أزمة الرأسمالية المعولمة
عمر كوش
جاءت الأزمة الماليّة الكبرى، في أيامنا هذه، كي تعبر عن أزمة النظام الرأسمالي الأميركي، الذي يقود الرأسمالية المعولمة، وهي أزمة الليبرالية الجديدة أو المتوحشة حسب تعبير عالم الاجتماع الفرنسي »بيير بورديو«، عالم الليبرالية الجديدة »السعيد«!
ويبدو أن هذه الأزمة المالية لن يتمّ استيعابها تماماً حتى ولو لجأت الحكومة الأميركية إلى ضخ مئات المليارات من الدولارات واستنفار البنوك والمصارف المركزيّة العالميّة، فالمخاوف ما زالت قائمة من الإفلاس والانهيارات المتلاحقة، إذ ما زالت دول كثيرة تترقب تداعيات وإرهاصات الأزمة، التي اجتاحت مناطق مختلفة من العالم، واستدعت وضع خطط »عملاقة« لاحتوائها، وبتكلفة تجاوزت كل التوقعات.
ولأول مرّة يجيز النظام الرأسمالي تدخلاً حكومياً شاملاً »لا سابق له« بـ»مبالغ طائلة« سيدفعها المكلفون الأميركيون لإنقاذ السوق المالية المترنحة تحت وطأة أسوأ أزمة تواجه النظام الرأسمالي المعولم منذ أزمة »الكساد الكبير« في ثلاثينيات القرن الماضي. ويشكل تدخل الدولة سابقة غير معهودة في نظم رأسمالية، كانت تعتبر كل المشاكل والأزمات تنجم عن الدولة وتدخّلها والأسواق، لكن الوضع الحرج اقتضى التدخل في النظرية الرأسمالية التي تتيح لشركات، وربما لأفراد، التحكم بسياسات دولة، وفي العولمة التي اجترحت سياسات نظام مالي عالمي، يمكن فيه أن يهدد مصير بنك أو شركة عملاقة اقتصاد دول عديدة في العالم، ويهدد حياة مليارات البشر ويبدد أموالهم، في وقت يعاني منه نحو مليار إنسان خطر الموت جوعاً وعطشاً.
إنها مسؤولية الليبرالية الجديدة التي تتحكم بالأسواق وبالقرارات العالمية، وتحرّك الاقتصاد العالمي بالشركات الأميركية العابرة للقارات، التي تتجاوز رؤوس أموال بعضها وأصولها موازنات عدة دول مجتمعة، والتي باتت تتحكم بمصير العالم، وتتدخل في القرارات السياسية والعسكرية والاقتصادية.
واللافت في الأمر أن الأزمة المالية الحالية أطاحت ببعض البنوك والشركات التي كانت تشكل مرجعاً مالياً ومستودعاً لمدخرات بنوك أخرى محلية وأجنبية، وترتبط بها بنوك أوروبية وآسيوية وإفريقية عديدة. ولا شك في أنها ستتأثر سلباً، وتفقد جزءاً من ودائعها المالية في هذه البنوك. وهناك أسباب عديدة لهذه الأزمة، حيث يشير الخبراء إلى فقاعة أسعار العقارات، التي وصلت إلى مستويات عالية لا يمكن لساكنيها تسديد الفواتير الشهرية للقروض المترتبة عليهم، الأمر دفع أصحاب هذه العقارات إلى إعلان إفلاسهم، وحين وضعت البنوك أيديها على هذه العقارات لم تعد قادرة على بيع تلك الأصول بأسعارها الأصلية. وشيئاً فشيئاً تضخمت أزمة الرهن العقاري، ثم انفجرت بتكلفة باهظة الثمن، وأخذت معها مدخرات الأفراد الذين ستحيل معظمهم إلى عالم الفقر والحرمان، خصوصاً الذين ينحدرون من الطبقة الوسطى.
وسيدخل عام ٢٠٠٨ في تاريخ الرأسمالية باعتباره عام الأزمة الكبرى، أزمة نظام، وأزمة نهج سلكته الإدارة الأميركية الحالية، ولا شك في أنها ستؤدي والنظم التي أفلتت العقال لنهم وجشع رأسمالية متوحشة، همها الوحيد هو الربح السريع، ولو كلّف ذلك أموال البشر وأرواحهم.
وكان العام ٢٠٠٢ قد اعتبر عام أزمة الفضائح الكبرى، حيث أشهرت شركة أنرون الأميركية إفلاسها، ثم تعاقبت الإفلاسات لتطال »وورد كوم« الأميركية و»فينفندي يونيفرسال« الفرنسية، وأخيراً »فيات« الإيطالية. فضلاً عن إفلاس العديد من شركات الطيران العالمية، بدءاً بشركة الطيران الأميركية ومروراً بشركة الطيران السويسرية وانتهاء بشركة الطيران الفرنسية »اير ليبر«. وقدر حجم المبالغ التي دمرت في أسواق البورصة العالمية خلال ٢٠٠٢ بنحو ٤٠٠٠ بليون دولار، أي ما يعادل حجم الناتج الكلي لليابان، ثاني أكبر عملاق اقتصادي في العالم، أو ضعف حجم الناتج الكلي لألمانيا، اكبر دولة صناعية في أوروبا، أو حجم ناتج بريطانيا وفرنسا وإيطاليا مجتمعة.
إن تعاقب الأزمات والفضائح بمثل هذه الضخامة يدلّ على وجود خلل أو مرض في النظام الرأسمالي في أعلى مراحل تطوره، أي الرأسمالية المعولمة. وقد وصف المرشح الديموقراطي باراك أوباما الانهيار المالي لوول ستريت بأنه يعد أكبر أزمة مالية تتعرض لها الولايات المتحدة الأميركية منذ »الكساد العظيم«، لكنه انهيار مدوّ لإيديولوجيا اقتصاد السوق الحرة المتعصبة. وهو انهيار يشبه كثيراً انهيار حائط برلين.
([) كاتب سوري