انهيار الإنسان المستهلك بعد انهيار الإنسان الاشتراكي والإنسان القومي
صالح بشير
ليس من أمارة أبلغ دلالة على انتساب الرأسمالية المغالية، تلك التي خرجت، في صيغتها الريغانية – الثاتشرية منتصرة في أعقاب الحرب الباردة واستتبت من دون منافس مذّاك، إلى مجال الإيديولوجيات، من أنها أنكرت تلك الصفة على نفسها، وأسبغتها على الخصم المندحر، ممثلاً في الشيوعية، معلنة بذاك «نهاية الإيديولوجيات»، على ما انبرى إلى التأكيد دعاتها الكثر، وحذا حذوهم في ذلك سواهم، من دون تمحيص.
ذلك أن من طبيعة الإيديولوجيا التمويه والتستر، بما في ذلك، بل ربما في المقام الأول، على ذاتها وكنهها. إذ ليس من إيديولوجيا تقدّم نفسها على أنها إيديولوجيا، بل أن التوصيف ذاك خارجي، أي لا يصدر إلا عن خارج، موضوعياً كان ذلك الخارج أم مُغرضاً. فالشيوعية الماركسية كانت تزعم أنها علْم يضاهي العلوم الصحيحة، ويُسمّى بـ «المادية التاريخية»، في حين تدعي الرأسمالية، خصوصاً تلك المغالية، استنادها إلى حقائق أولية وأزلية، إلى طبائع في الإنسان، تستوي لديه فطرة وسليقة، هي سعيه إلى الربح والرفاه، يبادر في طلبهما فرداً.
الحال إذن أن الرأسمالية المغالية إيديولوجياً، لها من الإيديولوجيات بعض سماتها التكوينية والفارقة، وأولها منحاها الخلاصي وزعمها أنها أداة بلوغ الخلاص واجتراحه، تقدماً مطرداً يفضي إلى إنهاء التاريخ، وتلك فكرة دينية، مسيحية المأتى على وجه التخصيص، قامت الحداثة وتأسست على علمنتها (ما قد يفيد بأن العلمانية لم تنجم عن قطع مبرمٍ مع سابقٍ كما يتصور دعاتها السطحيون في ربوعنا والذين لا يعلمون شيئا عن تاريخها الأوروبي)، فلم تأت في ذلك بجديد عدا أنها جعلت الخلاص في الأرض لا في السماء، والأمر ذاك من البدائه المبتذلة لدى الباحثين والدارسين، شأن ما بيّنه الفيلسوف الألماني كارل لويت في كتاب له مرجعي خاض في ذلك الموضوع، أصدره منذ أربعينات القرن الماضي.
هكذا، وكما توقعت الماركسية نهاية التاريخ مع حلول المجتمع الشيوعي، ضرباً من فردوس أرضي، توقعت الإيديولوجيا الرأسمالية المغالية مآلاً خلاصياً مماثلاً، ينهي التاريخ بدوره ويقيم مجتمعاً إنسانياً يرفل في الرخاء وينعم بالديموقراطية، على ما جاء في مقالة ثم في كتاب ذاع صيتهما في الآفاق وأسالا حبراً غزيراً بعيْد الحرب الباردة، وضعهما الأميركي – الياباني فرانسيس فوكوياما.
ثم أن الخصمين الإيديولوجيين اللدودين، ذلك المندحر وذلك المنتصر، التقيا في أمر آخر، في الأخذ بمقولة أن الاقتصاد هو محرك التاريخ. صاغت الماركسية ذلك المبدأ على نحو صريح، منطلقاً معرفياً، في تنظير محكم متماسك، متين الأسانيد الفلسفية، في حين اكتفت نظيرتها الليبرالية المغالية في التعبير عنه كنايةً، من خلال تركيزها على مفهوم الحرية، خصوصاً تلك الفردية، إلا أنها جعلت من حرية المبادرة ومن حرية السوق، أم الحريّات طُرّاً، أصلها التأسيسي والناظم.
