رأسماليـّة شائخـة.. تترنـّح!
ماجد الشيخ
الأزمة التي يفاقمها الاقتصاد الأميركي الآن، ليست الأزمة التي يمكن لها أن تعبر هكذا.. دون أن تترك آثارا سلبيّة على المدى الطّويل، ليس على الاقتصاد، بل على رأسماليّة النّظام الأميركي ذاتها، تلك التي لم يعد بمقدورها التّكيّف أمام أزمات دوريّة؛ منها العابرة ومنها المقيمة. ذلك أنّ »تجديد« طرائق حل الأزمة أو الأزمات الملازمة لرأسماليّة متوحّشة يتحكّم فيها نزوع امــبراطوري مغـامر، قامر ويقامر الآن بمستقبل الاقتصاد، بل وبمستقبل أميركا ذاتها؛ مثل هذا »التّجديد« لم يعد يمثّل طوق نجاة أكيدا؛ لا لخــروج الاقتــصاد من أزماته، ولا لخروج الامبراطوريّة من مآزقها التي باتت أكثر من مقيمة؛ في مجمل حركتها وسلوكها الآخذ أبعادا تقليصيّة في فترة الانتخابات الرّئاسيّة الحاليّة، وخلافات أطرافها والمؤسسات التّشريعيّة بشأن خطة حكومية لـ»الإنقاذ«.
كما أنّ تأثيرات الأزمة التي أصابت الاقتصاد العالمي باختلالات لم يعد من السّهل إخفاؤها، لا بدّ من أن تنعكس على المدى القصير أو على المدى الطّويل، بما قد يتجاوز الأعراض الظّاهرة، إلى العمق، حيث تكمن تفاعلات عديدة؛ ليس في طابع الاقتصاد، أو الاقتصادات المختلفة التّابعة لمركزيّة ممنهجة ونمطيّة، إلى حدّ ما تحكم، بل تهيمن على النّظام الرّأسمالي الأميركي، واتّجاهاته المتعثّرة التـي باتت تعتمد اقتصادا وهميّا؛ عماده النهب والمضاربات واللعب بالأسهم والبورصة، والدّخول في لعبة المضاربات والرّهونات العقاريّة.. إلخ من أشكال الاقتصاد الرّيعي غير المنتج، خاصّة في الفضاء الأميركي، وهو ما شجّعت عليه عولمة الرّأسمال الأميركي ذاته، الّذي أمسى أكثر انحيازا لاحتكار أكبر كمّ من تراكمات الكتلة النّقديّة الكونيّة، في ضوء حروب الامبراطوريّة ومحاولات هيمنتها عبر شركاتها المتعدّدّة الجنسيّة على كامل الاقتصادات التي طالها التّغوّل الامبراطوري، لا سيّما في أعقاب غزو العراق، وحلم توظيف ثروته الهائلة في دفع أكلاف المغامرات القديمة والجديدة.
الأزمة التي ما تني تتمـظهر في عدد من الأشكال المختلفة، تعدّت حدود الولايات المتّــحدة، إلى أوروبا والــعديد مــن الأسواق/ البلدان الخارجيّة عالميّا، وما مـوجة ما يسمّى »التّأميمات« التي بدأت تشهدها العديد من الاقتصادات العالميّة؛ إلاّ الوجه الأبرز لمحاولات إنقاذ أغنياء لاعبي البورصة وحملة الأسهم والشّركات الكبرى السّلطويّة من الانهيار.
ما يجري منذ منتصف أيلول/سبتمبر الماضي، يكشف أنّ رّأسماليّة »الامبراطوريّة الشّائخة« لم تبن نظاما ضدّ فقراء أميركا فقط، بل ضدّ فقراء الكون كلّه. ولم تطوّر نظامها السّياسي ليكون عوناً للطّغاة والأوليغارشيّات والطّغم الماليّة والسّياسيّة في بلدان الخارج التّابع، بل وقف ذاك النّظام وتلك الأنظمة الحليفة في تلك البلدان على حدّ سواء؛ ضدّ الشّعوب وحركاتها الوطنيّة والتّحرّريّة والاجتماعيّة. ذلك أنّ النّظام الوحشي لتلك الرّأسماليّة ما عاد بإمكانه أن يغطّي عداوته وعدوانيّته ضدّ كلّ ما هو إنساني وواعد في كوننا هذا. لا سيّما وهو يكشف عمق عداوته للإنسان الأميركي داخل أميركا ذاتها، خصوصا بعدما رفضت الإدارة الامــبراطوريّة توفير تغطية صحّية لتسعة ملايين طـفل تتكلّف ستة مليارات دولار استكثرتها عليهم، بينما اعتبرت دفع مبلغ ٧٠٠ مليار دولار »لإنقاذ القذرين في وول ستريت، ليس مبلغا كبيرا على ما يبدو«. »إنّها الاشتراكيّة للأغنياء .. والرّأسماليّة المتوحّشة للبقيّة .. وللفقراء«! وهذا ما خلصت إليه صحيفة الإندبندنت. فيما رأى موظّف في قطاع المال »أنّ أكثر ما يثير الغضب هو أطواق النّجاة المذّهّبة التي حصل عليها ثعالب السّوق قبل أن يغرقوا المؤسّسات الماليّة«.
