الأزمة المالية المعولمة وصحوة الأخلاق لمعالجتها
حسن شامي
تدقفت في الأيام القليلة الماضية تصريحات ومواقف رسمية وشبه رسمية، تشي كلها بحصول نوع من الصحوة على كارثة محتملة تتهدد النظام المالي العالمي، في حال لم يتم تدارك الكارثة بإجراءات وتدابير تحول دون انهيار السوق المصرفية والمالية في الولايات المتحدة أولاً وفي مضاعفاتها عالمياً، بالتالي وبالضرورة. وشرعت المصارف المركزية في غير بلد صناعي ونفطي بضخ بلايين الدولارات في السوق، مشفوعة بتأميمات، بعضها جزئي، وبعضها الآخر أكثر من ذلك لإنقاذ المصارف وشركات التأمين والمضاربة من الإفلاس والانهيار اللذين سيطاولان، على طريقة الأواني المستطرقة، قطاعات مصرفية ومالية أخرى، مما ينذر بمخاطر أزمة اقتصادية عالمية قد يترتب عليها تصدعات في بنية المجتمعات المستقرة والناجزة وكذلك في الركائز المتبقية لمجتمعات أكثر هشاشة وأقل حراكاً اجتماعياً واقتصادياً. وها هو العالم في انتظار ما ستسفر عنه خطة الإنقاذ المالية التي اقترحها وزير الخزانة (المالية) الأميركية هنري بولسون، والتي رفضها مجلس النواب الأميركي إثر جلسة عاصفة تجاوزت الانقسام المعهود بين جمهوريين وديموقراطيين لتصبح بين مؤيد، وإن على مضض، ومعارض لهذه الخطة وأعبائها وتبعاتها، وإن كان إقرارها مجدداً مع تعديلات عليها أو من دون تعديلات، أمراً محتملاً.
كان من الصعب على زعماء ورؤساء الدول الأكثر تعرضاً لنتائج ومفاعيل الأزمة المالية الأميركية، ان يواصلوا الصمت المشفوع بالترقب حيال مخاطر كانوا يعلمون ان تباشيرها لن تمر كسحابة صيف، فهم يعرفون ان الترقب والانتظار سيكونان محمومين وسيعرضهما لمساءلة ومحاسبة قاسية من مواطنيهم ودافعي ضرائب الخزانة العامة.
يرجح في الظن ان تدفق التصريحات والمواقف في الآونة الأخيرة جاء للتعويض عن صمت التزمه رؤساء دول وأحزاب سياسية نافذة كانت برامجهم تستلهم النموذج الأميركي النيو – ليبرالي المستند الى تقليص دور الدولة وتحرير السوق والتخفيف من الضوابط… الخ. ويستدعي مثل هذا التعويض رفع الصوت بالدعوة الى ضرورة ترشيد الرأسمالية وتجديد قواعد انتظام وضبط نشاطها، بحسب ما صرّح رئيس الجمهورية الفرنسية نيكولا ساركوزي قبل أيام، وهو بالتأكيد الرئيس الفرنسي الأكثر إعجاباً بالنموذج الأميركي، كما يعرضه المحافظون والليبراليون الجدد، ليس في مجال الاقتصاد التنافسي الحر فحسب، بل كذلك في صياغة وترسيم العلاقة بين الإعلام المشهدي وبين النشاط السياسي والإداري العام، ومعهما الإقرار بشرعية وقيمة تدخل مشاعر الانتماء الديني في المناظرات السياسية والانتخابية، وفقاً لمقولته الأخيرة عن «العلمانية الإيجابية». ثمة تصريحات ذهبت أبعد من ذلك، وقد يكون أبرزها كلام وزير المال الألماني وتشخيصه الأزمة الحالية الواصلة «عولمياً» الى اوروبا، وهو تشخيص لم يكن خلواً من بعض الجذرية في محاكمة الشطط الملابس للنشاط المالي والمصرفي الأميركي ولرؤيته الاقتصادية. فوق ذلك، دعا الاتحاد الأوروبي في اعقاب اجتماع ممثليه قبل خمسة ايام لبحث الأزمة المالية، دعا الولايات المتحدة الأميركية الى «تحمل مسؤولياتها» عن الأزمة المذكورة وفيها. باب التأويلات سيبقى مفتوحاً بالطبع لتقدير معنى وحمولة عبارة مثل «تحمل المسؤولية». ما يمكن حتى الآن، ترجيح كفته هو استعراض نوع من الصحوة الأخلاقية للالتفاف على أي قراءة عقلانية نقدية للعقيدة النيو- ليبرالية التي وضعت حرية السوق والمضاربة في مصاف المقدس بحيث يستدعي المس به، ناهيك عن انتهاكه، الحلول الأمنية والحروب الاستباقية المبلطة بوعود خلاصية أو ذات نكهة خلاصية – دينية، التي شكلت العقيدة الاستراتيجية للإدارة الأميركية الحالية ولمحافظيها الثوريين الجدد.
