الرجل الذي ركع
واشنطن: طلحة جبريل
قال الرئيس الأميركي جورج بوش وهو يلخص الظروف التي عمل ويعمل خلالها هنري بولسون، وزير الخزانة الاميركي، خلال هذه الأيام العصيبة في واشنطن، في حديث الى قادة الكونغرس اثناء اجتماع مغلق عقد في البيت الأبيض «لا شك انه كان عرضة للصهد (التعرق) في الكونغرس كما انه تعرض هنا (في البيت الأبيض) للصهد قبل ان يذهب عندكم».
هذا الرجل صاحب العينين الزرقاوين البراقتين، الفارع الطول، الرياضي البنية، سريع الخطى، والذي ركع على ركبتيه متوسلاً الى نانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب، لانقاذ «خطة الإنقاذ»، هو ولا شك الاسم الذي ظل حاضراً في الواجهة منذ أن بدأت أصعب أزمة مالية تواجهها الولايات المتحدة خلال ما يقارب قرن من الزمان، وهي الأزمة التي جرّت اليها كل العالم.
رجل إما ان يدخل التاريخ من بوابة «وول ستريت» حيث تترنح بورصة نيويورك وتهتز أسواقها المالية منذ أسابيع ومعها أسواق وبورصات العالم، أو يخرج من التاريخ ويجر معه رئيسه بوش، على اعتبار مسؤوليتهما المباشرة عن أسوأ أزمة اقتصادية ومالية منذ ما يعرف بـ «الكساد العظيم» الذي انهارت خلاله البورصة الأميركية في ثلاثينات القرن الماضي.
عاش هنري بولسون مع المال منذ نعومة أظفاره، إذ كان والده هنري مريت بولسون يعمل تاجراً للمجوهرات بالجملة في مدينة بالم بيتش بولاية فلوريدا. بيد ان بولسون نشأ وترعرع في مدينة بارينغتون هيل بولاية الينوي. كانت أسرته من الأسر المسيحية المحافظة. وانخرط أثناء سنوات الدراسة في فرقة للكشافة، تعرف باسم «كشاف اميركا»، كما مارس عدة انواع من الرياضة ومن ذلك ان مارس رياضة المصارعة ولعبة كرة القدم الاميركية. ومهد له نشاطه في الكشافة لينال جائزة رفيعة في الرياضة عندما كان يدرس في المرحلة الثانوية. وعلى الرغم من أن بولسون، الذي ما يزال يسير في مشيته مثل الرياضيين بقامة ممشوقة ومنكبين عريضين ونظرات الى الامام ولا يلتفت او ينظر الى الخلف ولا يبدو عليه انه بلغ 62 سنة لولا بعض الشيب الذي يكسو شعره القليل، وبنى مجده المهني في مجال المال والأعمال، فإن دراسته الجامعية كانت في آداب اللغة الانجليزية، حيث تخرج من كلية دارتموث. وظل بولسون مبرزاً في دراسته الى حد انه أصبح عضواً في جمعية «في بتا كابا» وهو تعبير باليونانية يعني «حب التعليم هو دليل الحياة»، وتعد هذه الجمعية من الجمعيات التي لها سمعة علمية واكاديمية رفيعة. ونال بولسون من مدرسة هارفارد للأعمال، درجة الماجستير في إدارة الاعمال. ولدى بولسون سجل حافل في مجال الاعمال إذ بدأ عمله مع مجموعة «غولدمان ساش غروب» المصرفية القابضة، ثم عمل بعد ذلك مع «بنك شيكاغو»، حيث أصبح شريكاً في هذا البنك عام 1982، وخلال الفترة من 1983 الى 1988 قاد مجموعة استثمارية بنكية في منطقة وسط غرب اميركا.
ولفترة ما بين 1990 الى 1994 اصبح الرئيس المشارك لمجموعة استثمارية بنكية، ومن 1994 الى 1998 اصبح مديراً للتشغيل في مجموعة بنكية أخرى ثم رئيساً تنفيذياً للمجموعة التي كان يرأسها جون كورزين حاكم ولاية نيوجرسي الحالي.
