الخاصرة الشمالية “غير الرخوة”
زياد ماجد
قد يصعب فهم المسلسل الدموي في طرابلس ومحيطها، باشتباكاته وتفجيراته، من دون التوقف عند أربعة عناصر رسمت ملامحه:
– الأول، نظرة النظام في دمشق إلى الشمال اللبناني منذ السبعينات، بوصفه المنطقة الأكثر حساسية في تماسها مع العمق السوري، الواجب التعامل معها كما لو أنها منطقة “داخلية” ينبغي تطويعها. ولهذه النظرة أسباب عديدة، أهمّها التكوين الديموغرافي- الطائفي للشمال المتاخم لمنطقة سورية ذات تكوين مختلف، وما يعنيه الأمر من احتمال تحوّل التوتر السياسي بين التكوينين وداخلهما الى صراع على خلفية مذهبية تربته خصبة في سوريا نتيجة التوازنات والممارسات القائمة فيها منذ عقود.
وقد تجسّدت النظرة المذكورة في التعامل الوحشي للأجهزة الأمنية السورية مع مدينة طرابلس طيلة الثمانينات، واستئنافاً منذ سنتين.
– الثاني، سعي سوري منذ الخروج من لبنان عام 2005، عقب اغتيال الرئيس الحريري وانتفاضة الاستقلال ثم قيام المحكمة الدولية، الى خلق واقع ميداني دموي لبناني يمكن البحث في ضبطه شرط المقايضة بالمحكمة، ويمكن العودة المباشرة الى إدارته من خلال التواصل مع إسرائيل والبحث عن تفويض جديد.
وقد اعتمد النظام السوري الاغتيال والتعطيل والشغب، ثم انتقل الى التفجير الأمني الواسع مستفيداً من تطوّرات إقليمية ودولية صبّت مرحلياً في صالحه (من التراجع الأميركي في المنطقة وارتباكه في السياستين العراقية والإيرانية، الى الصعود الروسي وتجربته في جورجيا، الى التراجع السعودي المصري والتقدم القطري، الى التبني التركي والدعم الاسرائيلي، وصولاً الى الانفتاح الفرنسي عليه)، وهو اختار الشمال مسرحاً لذلك لخصوصيته التي ذكرناها، ولكونه لا يقلق الإيرانيين وحزب الله الذين يهمّهم خط الإمداد البقاعي وصفاء الأوضاع جنوباً، بعد أن حسموا الأمور في العاصمة (ولو مؤقتاً) ميدانياً في 7 أيار، وسياسياً بعد الدوحة.
– الثالث، محاولة التأثير منذ الآن في نتائج الانتخابات النيابية القادمة في لبنان. فبعد “طلب” الرئيس السوري الى السلطة اللبنانية السياسية والعسكرية السيطرة على الوضع الخطير في الشمال (في ما يشبه التهديد بالتدخّل)، وبعد الحشد العسكري السوري على الحدود، وبعد استدعاء سياسيين وحزبيين لبنانيين من الأتباع، والتصريح بأن الانتخابات القادمة ستؤدي الى فوز المعارضة الوطنية (والقومية) على “أتباع المشروع الصهيوني”، تأتي الأحداث في الشمال حيث فازت قوى 14 آذار في انتخابات العام 2005 ب28 مقعداً من 28، وحيث قد تُحسم الاكثرية في الانتخابات القادمة إن بقيت الأمور تقريباً على حالها في معظم الدوائر الأخرى، تأتي لتوجّه رسالة تحذير الى الناخبين وتخويف لهم من الاختيار على نحو ما فعلوا منذ أربعة أعوام.
– أمّا الرابع، والأخطر، فمحاولة استثمار للعناصر الثلاثة المعروضة آنفاً وسوقها في إطار اتّهامي، ينسب للإسلاميين (“السلفيين”) كل الانفجارات والإشتباكات، لخلق تعاطف وتفهّم دوليين مع السعي الدؤوب الى التدخّل العسكري وعبور الحدود، أو أقلّه التلويح بهما، خاصة بعد تفجير دمشق منذ أيام والعمل على ربطه بما سبقه وما تلاه في طرابلس، وكأن الشمال صار “قاعدة” خطيرة أمنياً على المنطقة برمّتها.
****
في مقابل هذه الحملة المنظّمة التي يشنّها النظام السوري، ينبغي الرد لبنانياً في المحافل العربية والدولية على أساس التذكير بأن ما يجري داخل سوريا، من “انتحار” غازي كنعان، الى اغتيال عماد مغنية، فاغتيال الجنرال محمد سليمان، والأنباء عن “وفاة” هشام أبو لبدة (أحد مسؤولي حماس في سوريا)، وصولاً الى الانفجار في العاصمة منذ أيام وما يرافقه من إشاعات عن استهدافه أحد الضباط الذين حقّق معهم ميليس في تهمة اغتيال الحريري، هي أعمال لا علاقة للبنانيين بها، ومن ينبغي أن يُساءل عنها – كما عن أحداث الشمال اللبناني – هو النظام السوري نفسه وأجهزته (تنفيذاً أو تواطؤاً أو تقصيراً). وحتى لو صحّ وقوف بعض “الإسلاميين” وراءها، فالأمر يأتي بعد سنوات من إيواء نظام البعث للقادمين منهم من كل حدب وصوب بغية إرسالهم الى العراق، ثم الى لبنان…
****
في محصّلة الأمر، أن ما يجري في الشمال اليوم على خطره وخطر السعي السوري لاستغلاله، يمكن استدراكه وشحذ الهمم للتصدّي له من خلال الهجوم الديبلوماسي والإعلامي الخارجي، ومن خلال المعالجات الداخلية الأمنية الحازمة والسياسية الرصينة.
والشمال، رغم دقّة أوضاعه والاستهداف المخابراتي العنيف له، ورغم الأخطاء السابقة في التعاطي معه والتقصير الرسمي التاريخي تجاه أبنائه وبناته، قادر على الثبات في معركة الاستقلال. ومطلوب تحصين وضعه وربطه – كما كل المناطق – بمشروع وحيد، هو مشروع الدولة الحديثة ومؤسساتها.
والشمال في أي حال، وإن كان خاصرة نازفة، لن يكون بتلك الرخاوة التي يتمنّاها البعض.
إفتتاحية نشرة الأفق