أزمة مصرفية أم أزمة النهج الرأسمالي؟
نبيل شبيب
ما يلفت النظر في الأزمة المالية المصرفية أن درجة الأضرار والأخطار التي أصابت دولا أخرى -عدا الولايات المتحدة- تتناسب طردا مع درجة “حدّة” تطبيق الرأسمالية فيها. ونعلم أن من أسماء “العولمة” -كما أظهرت السنوات الماضية- “الرأسمالية المتشدّدة” القائمة على أرضية “الليبرالية الجديدة”.
أزمة الرأسمالية المتشددة
الواقع أن انتشار الرأسمالية المتشددة لم يكن مع انهيار الشيوعية وتفكك المعسكر الشرقي، إنما بلغ آنذاك محطة متقدمة جديدة، أما بداية انتقال رأسمالية آدم سميث إلى مرحلة التشدد أو عودتها إلى التشدد، فكانت في أواخر السبعينيات ومطالع الثمانينيات من القرن الميلادي العشرين في عهد رونالد ريغان في الولايات المتحدة، وتزامن ذلك مع انتشار أفكار المسيحية الصهيونية والمحافظين الجدد. وقد شملت سياسته فيما شملت القضاء على بقايا قوة النقابات العمالية، والتأمينات الصحية والاجتماعية، ورفع بقايا القيود على رؤوس الأموال، وتصعيد نفقات التسلح، حتى عرف ذلك النهج الاقتصادي من بعده بالسياسة “الريغانية”.
آنذاك لم تكن جميع الدول الأوروبية الغربية في أوضاع تسمح باتباع النهج نفسه، فكلما كانت الدولة الغربية أقرب جغرافياًّ إلى الحدود الفاصلة بين المعسكرين، كانت أكثر حذرا في ممارسة الضغوط الرأسمالية على الطبقات الفقيرة لا سيما العمال، خشية ازدياد انتشار الشيوعية غربا، والتي كانت -بغض النظر عن مساوئها- متميزة بالضمانات الاجتماعية على حد أدنى شامل للسكان.
وهذا ما جعل الدول الإسكندنافية المجاورة للحدود السوفياتية السابقة معروفة بارتفاع مستوى هذه الضمانات، كما عُرف النظام الرأسمالي في ألمانيا الغربية والمجاور مباشرة للنظام الشيوعي في ألمانيا الشرقية آنذاك باسم نظام السوق الاجتماعية (تمييزا عن تعبير السوق الحرة).
ومع ملاحظة أن بريطانيا هي الأبعد جغرافيا عن الحدود الشرقية، يلاحظ أيضا انتشار الرأسمالية المتشددة فيها مبكرا، على نهج مماثل لنهج ريغان، وعُرفت به رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت تاتشر، كما عرف نهجها بالسياسة “التاتشرية”.
لاغرابة إذن أن تكون أشدّ الدول الأوروبية تعرضا لمخاطر الانهيارات المصرفية في الوقت الحاضر هي بريطانيا، وتليها إسبانيا، وهي بعد بريطانيا الأكثر ارتباطا بشبكة المال والاقتصاد الأميركي، وتأتي في مرتبة تالية فرنسا وألمانيا وإيطاليا.
أما فترة ما بعد الشيوعية فقد شهدت ازدياد انتشار الرأسمالية المتشددة، إلى درجة أن غالبية الأحزاب “الاشتراكية الديمقراطية” الأوروبية أصبحت أحزابا يمينية.
إنقاذ مَن؟
الأزمة بمنظورها الرأسمالي أزمة أصحاب رؤوس الأموال، من مالكي المصارف المالية وشركات التأمين في الدرجة الأولى وأصحاب الحصص الكبرى في مختلف القطاعات الاقتصادية الأخرى، حتى بلغت ثروات أقل من 5% من البشر ما يساوي ثروات أكثر من 80% من “البشر” الآخرين. هي أزمتهم ولكن ليس بمعنى انقلاب أوضاعهم من الرفاهية إلى فقر مدقع وبؤس مفزع، بل لهذه الأزمة محوران: أولهما كثافة الأخطاء التي أدت إلى تناقص الأرباح أو انقلابها جزئيا إلى خسائر، والثاني فقدان الثقة المتبادلة “بينهم”، والمقصود هنا هو “الثقة المالية” بمعنى توقع تسديد ما يقرضه مصرف لمصرف آخر.
