الأزمة المالية العالمية

الرأسمالية والتشكك

كريستوفر كارول
مع بزوغ فجر كل يوم جديد تطالعنا الأخبار بعملية إنقاذ أخرى في وول ستريت أشد ضخامة من سابقاتها، وبات هناك سؤال واحد يفرض نفسه بقوة متزايدة: ما الذي يجعل أداء الاقتصاد الأميركي بهذه الدرجة من السوء تحت إدارة الرؤساء الجمهوريين؟ إن لمن الصعوبة بمكان أن نشكك في الحقائق الثابتة في هذا السياق؛ فالسجل التاريخي شديد الوضوح، حتى أن الجمهوريين المتشددين ربما يتساءلون الآن ما إذا كانت لعنة ما قد أصابتهم. منذ أصبحت العلوم الإحصائية الحديثة متاحة وحتى الآن، كان أداء الديمقراطيين أفضل كثيراً من أداء الجمهوريين بكل المقاييس التقليدية للأداء الاقتصادي تقريباً (نمو نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي، والبطالة، والتضخم، والعجز في الميزانية).
حتى أن الديمقراطيين نجحوا في التفوق على الجمهوريين على أرضهم. فبفضل التبذير الذي اتسمت به إدارة بوش الحالية (وتعقل إدارة كلينتون) أصبح متوسط الإنفاق الفدرالي كحصة من الناتج المحلي الإجمالي تحت إدارة الرؤساء الجمهوريين الآن يتجاوز نظيره تحت إدارة الرؤساء الديمقراطيين أثناء الفترة نفسها.
ويتأكد لنا النمط نفسه من العجز الذي أبداه الجمهوريون في هذا السياق حين يمتد نطاق التحليل التاريخي ليشمل استخدام عائدات الأوراق المالية في قياس الأداء الاقتصادي. ففي المتوسط، ومنذ العمل بمؤشر «ستاندارد آند بورز» المركب لقياس أداء البورصة في عام 1926، كان العائد الذي تتحصل عليه بوضعك لأموالك في سوق البورصة أقل بحوالي 16 نقطة نسبية خلال كل ولاية لرئيس جمهوري، مقارنة بالعائد تحت ولاية الرؤساء الديمقراطيين. ولقد ظل الأداء الضعيف للجمهوريين بمنزلة حقيقة ثابتة حتى حين استبعدنا سنوات الأزمة العظمى والحرب العالمية الثانية من التحليل (على اعتبار أن مثل هذه الفترات كانت تشكل حالات فريدة).
مع اقتراب الفترة الرئاسية الحالية من نهاية مأساوية أصبح الرئيس الحالي يخشى أن يتذكره الناس باسم جورج هربرت هوفر واكر بوش، وباتت العلاقة المتبادلة بين الحزب الرئاسي والناتج الاقتصادي تتطلب تفسيراً من نوع ما.
لن يتسنى لنا أن نتوصل إلى الإجابة المطلوبة بمراجعة المقترحات السياسية النوعية التي طرحها الجمهوريون أو الديمقراطيون، والتي تطورت على مر السنين إلى حد يجعلها تتحدى أي محاولة للتعميم المقبول. ولن نستطيع التوصل إلى فوارق محددة في المبادئ الاقتصادية على النحو الذي قد يترجم إلى توقعات معقولة بأداء اقتصادي أفضل تحت إدارة أي حزب من الاثنين.
وربما كان التفسير الأفضل هنا مرتبطاً بالمواقف وليس الإيديولوجيات. فربما تعمل الرأسمالية على نحو أفضل حين ينجح المتشككون في كبح إسرافها، وليس حين يعمل المؤمنون الحقيقيون على كتابة وتفسير وتنفيذ قواعد اللعبة. وليس لدينا شك في أن الديمقراطيين هم الأكثر تشككاً بين أهل الحزبين الأميركيين.
وربما كان بوسعنا أن نستقي بعض الأدلة في تلك المظاهر التي يتسم بها الاقتصاد الأميركي والتي نعتقد أن الآخرين لابد أن يسعوا إلى محاكاتها. فاليوم هناك إجماع ساحق على أن الاستعانة بآليات واضحة شفافة ويمكن الاعتماد عليها في السيطرة على حملة الأسهم تشكل ضرورة أساسية لممارسة المؤسسات العامة لوظائفها على النحو السليم. وهنا يعود الفضل كله إلى القواعد المحاسبية الجيدة. ولكن من المفيد أن نتذكر أن العديد من القواعد التي تلقى الاستحسان على نطاق واسع اليوم كانت عُـرضة للمقاومة الشرسة حين اقترحت لأول مرة. ففضيحة تسجيل خيارات الأسهم بتاريخ سابق والتي أحاطت أخيراً برئيس مجلس إدارة شركة «أبل»، ستيف جوبس، تُـعَد قطعة من الإبداع وحسن الأداء والإصلاح؛ والآن بعد ظهور قاعدة جديدة تمنع مثل هذه الممارسات، فلن يتكرر هذا النوع من الاحتيال مرة أخرى. وبهذا تقترب القواعد المحاسبية من الكمال.
ماذا نتعلم من هذا المثال؟ من الصعب أن نجزم. ولكن ربما تعمل الرأسمالية على نحو أفضل حين تكون مسؤولة أمام بعض المعايير الخارجية مقارنة بنجاحها حين تترك لآلياتها الخاصة.
بينما يتراجع القرن العشرين إلى مؤخرة ذاكرتنا، أصبح من الواضح على نحو متزايد أن البيان العام الذي يحدد عصرنا هذا يتلخص في كتاب ميلتون فريدمان «الرأسمالية والحرية». بيد أن القوة التي يتمتع بها ذلك الكتاب مستمدة في الأصل من استقلاله الشديد عن المعتقدات التقليدية المعاصرة له آنذاك. ولقد كان صوت فريدمان بمنزلة نسمة من الهواء «المتشكك» العليل في وقت كانت فيه وجهة النظر السادة عبارة عن ضرب من الاشتراكية الأنيقة الزائفة، التي لم تدرك القوة المذهلة التي تتمتع بها الأسواق في إنجاز أهدافها المرغوبة.
بيد أن المعتقدات الجمهورية القويمة المهيمنة اليوم تشكل ضرباً من «الفريدمانية الأنيقة الزائفة» التي تعتقد أن الأسواق لن تقع في الخطأ إذا ما تُـرِكَت لحالها. وربما حان الوقت من جديد لكي نستنشق نسمة هواء عليلة أخرى.
حتى الآن لم ينته تدوين سطور كتاب عصرنا الجديد، إلا أنني أقترح أن يكون عنوانه: «الرأسمالية والتشكك». قد لا تكون كلمة «التشكك» مثيرة ومحفزة ككلمة «الحرية»، إلا أنها تعبر عن شيء ربما كان علينا أن نستعين بالمزيد منه أثناء السنوات القليلة الماضية.
* أستاذ علوم الاقتصاد بجامعة جونز هوبكنز.
«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى