الأزمة الرأسمالية
علي الغفلي
قبل نحو عشرين عاما واجهت الشيوعية أزمتها النظرية والتطبيقية، الامر الذي تطلب من الاتحاد السوفييتي بصفته زعيم العالم الاشتراكي في ذلك الوقت أن يلجأ إلى محاولة انتشال كل من الدولة والمجتمع من التناقضات والإخفاقات التي عصفت بالحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في المعسكر الشرقي الذي كان يناهض المعسكر الرأسمالي الغربي.
أحسن القائد السوفييتي آنذاك، ميخائيل جورباتشوف، في تحديد مكامن الخلل التي كان ينبغي اصلاحها، ولكن السياسات والممارسات التي اتخذها من أجل تنفيذ الاصلاح أو “البريسترويكا” شابتها مثالب الارتباك والتخبط. في ضوء ذلك، كان الانهيار التام مصير الاتحاد السوفييتي، وتفكك بالتالي المعسكر الشيوعي، واختارت دوله ان تنتقل إلى النظام الرأسمالي، وواجهت هذه الدول درجات متفاوتة من النجاح والفشل في التحول إلى الرأسمالية الاقتصادية والديمقراطية السياسية. بدا الامر بعد ذلك كما لو ان الهزيمة التي لحقت بالشيوعية، فلسفة وممارسة، تعني في الوقت ذاته انتصار الرأسمالية بشكل حاسم ونهائي على كافة النظم المنافسة، وأن فلسفة الاقتصاد الحر التي تشكل جوهر الرأسمالية قد صارت خيار ومستقبل البشرية، الى الأبد.
بعد عشرين عاما من تلك الاحداث الجسيمة يبدو أن الدور قد جاء على الفلسفة الرأسمالية كي تواجه نصيبها من المتاعب، خاصة في ما يتعلق بالجانب المالي، وهو جانب يلخص الكثير من التداخلات غير السوية بين النظرية والتطبيق في السياسة والاقتصاد في هذه الفلسفة العتيدة. ليس من السهل تفويت ملاحظة أن أزمة الشيوعية تجسدت في زعيمتها الاتحاد السوفييتي، تماما كما أن الأزمة التي تواجه الرأسمالية حاليا تتجسد في زعيمتها الولايات المتحدة. أكثر من ذلك، تشير اصابع الاتهام إلى واشنطن، كونها زعيمة العالم الرأسمالي، في التسبب في صنع هذه الأزمة الكارثية التي تهدد النظم الاقتصادية في الدول الاوروبية الغربية، تماما كما أشارت اصابع الاتهام قبل ذلك إلى موسكو في التسبب بصنع الأزمة التي أطاحت بالاشتراكية في دول شرق ووسط أوروبا قبل نحو عقدين من الزمن.
كان المتسبب الرئيسي في إخفاق الفلسفة والنظم الشيوعية متمثلا بشكل اساسي في الاغراق الشديد في “التخطيط المركزي” للاقتصاد، بينما يبدو من الواضح ان الأزمة المالية الرأسمالية التي تعصف بالولايات المتحدة وأوروبا سببها الاساسي الإخفاق في تقدير الحدود الواقعية التي يمكن ان تلعبها “اليد الخفية” في ادارة الاقتصاد بشكل ناجح. تسبب التخطيط المركزي الشيوعي في قتل روح المبادرة والإبداع، وانخفاض الكفاءة الانتاجية، وانخفاض مستوى التنافسية على المستويين الداخلي والدولي. وفي المقابل، فإن التمادي في تصديق منطق اليد الخفية، التي قيل انها تتكفل بحسن ادارة الاقتصاد ومساعدته على الضبط الذاتي، وبعيدا عن التدخل الحكومي، قد تسبب في جعل الاقتصاد غير منظم، وغير منضبط، وعرضة لممارسات الاستغلال والتدليس، بل وغير مسؤول في العديد من الاحيان.
إن الأزمة المالية التي تواجه العالم الرأسمالي عميقة إلى أبعد الحدود، وتستحق حالة الاستنفار التي تشهدها عواصم العالم الغربي من أجل انقاد اسواق المال. تتكفل بعض الحقائق الواردة في تصوير حجم المأساة: خسرت اسواق المال الرئيسية حول العالم في شهر سبتمبر من هذا العالم اكثر من أربعة آلاف مليار دولار، وفقدت الولايات المتحدة خلال هذا العام أكثر من 760 ألف وظيفة، منها نحو 159 ألف وظيفة في شهر سبتمبر/ أيلول وحده، ويتهدد الإفلاس العشرات من المصارف وشركات الأعمال، كما أن تهاوي الشركات الأمريكية والأوروبية يجعلها طعماً سائغاً أمام أنشطة الاستحواذ من قبل صناديق الاستثمار السيادية الأجنبية، الأمر الذي يعني انتقال الثروة الوطنية الأمريكية والأوروبية الى جهات في الخارج، اضافة الى الوظائف المفقودة، هناك الكثير مما سوف يخسره عشرات الملايين من عامة الناس بسبب هذه الأزمة. خاصة في ما يتعلق بالمنازل، والرواتب، والمعاشات التقاعدية، والودائع المصرفية، الأمر الذي يعني ببساطة الدخول في دائرة الضنك المعيشي والسقوط في براثن الفقر بالنسبة لشعوب العالم الرأسمالي التي اعتادت على مستويات مريحة من المعيشة ونوعية الحياة، إن الأزمة الرأسمالية الحالية هي فلسفية وحياتية في الوقت نفسه، تماماً كما كان الحال بالنسبة للأزمة الشيوعية قبل نحو عشرين سنة.
