مسببات الانتشار السوري على الحدود الشمالية اللبنانية
علـي بلوط
لعل تفجير السيارة المفخخة في أطراف دمشق في الأسبوع قبل الماضي وما تبعها من تفجير سيارة أخرى في طرابلس صباح الاثنين قبل الماضي، يلقي ضوءاً كاشفاً على الأسباب الموجبة للانتشار السوري العسكري على الحدود في الشمال اللبناني. وهذه محاولة لشرح ما خفي من أسباب وراء إقدام الحكومة السورية على نشر أكثر من عشرة آلاف جندي من القوات الخاصة على الحدود الشمالية اللبنانية، وتحديداً على الحدود المشتركة في منطقة عكار. والقوات الخاصة تمثل النخبة المقاتلة في الجيش السوري، وهي مؤهلة للقتال الكلاسيكي وحرب العصابات في آن واحد. ومعظم عناصرها كان يشكل ما كان يُدعى «سرايا الدفاع» في عهد الرئيس السابق حافظ الأسد، وكانت لفترة طويلة بقيادة شقيقه رفعت الأسد حامل لواء المعارضة اليوم. الكلمات الواردة في هذا المقال ليست تحليلاً مائة في المئة، كذلك ليست معلومات بالقدر نفسه. إنها مزيج من الاثنين مع فارق واحد هو أن طابع المعلومات يغلب على التحليل، وهي مأخوذة من مصادر موثوق بها عادة لبنانية وسورية وقد دفعني تعقب تفاصيلها إلى زيارة قصيرة إلى دمشق.
الانتشار العسكري السوري لم يكن مفاجئاً للسلطات اللبنانية المختصة. وبالاستطاعة القول إن القمة السورية- اللبنانية التي عقدت في الشهر الماضي في دمشق بين الرئيسين سليمان والأسد قد أقرّت هذا الانتشار بعد أن شرح الأسد لنظيره اللبناني ما يجري خلف الكواليس من أحداث وصفها الأسد بـ»المؤامرة الكبرى على الأمن الداخلي السوري اشترك في وضعها وفي تمويلها وفي تهيئة تنفيذها عناصر لبنانية وعربية وفلسطينية برعاية وتنسيق أميركيين لإحداث حرب أهلية تحمل طابع الاقتتال المذهبي في سورية».
أجراس الإنذار قـُرِعَتْ بشدّة في القيادة السورية عند وقوع أحداث طرابلس بين باب التبانة (ذات الأكثرية السُنية) وبين جبل محسن العلوي. في البداية، اعتبرت القيادة السورية هذه الأحداث بمنزلة أمور هامشية، لكن عندما تطورت ولم تنفع لإيقافها الجهود التي بذلتها القيادة اللبنانية بالتعاون مع القيادة السورية، تحول الضوء الأصفر إلى ضوء شديد الإحمرار، عندها راحت القيادة السورية تجمع المعلومات من المصادر المختلفة ثم عملت على تركيبها وتنسيقها وخرجت بالنتيجة الحاسمة، وهي أن ما جرى ويجري في الشمال وفي طرابلس بشكل خاص هو كرة ثلج بدأت تتدحرج من أعالي الجبل لتشكل كتلة متراصّة مليئة بالألغام الشديدة الانفجار وهدفها الداخل السوري.
قبل أحداث طرابلس رصدت العيون السورية المتواجدة بكثرة في الشمال نشاطاً ملحوظاً ومكشوفاً قام به رئبال الأسد، أحد أبناء رفعت الأسد، شقيق الرئيس الراحل وعم الرئيس الحالي، حيث قام بزيارات استعراضية في منطقة عكار المحاذية للحدود السورية والقريبة من مدينة حمص. والمعروف أن رفعت الأسد هو أحد الرؤوس المهمة والفاعلة في المعارضة السورية التي ترفع اليوم شعار المطالبة برأس بشار الأسد بأي طريقة وبأي ثمن. وقد حدثت هذه الزيارات الاستعراضية قبيل انفجار الوضع في طرابلس، ثم توالت بشكل شبه سري بعد ذلك واستهدفت زيارة القرى العلوية الموجودة داخل الحدود اللبنانية.