وقد كانت القاعدة الذهبية للرأسمالية منذ عهد آدم سميث تقوم على “حرية رأس المال” بمعنى إعفائه من كل ضابط قانوني -ناهيك عن الأخلاقي- في ميدان تشغيله، وأن كل ما عدا ذلك، كالأسعار.. أي تكاليف الحياة على العامة، أو كسوق اليد العاملة.. أي طلب الرزق بالجهد البشري، أو كالتطوّر التقني والعلمي.. أي إيجاد خدمات ومنتجات جديدة.. جميع ذلك يتحقق -أو يفترض تحقيقه- من خلال التنافس بين مالكي رؤوس الأموال وسعي كل منهم لتحقيق كسب مادي لنفسه أكثر من الآخر، وهذا ما يعنيه التعبير الشائع في الغرب: السوق تنظم نفسها بنفسها.
افتقاد الضوابط كان من وراء تصرّف عدد محدود من المضاربين الماليين عبر ثروات مالية كبرى بمصائر بعض الدول كما كان مع جنوب شرق آسيا قبل سنوات، وكما كادت تتعرض لمثيله آنذاك شبكة العلاقات المالية في أوروبا الغربية نفسها، أثناء بحث الولايات المتحدة عن سبب بديل لاستمرار الهيمنة على القارة بعد سقوط السبب الرئيسي في الحرب الباردة، أي ما كان يرمز إليه تعبير “المظلة النووية الواقية”، وكانت الأزمة النقدية الأوروبية آنذاك من أسباب التعجيل في إنشاء منطقة اليورو الموحدة، بديلا عما كان يسمّى نظام الأفعى المالية، بمعنى ربط أسعار أهم العملات الأوروبية بعضها ببعض ارتفاعا وانخفاضا في نطاق نسبة مئوية متدنية.
وافتقاد الضوابط هو أيضا من وراء “امتصاص” ثروات الآخرين، تحت عناوين تحرير التجارة والاستثمار، واستخدام كلمة “تحرير” الجذابة هنا يشوّه المعنى الأصلي لها، فتفاوت القدرة بين بلد صغير كالأردن مثلا والقوى المالية في بلد كبير كالولايات المتحدة مثلا مقابلا، يجعل “تحرير” التجارة بينهما عبارة عن فتح أبواب المكاسب في اتجاه واحد، عند مراعاة ما يمكن تبادله من سلع وخدمات وتحقيقه من عائدات.
وافتقاد الضوابط هو أيضا من وراء الأزمة المصرفية الحالية، مع فارق بالغ الأهمية، وهو أن الحصيلة الأخطر فيها لا تصيب الطبقات الفقيرة والمعدومة والشعوب التي تعاني من الجوع والمرض والتشريد في أنحاء العالم، والتي تتدفق ثروات بلادها من خامات وطاقات إلى مصانع الرأسماليين في الغرب وجيوبهم، إنما أصبحت حصيلة الأزمة الراهنة على حساب قطاعات كبيرة من الشعوب الغربية -لا سيما الشعب الأميركي- الأقرب إلى الطبقة المتوسطة.
أصحاب العقارات القائمة على قروض مصرفية والذين أصبحوا بسبب ارتفاع تكاليف المعيشة اليومية (الغذاء والطاقة) عاجزين عن سداد الالتزامات الشهرية، وبالتالي عرضة للطرد من تلك العقارات.. هؤلاء ليسوا من أفقر الفقراء ولا هم من الأثرياء، ولكن عجلة الاقتصاد تقوم عليهم، فهم عصب الحركة الإنتاجية والاستهلاكية في كل بلد رأسمالي، وهم من لا يستطيع أصحاب رؤوس الأموال الاستمرار من دونهم على طريق تحقيق المكاسب وتصعيد حجم الأرباح باطراد، وهم أيضا من يحرص النظام الرأسمالي عموما على أن يحصلوا على قدر “مدروس” من الدخل، بما يكفي لمتابعة الحياة الاقتصادية من خلالهم.
