مفتي دمشق ابن فضل الله العمري
د. آزاد أحمد علي*
(700 ـ 749 هـ) (1301-1349م)
شخصية استثنائية ظهرت في بلاد الشام
وأبدعت موسوعة: مسالك الأبصار في ممالك الأمصار
هو احمد بن يحيى بن فضل الله القرشي العدوي العمري, شهاب الدين. ولد في دمشق سنة 700هـ / 1301م، تعلم في مصر. تولى مناصب كبيرة، إذ عمل قاضياً، ثم ترأس ديوان الإنشاء في عهد السلطان الناصر محمد بن قلاوون، في ولايته الثالثة من سنة 709 هـ إلى سنة 741هـ . وينتهي نسبه إلى عمر بن الخطاب، لذلك لقب بالعمري، وقد تلقي تربيته الأولي في دمشق ثم قدم إلى القاهرة ودرس بها واتخذها موطنا له، ومال إلى التخصص في علوم الفقه واللغة وبرع في الكتابة والإنشاء، وقد تقلد عدة مناصب هامة في البلاط السلطاني أيام السلطان الناصر محمد بن قلاوون وترقي في المناصب إلى أن تقلد ديوان الإنشاء والرسائل.
كما اهتم ابن فضل الله بدراسة الجغرافيا الطبيعية والسياسية، ودرس تاريخ الأمم، كما درس أيضا علم الفلك، قام بالتجول في الممالك الإسلامية في الشام والأناضول والحجاز وغيرها، وكانت وفاته في دمشق سنة 749 هـ /1349م عن عمر قصير نسبيا.
ومن مؤلفاته كتاب “الدعوة المستجابة” و”صبابة المشتاق” في المدح النبوي، و “سفر السفرة” و”فواضل السمر في فضائل آل عمر” و “النبذة الكافية في معرفة الكتابة والقافية” و “التعريف بالمصطلح الشريف” وكتاب لمعرفة اتجاه القبلة لعدد من المدن الإسلامية. وغيرها من المؤلفات الهامة. وينسب إلى العمري أحد عشر مصنفاً. هذا وقد صدر في المغرب تحقيق لكتاب “المفاضلة بين المشرق والمغرب” ولعلها جزء من كتاب مسالك الأبصار.
ابن فضل الله العمري مؤرخ كبير حجة في معرفة المسالك والممالك وخطوط الأقاليم والبلدان، إمام في الترسل والإنشاء. لكن شهرته الجغرافية اكتسبها من موسوعته الكبرى التي تتألف من سبع وعشرين جزءاً، وتحمل هذه الموسوعة عنوان “مسالك الأبصار في ممالك الأمصار”،
إن كتاب / مخطوط “مسالك الأبصار في ممالك الأمصار” يعتبر من أهم ما وصل إلينا من التراث العربي الإسلامي على اعتبار انه نتاج القرن الثاني الهجري الرابع عشر للميلاد. هذا القرن الذي يصنف أحيانا ضمن مرحلة التراجع العلمي الإسلامي ويشطح بعض الدارسين لإطلاق أحكاما قطعية (كمرحلة الظلام) أو تراجع الفكر العلمي الخ….ما يؤكد على أهمية الكتاب الموسوعي وضرورة التفكير به اليوم هو نفسه ما تضمن مقدمة ناشر هذا الكتاب/المخطوط الدكتور فؤاد سزكين مدير معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية بفرانكفورت من معلومات تصنيفية قيمة.
أصبح الكتاب متداولاً في العالم الإسلامي وشكل مصدراً هاماً للتاريخ والعلوم والجغرافية البشرية لدرجة أن اعتمد عليه أحمد القلقشندي اعتمادا كبيرا،ً هذا وقد سبق ابن فضل الله العلامة ابن خلدون في تدقيق الأخبار التاريخية وتفحص مفاهيم العمران الحضري والمناخ وعلاقتهما بالسكان وبالتالي قام بالتأسيس لمنهج علم التاريخ.