كما التقى الطرفان في إسناد بطولة تلك الملحمة القيامية، ملحمة الخلاص التاريخي أو الدنيوي، إلى طرف اجتماعي في ذاته، ينهض بها على نحو حصري أو يكاد: البروليتاري، آخر المستغَلّين في التاريخ، ومُنهي الاستغلال بإنهائه للتاريخ، مقابل الرأسمالي المبادر، فارساً وحيداً بطلاً فرداً، كما في أفلام الوستيرن الأميركية. بل أن الرأسمالية المغالية، تلك المالية والمُضاربة، تمكنت في أطوارها الأخيرة من توسيع قاعدتها الاجتماعية، أو من ادعاء ذلك، مع ابتداع ما سمّي بـ»الرأسمالية الشعبية»، تلك التي تجعل المضاربة في متناول أي كان، ومع تحويل المواطن إلى مستهلك فاعل بصفته تلك في الحياة الاقتصادية، وهذه وفق تلك الإيديولوجيا تستغرق الحياة كلها، في جميع مناحيها.
ذلك أنه إذا كان ديدن كل إيديولوجيا إعادة المتنوّع إلى مبدأ واحد وقسره عليه، وذلك هو المعنى العميق للتوتاليتارية، إذ لا تقاس هذه الأخيرة فقط بلجوئها إلى أدوات القمع والإسراف فيه، فإن الليبرالية المغالية جعلت من اقتصاد السوق والانصياع لمنطقه غايتها وهدفها المنشود، إذ لا وجود لما لا يزكيه السوق، لما هو غير قابل للتسويق، سواء تعلق الأمر بمنتجات الفكر أو الفن أو أي شيء عداهما، بطريقة أضحت الحملات الانتخابية حملات تسويق، وأضحى الإعلام اتصالاً (كومونيكايشن)، تغليباً لشكل يُشترط فيه أن يكون «سكسيّاً»، جذاباً، لا يعبأ بمضمون، وقس على ذلك الكثير.
لقد سعت توتاليتارية السوق إلى تحويل الفرد إلى مستهلك نمطي، لا يُعترف له بوظيفة وببعد غير ذينك، وحاول سواها من الإيديولوجيات تنميط الفرد «إنساناً اشتراكياً» أو «إنساناً قومياً»… صحيح أن توتاليتارية السوق ناعمة، رخوة، غير دامية، أقله على نحو مباشر، تمارس عنفاً من قبيل رمزي أو نفسي، ولكنها تظل مع ذلك توتاليتارية.
ولأنها كذلك، فها أنها تنهار على نحو ما فعلت نظيرتها الخصم، جراء انفجار داخلي أصابها ويبدو مودياً بها كما عهدناها حتى الآن، وتمثل (ذلك الانفجار الداخلي) في موجة الإفلاسات الأخيرة التي مني بها النظام النقدي الأميركي، فيما قد يكون فصلاً مكمّلاً لما جد قبل نحو العقدين، عندما انهار الاتحاد السوفياتي بانفجار داخلي مماثل. إذ يبدو، على ضوء مستجدات الأيام الأخيرة، أن انهيار الشيوعية، وإن أنهى حقبة، إلا أنه قد اف تتح، كذلك ومن وجه آخر، مساراً، هو مسار تحلل الإيديولوجيتين الخلاصيتين اللتين تواجهتا، وتشابهتا في بعض سماتهما العميقة على نحو ما سبقت الإشارة.
علّ في ذلك ما من شأنه أن يدفعنا إلى النظر إلى الأمور على نحو مختلف، وإلى تجاوز بعض مسبقات استقرت في الأذهان طوال العقدين الأخيرين، حالت دوننا وتبيّن أن الحرب الباردة خيضت، خصوصاً في أطوارها الأخيرة والحاسمة، بين تطرفين نقيضين، أمعنا في انغلاق إيديولوجي وفي عدوانية تماديا حتى بلغا أوجهما على الجانب السوفياتي في ليونيد بريجنيف، وعلى الجانب الأميركي في جورج بوش الابن…
أي أن الإيديولوجيتين النقيضتين تتابعتا انهياراً واضمحلالاً، فلم تعمر تلك الرأسمالية المغالية أكثر من عقدين بعد زوال خصمها، هما بمقاييس التاريخ برهة وجيزة كلمح البصر.
الحياة – 05/10/08