أعباء الإنقاذ
هنا يتوجب السؤال: ما معنى كلمة “إنقاذ” في الخطة الأميركية العملاقة، والتي تنفذ دول رأسمالية أخرى -كل على قدر تفاقم الأزمة فيها- خططا تشابهها، وإن تجنبت إعطاءها العنوان ذاته؟
هل المقصود إنقاذ الطبقة المتوسطة.. إنقاذ الاقتصاد الوطني.. إنقاذ حركة الإنتاج والاستهلاك؟
إن الخطة الموضوعة وما سبقها من خطوات مبدئية ليست ابتكارا جديدا، فكثيرا ما جرى إنقاذ مصرف مالي أو مؤسسة أو شركة كبرى بالأسلوب نفسه، إنّما لم يكن ذلك في يوم من الأيام بحجم ما بلغه الآن دفعة واحدة.
تقول الخطط المعنية بوضوح ما محوره: قيام الدولة بتخليص المصارف المالية من الصفقات والعقود الخاسرة، وترك المضمونة الرابحة منها للمصارف نفسها، ويعني هذا واقعيا:
1- تتحمل الدولة الخسائر.. فتُعفى المصارف المالية من نتائج عملها وأخطائها الجسيمة بتأثير الرغبة في حصد أكبر قدر من الأرباح والعائدات الربوية بأسرع وقت، ويتحمل تلك النتائج دافعو الضرائب، فالدولة ليست “مالكة لثروة ذاتية”!
2- تعني كلمة “تُعفى” هنا إعفاء أصحاب الثروات المالية الحقيقيين من المحاسبة أيضا، فهؤلاء لا تحاول الدولة أصلا تحميلهم المسؤولية، وبالتالي لا تصل إليهم أيدي المحاسبة “الجزئية” التي تصل إلى مدراء الأعمال التنفيذيين -أي الموظفين واقعيا- ممن يخسرون أمكنة عملهم، فيعين أصحاب الثروات سواهم، سواء كان ذلك في المنشآت المالية نفسها بعد إنقاذها، أو من خلال إقامة بدائل عنها!
3- حجم الخسائر التي تتحملها الدولة أكبر بكثير من أن تكفي الضرائب السنوية لتغطيتها، ويعني هذا أن “تقترض الدولة” لتغطي خسائر أصحاب رؤوس المال!
4- الدولة تقترض من أصحاب رؤوس الأموال أنفسهم (المصارف)!
5- الحصيلة: الدولة تأخذ من أصحاب رؤوس الأموال عقود القروض الخاسرة، وتوقع معهم عقود قروض مضمونة، وضمانها قائم في أن الدولة في نظام رأسمالي تسدد ما عليها دوما، مع الزيادات الربوية المضاعفة!
6- عندما تتخلص المصارف من العقود الفاسدة تتجدد “الثقة” بها.. والمقصود هو الثقة المتبادلة بين أصحابها، فعلاقاتها قائمة على إقراض بعضها بعضا، كلما نشأت حاجة لتنفيذ مشروع ضخم سواء داخل البلاد أو خارجها!
7- تسديد القروض الضخمة المترتبة على الدولة مع مضاعفتها ربوياً يحتاج إلى عشرات السنين، ولا يتحقق دون جباية المزيد من الضرائب السنوية من عامة السكان وليس من “أرباح الشركات”، وهذا بالذات ما كان يعنيه إصرار اليمين الأميركي (من الجمهوريين) على إدخال تعديلات جزئية على الخطة المطروحة، تُلزم الدولة -وليس أصحاب المال- بتخفيف جزئي لأعباء القروض المتراكمة على الطبقة المتوسطة، وذلك بالاعتماد على القروض الضخمة الجديدة في عنق الدولة.. أي في عنق أجيال قادمة، لصالح من يعطي القروض.. أي أصحاب المال!
الأزمة الأعمق مغزى
دورة رهيبة لرأس المال في أحرج أزمة تعترض أصحابه، ومن العسير تصوّر أن هؤلاء ومن يمثلهم أو يعتمد عليهم في جهاز الدولة، يمكن أن يضع “حلا آخر” غير تلك الخطة العملاقة أو ما يشابهها مفعولا.