يقول ابن فضل بهذا الصدد في مقدمة كتابه مسالك الأبصار: (وان في الأرض العبر ولقد طالعت الكتب الموضوعية في أحوال الأقاليم وما فيها، فلم أجد من بين أحوالها ومثل في الإفهام صورها لان غالب تلك الكتب لا تتضمن سوى الأخبار القديمة وأحوال الملوك السالفة والأمم البايدة وبعض مصطلحات ذهبت بذهاب أهلها ولم يبق في مجرد ذكرها عظيم فايدة ولا كبير أمر وخير قول أصدق والناس زمانهم أشبه منهم بآبائهم فاستخرت الله تعالى في إثبات نبذة دالة على المقصود في ذكر كل مملكة وما هي عليه هي وأهلها في وقتنا هذا مما ضمن نطاق تلك المملكة واجتمع عليه طرفا تلك الدايرة لأقرب إلى الإفهام غالب ما بني عليه أم كل مملكة من مصطلح والمعاملات وما يوجد فيها غالبا ليبصرا بكل قطر القطر الآخر وبينته بالتصوير ليعرف كيف هو كأنه قدام عيونهم بالمشاهدة والعيان، مما اعتمدت في ذلك على تحقيق معرفتي له فيما رأيته بالمشاهدة ….) ص3/ج1
مسالك الأبصار في ممالك الأمصار كتاب مخطوط يقع في 27 سفراً(مجلداً) لم يحقق بالكامل الى يومنا هذا، فقد انتقلت أجزاء منه الى أوربا وتم دراستها من قبل المستشرقين منذ أمد بعيد. ولقد قام المرحوم احمد زكي باشا في العقد الأول من القرن العشرين بتجميع نسختين من المخطوطة تكملان على الأقل نسخة واحدة لكامل أجزاء الكتاب. وبدا بتحقيق ونشر الكتاب، وقام بطبع الجزء الأول من مسالك الأبصار عام1924، هذا الجزء يعالج موضوع الجغرافيا السكانية في العالم القديم عموماً والإسلامي على وجه الخصوص. وفي هذا الجزء من الموسوعة قام ابن فضل الله برسم وحفظ النسخة الوحيدة المنسوخة سابقا من خريطة العالم التي وضعها جغرافيو المأمون. كما انه(وهذا ما يستنتج من متن المخطوط لجأ الى رسم خرائط لأقطار مختلفة الى جانب رسومات لحيوانات ونباتات نادرة، كما هو مبين في بعض الصفحات المرفقة من المخطوط).
أن مسالك الأبصار في ممالك الأمصار كتاب موسوعي يشمل معظم علوم عصره، لذا يطلق عليه سزكين: موسوعة جغرافية تاريخية بيوغرافية. ولكنها في الواقع أوسع وأشمل من هذا الوصف وهذا ما يظهر من خلال النظرة الأولى على هذا العمل التاريخي الضخم. قد توفرت إمكانية القراءة لهذا العمل الكبير بعدان تم إصدارها في طبعة تصويرية لكامل الأجزاء عن معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية بفرانكفورت في ألمانية, بعدد محدود من النسخ(200) نسخة عام1988 تم توزيعها على مراكز البحث العلمي والجامعات والمكتبات العامة.
والنسخة المصورة التي بين أيدينا هي عن المخطوطة ذات الرقم 2797/1 احمد الثالث, طوب قابو سراي _ استانبول.
ولمعرفة مضمون وعناوين كل سفر (مجلد) نستعرضها بإيجاز شديد:
المجلد الأول: معلومات جغرافية سكانية، تتناول علوم الأرض، بالإضافة إلى معرفة المسالك والممالك.
المجلد الثاني: في الأقاليم ومعرفة القبلة والكسوف والخسوف وفي تعاريف الطرق وكذلك الثالث والرابع يعالجان نفس الموضوع.
المجلد الخامس: في مشاهير القراء المحدثين، والسادس في الفقه والمذاهب الإسلامية…
المجلد التاسع: في الفلسفة والحكماء والمتكلمين في الأندلس ويتطرق لعلم الطب ومعرفة الأطباء في بلاد العجم والهند والشام والمغرب ومصر. وكذلك يحتوي على علم الموسيقى.
المجلد العاشر: في ذكر الوزراء في الشرق والغرب وبالديار المصرية وكذلك مشاهير الملوك.