»الرّأسماليّة الشّائخة« وهي تترنّح اليوم جرّاء ممارساتها وسلوكيّاتها غير العقلانيّة، وانتشارها العسكري عبر العالم وجعله أولويّتها، وعدم التّركيز على المصالح الدّاخليّة للأميركيين؛ أدّى ويؤدّي اليوم أكثر إلى تضعضع مكانة النّظام السّياسي الأميركي، وتدهور هيبته، وفقدانه قدرة السّيطرة ليس العسكريّة فحسب، بل والاقتصاديّة.. وربّما السّياسيّة في ما بعد.
إنّ لعبة استخدام ودائع الدّول الأخرى، و»شفطها« وتوظيفها في خدمــة إنماء الرّأسمال النّقدي، وتحقيق الأرباح الفاحشة على حساب تلك الودائع، وعلى حساب تنمية مستدامة؛ محلّية في الولايات المتّحدة وفي الخارج. ذلك هو بالضّبط فحوى ومضمون ما يسمّى »نمط الحياة الأميركي« الّذي تباهي به الرّأسماليّة الأميركيّة، مقترحة إيّاه كإحدى طرق حل أزماتها، ولكن بشكل مؤقّت. أمّا الآن فإنّ أزمات ومشكلات جوهريّة في الاقتصاد الأميركي تصل حدود الانسداد، ولم يعد ممكناً التّوصّل إلى حلول لها، حتّى ولو جرى امتصاص ودائع كل دول آسيا ومعها دول النّفط. هذا النّمط من »الحياة الأميركيّة« لم يعد مجديا، بعدما تكشّف عن كونه الكابوس الّذي سيحرم الحلم الأميركي من مواصــلة سعيه نحو تزيين حياة يسودها البؤس؛ في مـجتمعات أميركيّة باتت تتقلّب على جمر رأسمالية متوحّشة، فقدت من خـلالها الدّولة أيّ دور رعائي .. اللهم إلاّ لإنقاذ »أغنـياء النّظام«. أمّا »فقراء النّظــام« فليــس لهم سوى البحث عن »أطواق نجاة« صدئت، منذ أن تخلّت الرّأسماليّة المتوحّشة عن أي دور لها؛ سوى تنمية أرباحها ومراكــمة ثرواتها النّقديّة.
من هنا تبدو إمكانيّة بروز ما يمكن تسميته بـ»حرب ثقافيّة قيميّة« داخل الولايات المتّحدة بين أصحاب القيم، أولئك الّذين فقدوا أيّ أمل باستعادتها من براثن منتهكيها من رأسماليي العولمة الرّاهنة بطبعتها الأميركيّة، الأكثر وحشيّة؛ الاحتمال الأكثر بروزا في ضوء ما بلغته من عتو عداوتها وعدوانيّتها، حتّى داخل مجتمعاتها المحلّيّة التي لم تعد تشاركها قيمها الثّقافيّة فحسب، بل قيماً أخرى عديدة.
من هنا.. فإنّ الأزمة التي تسبّب بها الاقتصاد الرّأسمالي الأميركي المنتفخ، وإذ تتعدّى بتأثيراتها ومفاعيلها اقتصاد الامبراطوريّة إلى اقتصادات العالم المختلفة، خاصّة تلك المرتبطة والتّابعة سياسيّا؛ فإنّ ارتداداتها كهزة تاريخيّة كارثيّة، قد تتعدّى ما هو مقدّر لها حتّى الآن، لا سيّما أنّ عمليّات ضخّ السّيولة وعمليّات »التّأميم« الاضطراريّة »الإنقاذيّة« تتسع يوما بعد يوم، لتكشف عمق الأزمة التي لم يستطع الاقتصاد الامبراطوري تأجيل انفجارها، وتطاير شــظاياها مترافقا مع تشظّي الامبراطوريّة ذاتها، كإدارة فقدت سيطرتها على ما ملكت »أيمانها«، ما يضع أحاديّتها القطبيّة على بداية مسار التّحوّل إلى تعدّديّة قطبيّة؛ أميركا فـيها دولة كبرى ليس إلاّ.
في ضوء ما يجري على امتداد العالم، وفي ضوء ما يجري للرّأسماليّة الأميركيّة في عقر دارها؛ وفي القلب تلك التّحــوّلات السّـلبيّة التي يشهدها نظامها في الجوهر، بات العالم كلّه أكثر احتياجا للعمل على صياغة نظام دولي جديد، يمنح عالمــنا استــقرارا نحن أحوج ما نكون إليه في بيئة أمنيــّة اقــتصاديّة وسياسيّة؛ تنقض ما جلبته الأحاديّة القطبيّة، وما أرسته من بيئات أمنيّة منفلتة، وأزمات اقتصاديّة؛ ما فتئت تتفاعل على امتداد العالم، وما قد تعكسه على الصّعيد السّياسي في أروقة أنظمة ما برحت تراوح عند حدود استجابات بطيئة، وبطيئة جدّا؛ كونها تعيش انتظارات تفاعـلات أزمة عالميّة هي جزء منها، ولكن دون أن يكون لها يد فيها مباشرة.
([) كاتب فلسطيني
السفير