كان من اللافت ان بولسون قال وهو يتحدث عن التعويضات الخرافية للمديرين التنفيذيين لأعضاء الكونغرس «أتفق معكم مائة في المائة»، موضحا في تلك الجلسة العاصفة امام الكونغرس «سأقبل مطالب المنتقدين من كلا الحزبين الرئيسيين في البلاد بشأن تحديد المبالغ التي سيتم دفعها إلى المديرين التنفيذيين في وول ستريت والذين ستستفيد شركاتهم من خطة الإنقاذ المُقترحة». واضاف «الشعب الأميركي غاضب بشأن قضية التعويضات التي تُدفع للمديرين التنفيذيين وهو محق في ذلك».
ولهذا السبب قبل بولسون بالتعديل الذي ينص على ان لا تزيد رواتب هؤلاء المديرين على 500 ألف دولار سنوياً. لكن بولسون نفسه يعتبر من بين المديرين الذين نالوا تعويضات خرافية، حيث كان مجموع تعويضاته عام 2005، أزيد من 37 مليون دولار سنوياً، وفي عام 2006 حصل على مبلغ 16.1 مليون دولار، في حين تقدر ثروته بحوالي 700 مليون دولار. بيد ان بولسون يعد كذلك من كبار المحسنين والمدافعين عن البيئة، وفي هذا الاطار تبرع بزراعة 680 الف هكتار من الغابات في التشيلي، كما تبرع من ماله الخاص بمبلغ 100 مليون دولار لأعمال خيرية. لكن هذه الأموال لا تشوبها أية شبهة، ذلك ان بولسون من القلائل اللامعين في مجال الاعمال، وفي هذا الصدد تقول الصحافية الألمانية ادرين والترسدوف التي تعرفت على بولسون من خلال عمله في مجلس أمناء صندوق النقد الدولي «هنري بولسون رجل بارع جداً في مجال الاعمال وإدارة الاموال، قدراته مذهلة وهو يعرف جيداً كيف يدير الارقام ويجعلها تتراكم في فترات قياسية، لكنني لا أدري شيئاً عن قدراته السياسية، وإن كنت اعتقد انها ليس مثل قدراته المالية». واضافت والترسدوف تقول لـ «الشرق الأوسط»: «أظن ان بولسون لم يستطع أقناع أعضاء الكونغرس لسببين، ربما لانهم لا يفهمون لغة الارقام التي يستعملها، او ربما لانه هو لا يعرف لغة السياسة التي يستعملونها». وتشرح والترسدوف فكرتها قائلة« بولسون يعرف عمق المشكلة التي تواجه الاقتصاد الاميركي واعتقد انه اقترح الحلول الملائمة، لكنه ربما لا يدري ما معني ان تكون الادارة التي يعمل ضمنها لم يتبق من عمرها سوى أربعة أشهر، في حين ان اعضاء الكونغرس سيواجهون الناخبين بعد أربعة أسابيع. كان من المفترض ان يأتي شخص آخر غير بولسون الى الكابيتول هيل (مقر الكونغرس) ليتحدث لغة سياسية لأعضاء الكونغرس. لا أعرف من، لكن بولسون تطوع للمهمة وأخشى ان يكون قد أحرق أصابعه في معمعة الحملة الانتخابية».