لقد كان وما يزال أهم عنصر في الرأسمالية المتشددة وغير المتشددة، هو تخفيف الأعباء على الشركات والمصارف المالية، لأن الفكر الرأسمالي نفسه يقوم على أن “الاقتصاد” هو المعاملات الجارية بين المصارف والشركات الكبرى، فإن حقق مالكوها الرأسماليون أرباحا متزايدة أقدموا على مشاريع جديدة يفترض أن توجد أماكن عمل جديدة، لتخفف العبء المعيشي عن الطبقة المتوسطة فتتمكن من تسديد ما عليها.. مثل القروض العقارية والرسوم الضرائبية المتزايدة، وبالتالي يستمر وجودها عصبا لاستمرار حركة الإنتاج والاستهلاك في الدولة.
لهذا تتحول عملية إنقاذ الاقتصاد الرأسمالي إلى عملية توزيع الأعباء بالتساوي على أكبر عدد ممكن من عامة المواطنين -على غرار توزيع الفقر بالتساوي كما اتُهمت الشيوعية- مع استثناء الطبقة المهيمنة ماليا، ربما على غرار ما كان في الدول الشيوعية أيضا من استثناء الطبقة الحزبية والعسكرية الحاكمة واقعيا.
قد تخرج الولايات المتحدة والدول الرأسمالية الأخرى من هذه الأزمة ولو لفترة مؤقتة عبر “عمليات إنقاذ مالي عملاقة”، ولكن الثابت أن الوجه المتشدد للرأسمالية ظهر الآن بأقبح صورة، وأن هذه الصورة لم تعد تخفى على أنصار الرأسمالية من عامة السكان، والذين لم يرتبط تأييدهم لها بالرفاهية المعيشية فقط، بل ارتبط أيضا بتصويرها هي الشقيق التوأم للتحرر من مختلف القيود، مع تصوير ذلك هدفا جديرا بالعمل من أجله والدفاع عنه، وهنا يكمن محور الارتباط الوثيق بين الرأسمالية وتطوّرها إلى متشددة، وبين “الليبرالية” وما بات يوصف من مراحلها بالجديدة!
ولقد كان مفكرو “نادي روما” يحذرون منذ نصف قرن من أن اعتبار النمو الاقتصادي هو معيار التقدم، والسعي لزيادته باطراد، وهو في واقعه نمو عائدات أصحاب المال والأعمال تحديدا، لا بد أن يوصل إلى انهيارات خطيرة، مثلما حذر سواهم من أن للتطور التقني والعلمي حدودا يجب وضعها في الحسبان.
وجميع ذلك لم يؤثر على انتشار “السلعنة” في ظل الرأسمالية -على حد تعبير عبد الوهاب المسيري رحمه الله، مترجما لظاهرة يكتب عنها بعض مفكري الغرب وفلاسفته- فباتت صناعة السلع والخدمات وترويجها وتسويقها هدفا بحد ذاته، أو جزءا من هدف تحقيق مزيد من العائدات بأي وسيلة وأي ثمن، بما في ذلك الحروب، وبالتالي لتحقيق مزيد من الهيمنة المالية، دون وضع حقيقة الاحتياجات البشرية بعين الاعتبار، ناهيك عن أي درجة من الحرص على عدالة اجتماعية أو مادية.. بل حتى أصبحت قيمة “الإنسان” نفسه مرتبطة بسَلعنته، بمعنى تصويره “سلعة” والتعامل معه على هذا الأساس.
إن الأمر الأهم والأعمق مغزى وتأثيرا مستقبليا من الأزمة المالية هو أزمة الفكر الذي صنعها، ولا يوجد أي مؤشر على “خطة عملاقة” ولا خطة جانبية لإنقاذه من الانهيار. ومن طبيعة سقوط الأفكار وانهيارها أن يحتاج إلى زمن.
ولكن المؤكد أن السؤال الواجب طرحه لم يعد: هل تنهار الرأسمالية والفكر الذي أوجدها؟.. بل هو السؤال: متى؟
ــــــــــــ
كاتب سوري
الجزيرة نت