وبأسلوب المخابراتي الذكي، لم تحرك عيون دمشق ساكناً وذلك لادخال الأمان والاطمئنان إلى قلوب الخصوم بغية متابعة واكتشاف مدى عمق هذه التحركات في الداخل السوري. وجاءت النتيجة مطابقة لما توقعته دمشق عن وجود «خلايا اتصال» مركزها الشمال اللبناني لنقل «الرسائل» الكلامية وغيرها إلى الداخل السوري عبر حمص وحماه تمهيداً للوصول إلى دمشق بالذات. واكتشفت عيون دمشق أيضاً أن هذه الخلايا متعددة المذاهب وتضم بعض الأصوليين اللبنانيين، وجماعة «الإخوان المسلمين» السورية، ومعارضي النظام السوري من اللبنانيين والفلسطينيين ذوي المذاهب الأصولية المتطرفة. أما التمويل والتدريب على استخدام السلاح وتفرعاتهما فقد تولته بعض الدول العربية المعادية للنظام الدمشقي. كل ذلك بتنسيق احترافي من بعض الدول الغربية في البداية، ثم، ونتيجة للتطورات السياسية الإيجابية في العلاقات السورية- الغربية، وخصوصا التقارب المفاجئ مع فرنسا، انفردت الولايات المتحدة القيام بهذا الدور.
بعد وضوح الرؤية لدى عيون دمشق، بدأت اليد السورية العمل في الخفاء لإفساد هذا المخطط. وكان المعارضون يتوقعون أن تبدأ الحملة بسقوط طرابلس بشكل كلي بواسطة تنظيفها بشكل كامل من العناصر المؤيدة لنظام دمشق. فسقوط طرابلس بالنسبة لهؤلاء يُعتبر الحجر الأساسي في بناء نقطة الانطلاق نحو الداخل السوري. وانطلاقاً من معرفة دمشق لهذه «الحقيقة» بدأت هجومها المضاد في منع سقوط طرابلس في أيدي «الأعداء» وبالوسائل المختلفة. وهذا ما يفسر الخروقات المتتالية لوقف إطلاق النار الذي شهدته عاصمة لبنان الثانية. غير أن رسائل التهديد والوعيد الشفهي التي أرسلتها العاصمة السورية للمشتركين في هذا المخطط وللذين يحتمل أن يشتركوا به، إضافة إلى الفشل في محاولات إسقاط «جبل محسن» عسكرياً نتيجة للدعم العسكري السوري «بثياب مدنية»، وكذلك إسراع قيادة الجيش اللبناني، بناء على طلب بشار الأسد، إلى إرسال لواء كامل إلى المدينة للفصل بين المتقاتلين… كل ذلك جعل تنفيذ خطة إسقاط طرابلس مستحيلة. لذلك تخلى المعارضون عن هذا الهدف ونقلوا نشاطهم إلى عكار كبديل عن طرابلس.