ثمة بالطبع من يرى في تشخيص الرئيس الفرنسي وإرشاداته ضرباً من الشعبوية لا يقتصر عليه إذ يطاول ايضاً تشخيصات زعماء أوروبيين آخرين، محافظين ويمينيين بدورهم، او حتى «اشتراكيين» ساهموا، على طريقتهم، في رفد العقيدة النيو – ليبرالية بمسوغات فكرية وإيديولوجية. ما يبدو في نظر كثيرين ضرباً من الشعبوية ليس سوى النزوع الى ايجاد وصفة لا يموت فيها، أو بموجبها، الذئب ولا يفنى الغنم. هذه الوصفة يغلب عليها بطبيعة الحال، وفي مناخ الإيديولوجية النيو – ليبرالية الزاحفة منذ مطلع الثمانينات، الطابع الأخلاقي. وهذه الوصفة الأخلاقية تمليها الحاجة الى معاقبة او محاكمة المسؤول عن الأزمة. انه الجشع والطمع لدى بعض المضاربين، بحسب ما يرى عدد من شارحي لعبة السوق والعولمة المالية، ومن بينهم المرشح الجمهوري للرئاسة الأميركية جون ماكين الذي بدا باهتاً، حول هذه النقطة بالذات، في المناظرة التي جمعته بخصمه باراك أوباما الذي أفصح عن اهتمام أكبر بالهويات الاجتماعية للفئات والأفراد الذي تطاولهم الأزمة المالية وسبل معالجتها من طريق تدخل الدول والمال العام.
كان بالفعل لافتاً للنظر في المناظرة التلفزيونية العامة التي تقابل فيها جون ماكين وباراك اوباما، تركيز هذا الأخير على دور الأوكار والفراديس المالية، وعلى تأثير مجموعات الضغط (اللوبينغ) وضرورة الحد من نفوذها وحماية الطبقة الوسطى من دفع كلفة باهظة عن أزمة ليست هي المسؤولة عنها، بل هي عانت اصلاً من تراجع قوامها وموقعها في ظل تنامي العقيدة الثورية المحافظة وتجويفها للنشاط النقابي والاجتماعي، وتعميمها لقسمة ضيزى (أي مغشوشة وخاطئة) بين رابحين وخاسرين يتخذ ربحهم وخسارتهم صفة النجاة الفردية في ما يخص الفئة الأولى، وصفة الضلالة المؤدية الى السقوط في ما يخص الفئة الثانية. نحن امام اخلاقيين جدد، ومن النوع المبتذل. وسيكون علينا في الأمد المنظور ان نستمع الى مواعظهم وإرشاداتهم الساعية الى تأجيل أي مراجعة عقلانية نقدية لجملة الشروط التي أوصلت العالم المعولم الى الأزمة الحالية، والتي أجازت طوال سنوات لمضاربين لاهثين وراء الربح السريع ان يحصدوا جوائز مالية بسرعة فلكية وبأحجام كبيرة. يكفي ان تكون الديموقراطية استعراضاً انتخابياً مشهدياً كي يتأكد الأفراد من صحتهم الاجتماعية والوجودية ولا بأس في المزاوجة بين التفوق التكنولوجي والعلمي وبين تخلف اجتماعي تحتضنه الأصوليات (البروتستانتية وسواها) المنتشرة في الولايات المتحدة وأعماقها. هذا ما تلخصه العقيدة المحافظة الجديدة التي تقود العالم أو تسعى الى قيادته: ان تكون السياسة مجموعة وصايا أو توصيات لا تهدي المرء إلا الى المكان الذي اعتقد انه غادره.
الحياة – 05/10/08