يدافع ديفيد مكورميك، مساعد وزير الخزانة للشؤون الدولية، عن رئيسه الذي يسير الآن فوق صفيح ساخن قائلاً: «يجب ان نؤكد الآن ان هنري بولسون توقع ومنذ تعيينه في منصبه في مايو (أيار) 2006 حدوث كساد وانكماش في الاسواق». ويقول مكورميك لـ«الشرق الأوسط» إن «الوزير يشعر بخيبة أمل كبيرة لان حزمة الاجراءات (خطة الانقاذ) التي تقررت، وكنا نحتاجها قبل اسابيع من أجل تهدئة الاسواق المالية، لم يتم المصادقة عليها من طرف مجلس النواب»، لكنه يعتقد ايضا إن رئيسه لديه خيارات أخرى حتى في ظل اسوأ الظروف، اي في حالة تعثر إقرار الاجراءات التي اقترحها من طرف الكونغرس، وهو يقول في هذا السياق «يمكن عندئذٍ ان نعالج حالة بعد حالة، وهو ما شرعنا فعلاً في القيام به كاجراء ملائم، من أجل استقرار نظامنا المالي، وحتى في حالة الموافقة على الحزمة التي اقترحها بولسون فإننا سنعالج حالة بحالة، وبالتالي وفي ظل اي سيناريو سيواصل الوزير العمل طبقاً لمعايير محددة بكيفية يتم التفكير فيها وتدقيقها جيداً لضمان الاستقرار المالي وتقوية نظام السوق، وهذا بالتأكيد سيكون جزءا من جهودنا بغض النظر عن الاتجاه الذي ستسير فيه الأمور».
تجربة بولسون مع المناصب الرسمية ليست كبيرة، إذ عمل في طاقم مساعد وزير الدفاع في الفترة ما بين 1970 الى 1972، ثم عمل في إدارة الرئيس ريتشارد نيكسون في وظيفة ثانوية في الفترة ما بين 1972 الى 1973، ثم اختاره الرئيس جورج بوش في مايو (أيار) 2006 وزيراً للخزينة خلفاً للوزير جون سنو، وتم تثبيته في منصبه في أواخر يونيو (حزيران) من طرف مجلس الشيوخ بعد جلسات اعتصره خلالها أعضاء الكونغرس عصراً، خاصة ان مؤشرات بداية كساد اقتصادي كانت واضحة للعيان في نلك الفترة.
ولم يعجب الجمهوريين تعيين بولسون وزيراً في منصب له أهمية قصوى داخل الحكومة الاميركية، نظراً لارتباطه مع جمعيات ومنظمات لها ارتباطات مع الحزب الديمقراطي.
وحاول بولسون ان يضع بصماته الخاصة على سياسة ادارة بوش في المجال الاقتصادي، بعد أن قال علناً إن هناك هوة واسعة بين الاغنياء والفقراء في اميركا، وكان من رأيه ان هذه واحدة من المشاكل التي يجب ان تعالج بكيفية تضيق شقة الخلاف بين الجانبين، وذلك عن طريق التأمين الاجتماعي، وهو الذي كان وراء قيام مؤسسة «الأمل الآن» لمساعدة أصحاب المنازل الذين يجاهدون من أجل تسديد أقساط الرهن العقاري.
ويعتقد بعض المحللين إن وجهات نظر بولسون هي التي قادت الى الوضعية الراهنة، وفي هذا الصدد يقول الباحث الاقتصادي جون بالترمان من «مركز الدراسات الاستراتيجي العالمي» في واشنطن: «اعتمد بولسون مفهوماً يقول بالحرية الكاملة في الاسواق وهو يعتقد ان سوقاً مفتوحة تعتمد المنافسة هي وحدها الكفيلة بتحقيق الازدهار الاقتصادي»،ويضيف بالترمان قائلاً لـ«الشرق الأوسط» في معرض انتقاده لسياسات وزير الخزانة: «ظل بولسون يقول إن سوقاً مفتوحة وتحرير الأسواق المالية بشكل فعال هو وحده الكفيل بتعزيز الاستقرار والازدهار وذلك أفضل بكثير من التدخل الحكومي. هذا ما كان يقول به الرجل، لكنه الآن وضع هذا الكلام خلفه ويريد من الحكومة ان تقدم دعماً مالياً لشركات خاسرة وبتدخل حكومي واضح من أموال دافعي الضرائب، بل يريد من الحكومة الفيدرالية أن تدير هذه المؤسسات.. إنه يستدير دورة كاملة ويريد اميركا ان تستدير معه».