تحركت واشنطن باتجاه تحمل مسؤوليتها من أجل إنقاذ العالم الرأسمالي، وذلك بموافقة الكونجرس بتخصيص 700 مليار دولار سيتم ضخها في السوق الأمريكي، سيتوفر أمام ادارة الرئيس جورج بوش كمية هائلة من الأموال: اضافة الى نصيب ضخم من صلاحية اتخاذ القرار بخصوص كيفية استخدام أموال المساعدة وأيضاً تحديد المؤسسات الأمريكية التي سوف تستفيد من مساعدات الانقاذ المالية، لا يشكل تحرك الحكومة الأمريكية من أجل انقاذ الأسواق حلاً أمثل أو سحريا على الاطلاق، ولكنه الأداة المتوفرة أمام الدولة العظمى من أجل مواجهة الأزمة، وان كانت الدول الشيوعية والاشتراكية التي سقطت قبل نحو عقدين من الزمن محظوظة لأنها وجدت في النظام الرأسمالي بديلاً منطقياً وجذاباً أمكنها التحول إليه، فإنه لا يوجد أمام الولايات المتحدة، ودول أوروبا بديلاً منطقياً وجذابا يمكن أن تتحول إليه في حال فشلت الرأسمالية، ولذلك فإن السبيل الوحيد المتوفر أمام العالم الرأسمالي للنجاة يتمثل في معالجة أوجه الخلل في المؤسسات والممارسات الرأسمالية، حتى ولو تطلب الأمر اجراء تغييرات صعبة قد تتنافى مع الروح المتطرفة للنظام الرأسمالي السائد حالياً.
تسهم الاعتبارات الديمقراطية الحقيقية في تسهيل مهمة دول العالم الرأسمالي في تشخيص الأزمة الرأسمالية والتعرف إلى الأسباب الحقيقية وراءها، وتقدير آثارها الخطيرة بالنسبة للشعوب فيها: ومن ثم تحديد الوسائل اللازمة من اجل مواجهتها بشكل جدي، لا يجب أن ننسى أن الرأسمالية هي تعبير عن الحرية في الشق الاقتصادي من حياة المجتمعات، وأن الديمقراطية هي تعبير عن الحرية في الشق السياسي، وأن المواجهة الناجحة للأزمة الاقتصادية الحادة التي يرزح تحت وطأتها العالم الرأسمالي تستند في جانب كبير منها الى آليات الحياة الديمقراطية التي تتمتع بها الدول الغربية، ولمعالجة الأزمة الاقتصادية الرأسمالية سوف تتطلب منطلقات الحكومة المسؤولية. وأدوات الحكومة المساءلة، وممارسة الشفافية، وتنشيط جهود الحد من الفساد، وهذه كلها أمور يمكن أن تجد المستندات الرئيسية لها في الحياة الديمقراطية التي تتمتع بها الدول الرأسمالية في النصف الغربي من العالم.
وفقا لذلك، إن القلق الحقيقي والأكبر ينبغي أن ينصرف الى الدول التي تتخذ من الرأسمالية نظاماً للاقتصاد، دون أن يصحب ذلك الديمقراطية كنظام للسياسة، إذ ان مثل هذه الدول في الشرق الأوسط، والعالم النامي عموما لا تمتلك القدر الكافي من عناصر الحكومة المسؤولة، والمساءلة، والشفافية، ومحاربة الفساد، وبالتالي فإن قدرتها على مواجهة أزمة الرأسمالية تعتبر منخفضة للغاية وفرصتها في النجاة متواضعة الى أبعد الحدود. إن كان بإمكان الشعوب في الدول الديمقراطية ان تثق بشكل معقول في قدرة حكوماتها على تشخيص ومواجهة أزمة الرأسمالية، فإن على الشعوب في الدول الرأسمالية غير الديمقراطية أن تقلق كثيرا في خصوص قدرة حكوماتها على مواجهة الأزمة بدرجات المصارحة والمسؤولية والشفافية والفاعلية المطلوبة، ناهيك عن تشخيصها بشكل نزيه ومتجرد بادئ الأمر.
عندما انهار المعسكر الاشتراكي الشرقي وسقطت الفلسفة الشيوعية، لم يكن لدى الاطراف الاخرى في العالم أية مصلحة أو دافع من أجل إنقاذ الامبراطورية السوفييتية من المصير الذي لاقته في نهاية المطاف. لقد انتظرت الدول والمنظمات الدولية في العالم الرأسمالي سقوط الدولة السوفييتية وتفكيك المعسكر الاشتراكي أولاً، قبل الشروع في مد يد العون من أجل المساعدة على التحول الى الديمقراطية والرأسمالية. ولكن الامر مختلف هذه المرة. إذ في ظل عدم وجود البديل الحقيقي والقوي، لا توجد مصلحة عقلانية لدى أحد في العالم في انتظار سقوط الرأسمالية. ينبغي ان تبذل الولايات المتحدة، والدول الصناعية الرأسمالية، وايضا الصين ودول الشرق الاوسط، قصارى جهودها التكاتفية من أجل مواجهة الأزمة الرأسمالية، ويجب أن تنجح في تجاوز هذه الكارثة الخانقة، وذلك لأن البديل لا يقل عن فوضى عالمية في أسوأ صورها، وهذا أمر لا يمكن تحمل مجرد تصور وقوعه.
* رئيس قسم العلوم السياسية، جامعة الامارات
الخليج