، كخلق منتجات تساعد الأميركيّين على إدارة المخاطر من خلال البقاء في منازلهم عندما ترتفع نسبة الفوائد أو تنخفض أسعار العقارات، وعليها الآن أن تواجه التغيير في تركيبتها التنظيميّة.
لكن للأسف، صُدّر العديد من أسوأ عناصر النظام المالي الأميركيّ إلى باقي العالم، كالقروض العقارية العالية المخاطر والممارسات التي أوصلت إليها.
وحصل كل ذلك تحت شعار الإبداع، وحوربت كل المحاولات التنظيميّة من خلال الادّعاء أنّها تلغي الابتكار. حسناً، كانوا يبدعون، لكن ابتكاراتهم لم تدعّم الاقتصاد.
بالنتيجة، قامت نخبة الولايات المتّحدة بتكريس مواهبها لاستيعاب معايير وقوانين صُممت لتوفير الفعاليّة الاقتصاديّة وأمان النظام المصرفيّ. لكن للأسف، نجاحها كان كاسحاً، وها نحن جميعاً، أصحاب البيوت والعمال والمستثمرون ودافعو الضرائب، ندفع الثمن.
التضليل في القطاع المالي أوصلنا إلى هنا، وواشنطن تبدو غير مجهّزة من أجل إخراجنا من المأزق.
* أستاذ الاقتصاد في جامعة كولومبيا
والنائب السابق لرئيس البنك الدولي
(عن صحيفة «ذي غارديان». ترجمة شارا جزّار)
الأخبار