وأكثر ما يحسب ضد بولسون انه رفض في اغسطس (آب) الماضي فكرة ضخ أموال لإنقاذ مؤسسات خاسرة في حوار مع شبكة «إن بي سي» التلفزيونية، وقال بولسون يومهاك ليست لدينا اية خطة لضخ أموال لإنقاذ «فامي ما» و«فريدي ماك». لكن المؤسستين اللتين تعملان في مجال العقار انهارتا في الأسبوع الأول من سبتمبر (أيلول) الماضي مما أدى الى تدخل الحكومة الفيدرالية وضخ أموال لانقاذهما وتولي إدارتهما. لكن هذه الأفكار المتناقضة لم تَحُل، ومع بداية هذه الأزمة والاضطراب الذي اصبح أقرب الى الفوضى في «وول ستريت»، دون بروز بولسون ليلعب دور المنقذ، وليضع كل بيضه في سلة واحدة على حد ما كتبت صحيفة «واشنطن بوست». وهكذا أصبح بولسون أبرز النجوم في إدارة تجمع أوراقها استعداداً للرحيل. وأطلق وزير الخزانة اقتراحه المثير للجدل «علينا شراء الديون الهالكة وشراء المؤسسات المفلسة حتى نعيد للأسواق استقرارها».
=وبات بولسون يعتقد انه من خلال تدخل لم يسبق له مثيل من قبل الخزانة يمكن تجنب تباطؤ اقتصادي مدمر. وقال في هذا الصدد: «لم يكن هناك سوى طريقة واحدة يمكننا عبرها طمأنة الأسواق وهي شراء الديون الهالكة». في 19 سبتمبر (ايلول) دعا بولسون الحكومة الاميركية الى استخدام مئات المليارات لمساعدة الشركات المالية «لتنظيف الرهون العقارية التي تهدد السيولة المالية لهذه الشركات»، لذلك أطلقت الصحافة الأميركية على خطة الإنقاذ «خطة بولسون المالية». ووسط الجدل المتصاعد حول هذه الخطة، وجه كثيرون انتقادات للوزير، وفي رأيهم أن الخطة تنطوي على بعض التضارب في المصالح. ذلك لأن بولسون هو المدير التنفيذي السابق لشركة «غولدمان ساكس» وهي من الشركات التي يمكن ان تستفيد من المليارات التي ستصب في «وول ستريت» إذا وافق الكونغرس على الخطة. كما ان خطته يمكن ان يستفيد منها شركاؤه السابقون. ويقول منتقدو الخطة إن بولسون يريد ان يمنح صلاحيات لم يسبق لوزير خزانة ان تمتع بها في تاريخ الولايات المتحدة.
اعتقد بولسون ان مسألة تمرير خطة الإنقاذ لا يتطلب سوى بعض الإقناع لقادة الكونغرس وشيء من التوسل، يمكن ان يصل الى حد استجداء الأصوات في الكابيتول هيل. بيد ان حساباته، وهو الرجل الذي ظل يحسب كل شيء بدقة، جانبها الصواب هذه المرة، والمفارقة أنه احدث انقساماً نادراً وسط أعضاء مجلس النواب. إذ اصبحت هناك فسيفساء وسط النواب وحتى بين الشيوخ. ديمقراطيــون يعارضــون ديمقراطيين، وجهوريون يقفون موقفاً مناقضاً لقادتهم، بل حتى رئيسهم. خليط من هنا وهناك، يصوت ضد بعضه بعضاً.
بولسون الآن يقف عند مفترق طرق. أراد تسوية لا تخسر فيها الشركات والبنوك المترنحة كل شيء ولا يربح فيها المضاربون في «وول ستريت» كل شيء. وضع الرجل الذكي، والمصرفي الشاطر، وابن الجواهرجي الذي ظل يضع يده في كل مؤسسة فيجعلها تبيض ذهباً، خطة مثيرة للشقاق والخلاف، جعل بعض الناس يقولون إنه استورد بعض أفكاره من الصين البعيدة. وتحولت الخطة الى أضخم سوء تفاهم عرفته السياسة الأميركية عبر عقود. هنري بولسون المصارع، هل يصرع نفسه في نهاية المطاف. أم يقفز باسمه من مركب بوش الغارق الى سجلات التاريخ؟
الشرق الأوسط