المجلد الحادي عشر: ويحتوي على كتاب الإنشاء في خدمة الخلفاء والملوك “دواوين”. والثاني عشر في الخطباء والخطابة ويتطرق ابن فضل الله العمري الى الشعر والشعراء بالتفصيل في المجلدات: من الثالث عشر وحتى التاسع عشر.
ويعالج العلوم الطبيعية من حيوان ونبات وطير، حشرات وحيوان الماء في الأجزاء(20/21/22). ويتضمن المجلد نفسه معلومات قيمة عن المعادن والفلزات والأحجار. يصنف ابن فضل الله المعدنيات إلى: النوع الأول الفلزات والنوع الثاني في الأحجار، أما النوع الثالث فهي الأجسام الدهنية، كما يشرح كيفية التصنيف والتمييز بين المادة الجامدة والنبات والحيوان فيقول: “لابد من تقديم مقدمة قبل الكلام على المعادن، تكون كالتوصية لما سنتكلم عنه من بعد، لاشك أن الأجسام المتولدة أما أن تكون نامية أو لا تكون. فان لم تكن فهي المعدنيات وان كانت نامية فإما أن يكون لها قوة الحس والحركة أو لا، فان لم تكن فهي النبات وان كانت فهي الحيوان” ص 74 / ج22
أما المجلد/23/: فهو مخصص للكلام عن الديانات والطوائف المتدينين.
في المجلد/24/: أخبار الدولة العباسية والأموية، و الدولة الأموية في الأندلس.
المجلد/25/: يستكمل أخبار هذه الدول وكذلك ملوك الطوائف وبلاد فارس.
أما المجلد/26/: فاغلبه مخصص لحركات التمرد والانتفاضات، بدءا من الإيقاع بالبرامكة الى دولة الخوارج وثورة الزنج…
أما المجلد الأخير وهو السابع والعشرون: فهو يتناول التاريخ المعاصر بالنسبة له. وتأتي أهميته من هذه الناحية. لأنه شاهد عيان على أغلب أحداثها، هذه الأحداث التي تبدأ من استيلاء الفرنج على طرابلس وابتداء الدولة الغورية وانقراض آل سبكتين. كما يذكر في هذا السفر أخبار نور الدين محمود. ويتطرق لضم صلاح الدين مدينة فارقين وإقليمها إلى مملكته، هذه الحاضرة التي كانت في الشمال بالقرب من دياربكر، والتي دعمت ملك صلاح الدين وعززته.
ويتحدث عن حصار عكا من قبل الفرنج. ويذكر حوادث اليمن. ثم يتابع الأخبار والحوادث في بلاد الشام حتى عام744 هجري، أي إلى قبل وفاته بخمس سنوات فقط.
يتضح من الصفحة الأخيرة من هذا المخطوط أن سنة نسخ المجلد الأخير هو عام 819 للهجرة. وان عدد صفحات هذا السفر 418 وقد كتبت بخط من صعب قراءته، فالتنقيط قليل. أخيرا أضاف الناسخ في آخر المخطوط لقب جديد لابن فضل العمري القرشي ليصبح “الشافعي” أيضا.
هذا وقد أهدى ابن فضل الله كتقليد في ذلك الزمان كتابه الى السلطان قلاوون الذي كان حاكماً في بلاد الشام ومصر في حينه.
لا يمكن في هذه العجالة إلا أن نعطي فكرة موجزة جداً عن هذا الكتاب الموسوعي النادر، والذي سيتم الكشف عن تفرده ومحتواه العلمي والتاريخي من قبل الدارسين، خاصة بعد أن توافر نسخة مصورة كاملة من المخطوط في المكتبات العامة. وقد حققت بعض أجزاءه في الخليج العربي مؤخرا.
ولعل الدراسة المتأنية لهذه الموسوعة خير إحياء لذكرى هذا العالم الجليل والمؤرخ الكبير. وقد تكون نتائج الدراسات القادمة إجابة على سر إهمال وربما استبعاد هذا المصدر التراثي والتاريخي العملاق ونسيان العبقرية التي كانت وراء تجميعها وتصنيفها قبل تأليفها.
ــــــــــــــ
عن شرفات الشام ، العدد 37 ــ 8 أيلول 2008
*كاتب وباحث سوري- قامشلي
خاص – صفحات سورية –