بعد هدوء الوضع نسبياً في طرابلس، طلبت دمشق من القيادة العسكرية اللبنانية إرسال المزيد من القوات إلى منطقة عكار. غير أن القدرة العسكرية اللبنانية باتت محدودة جداً، خصوصا أن إرسال اللواء إلى طرابلس جاء على حساب ضمان أمن الجنوب حسب الخطة الموضوعة بالتفاهم مع «اليونيفل». ولهذا استمزجت القيادة اللبنانية قيادة «اليونيفل» في نقل اللواء من الجنوب إلى الشمال، ولم يعد باستطاعة الجيش اللبناني أن يقوم بأكثر من ذلك، مما جعل منطقة عكار، والتي اصبحت مركزاً للزلازل الأمنية في لبنان، بمنزلة «الخاصرة الطرية» عسكرياً بالنسبة لسورية. ونتيجة لهذا الوضع، وبالتشاور والتنسيق مع القيادتين السورية واللبنانية، قررت دمشق إرسال العشرة آلاف جندي سوري (وربما أكثر) إلى الحدود مع عكار لتغطي أمنياً ما ليس باستطاعة الجيش اللبناني تغطيته. واستناداً الى معلومات لبنانية، فإن اوامر دمشق لعسكرييها على حدود عكار ألا يدخلوا الحدود اللبنانية إلا في حالة وجود اضطرابات مذهبية خطيرة تؤدي إلى «الفلتان الأمني»، وأن يكون دخولهم منسقاً مع القوى اللبنانية الرسمية تحت ستار المساعدة وليس الاحتلال، وأن يعودوا بسرعة إلى الداخل السوري بعد اتمام مهمة السيطرة على الأمن.
رد الفعل العسكري والسياسي اللبناني على الانتشار السوري كان مزيجاً من القلق والترقب، خصوضا أنهم يعرفون العقلية السورية فيما يتعلق بأمنهم الداخلي. وفي حوار أجريته مع مصدر عسكري لبناني مسؤول في هذا الشأن قال لي ما حرفيته: «إن النظام في سورية لا يساوم على أي شيء يتعلق بأمنه الداخلي مهما كان صغيراً وتافهاً، وهو على استعداد لاتخاذ تدابير قاسية فورية دون النظر إلى عواقبها». والدليل على ما ذهب إليه هذا المصدر هو ما حدث في مدينة حماه في الثمانينيات عندما اجتاحت القوات الخاصة بقيادة رفعت الأسد آنذاك المدينة لإخماد شبه انتفاضة قام بها «الإخوان المسلمين». صحيح أن رفعت الأسد انتقل إلى الصف المعارض لسلطة ابن أخيه الرئيس بشار، لكن الصحيح أيضاً أن العقلية مازالت موجودة وربما بشكل أكثر عنفاً من الماضي، ولا فرق بين حماه السورية في الثمانينيات أو طرابلس أو غيرها من المدن اللبنانية اليوم. ولعل هذا الاحتمال الضئيل الحدوث هو الذي يبعث القلق في لبنان.
جانب مهم جداً… من السذاجة اعتبار عرض العضلات السورية على الحدود اللبنانية مجرد حدث عسكري بحت، فهو يحمل في طياته رسائل سياسية موزعة بالتساوي على أصدقاء دمشق وعلى خصومها على حد سواء, ومن المفيد الإشارة إلى أن هذه «الرسائل» قد فعلت فعلها في الجو اللبناني. إن شبه المصالحات بين القوى المتصارعة في لبنان كانت الثمرة الأولى لتلقي هذه الرسائل وفهم أبعادها الخطيرة والخطرة. فالجو السياسي اللبناني انقلب رأساً على عقب حيث بات الجميع، بمن فيهم سمير جعجع، ينادي بضرورة الحوار بديلاً عن الاقتتال، والاستقرار عوضاً عن الفوضى الأمنية. ولعل أول من فهم وتفهّم رسالة عرض العضلات السورية هو وليد جنبلاط الذي استطاع بسهولة تامة هذه المرة، أن يقنع حليفه سعد الحريري بضرورة التروي، والاشتراك بلعبة الحوار. لذلك ترك الشيخ سعد لعبة «العسكر والحرامية» في شوارع بيروت وطرابلس وغيرها من المدن واستعاض عنها بلعبة الخلاف السياسي ضمن الأطر الديمقراطية. أي أن نختلف ولا نتقاتل. وما قول سعد الحريري أكثر من مرة، بأن منزل أبيه في قريطم لن يكون ممراً لتوزيع السلاح ولا مستقراً، سوى رد على الرسائل السورية المتعددة الممهورة بتوقيع العضل العسكري.
* كاتب لبناني