إنها الرأسمالية.. يا صديقي!
عبد الحسين شعبان (*)
كان لتعبير الرئيس السابق للولايات المتحدة بيل كلينتون “إنه الاقتصاد يا غبي” وقع قوي ومؤثر في حملته الانتخابية التي انتصر فيها على الرئيس جورج بوش (الأب) “المنتصر” في حرب قوات التحالف على العراق العام 1991 وتحرير الكويت، فقد أدرك أنه رؤية ما بعد الحرب الباردة لا بدّ أن تقوم على الاقتصاد، وساهمت توجهات كلينتون في تخفيض ملموس للنفقات العسكرية وتقليص عدد القوات العسكرية في الخارج، وحصول فوائض في الميزانية وانخفاض نسبي في مستوى البطالة، لكن اتجاه الرئيس بوش (الإبن) قاد الى تفضيل استخدام القوة باستغلال التفوق العسكري واحتلال افغانستان 2002 والعراق 2003، بحجة مكافحة الارهاب الدولي بشن “حرب استباقية ووقائية” ضده، وضاعف من حجم مشكلات الولايات المتحدة الاقتصادية والمالية وهو ما انعكس مؤخراً على أزمتها المستفحلة.
استعدت ذلك وأنا أقرأ بعض المعلومات والمعطيات عن الأزمة المالية الطاحنة التي تجتاح الولايات المتحدة والغرب الرأسمالي بشكل عام، ومعها تعليق والدة ماركس التي عرفت بدراسته ونقده للاقتصاد السياسي وعمله العبقري “رأس المال”، بالقول، كان الأجدر به الاّ يكتب كتاباً عن رأس المال، بل يعرف كيف يجمعه.
ولعل موضوع الحديث يتعلق بالأزمة التي عصفت بالنظام الرأسمالي العالمي، بقيادة الولايات المتحدة، التي تراكمت عبر أزمة الرهن العقاري ومن ثم انخفاض سعر الدولار وزيادة اسعار النفط، وأخيراً انهيار بنوك عملاقة وشركات تأمين جبارة، وهذه تهدد باختلالات كبيرة على الصعيد العالمي، ولعلها ليست حالة طارئة أو مؤقتة ولكنها تحفر في الأساس، ليس على صعيد الواقع حسب، بل على صعيد المستقبل أيضاً!
إن هذا الفريق أصيب بالحيرة لأنه لا يريد التصديق بأن “الرأسمالية” العملاقة التي اعتبرها جبروتاً لا يمكنه التصدع، وإذا بها تصاب بالوهن والضعف جرّاء أزمة عاصفة لاسيما وقد انتصرت في المعركة الكبرى ضد الاشتراكية.
من جهة أخرى فإن نقيض هذا الفريق، يذهب فيه الوهم مثلما هو وهم الفريق الأول، ولكن بالمقلوب الى الاعتقاد بأن الولايات المتحدة ستسقط أو ستنهار جرّاء الأزمة المالية، وأن الرأسمالية ستتفكك وتنتهي، ليقوم على أعقابها نظام أكثر عدلاً دون أن يعي أن الرأسمالية حسب منهج ماركس الجدلي، لديها القدرة على تجديد نفسها واستيعاب أزماتها وتطوير أدائها، لأنها تملك أيضاً مقومات ذلك، لكن هذه الأزمة ستكون مؤثرة وستترك بصماتها على الحراك السياسي والاجتماعي في الغرب الرأسمالي، لاسيما بعد “الحرب على الارهاب”، وهي حرب مكلفة بكل المعايير مادياً ومعنوياً. ولعله سيتوقف عليها المشروع الامبراطوري الاميركي بالكامل.
ان الاقتصاد الذي يقوم على المضاربة بالاسهم والبورصة ومضاعفة اسعار العقارات دون وجود زبائن حقيقيين يستطيعون امتلاكها، أدى الى افقار شديد للموارد العالمية، انعكس ذلك على السلع الغذائية والمعادن واستهلاك الطاقة وتدمير البيئة، في الأرض والبحر والفضاء.
وبهذا المعنى فإن ما تتعرض له شعوب البلدان النامية (المستضعفة) يصطدم مباشرة بالهيمنة الرأسمالية ـ الكولونيالية الجديدة، ليس نظرياً حسب، بل هو واقع عملي شديد الوطأة، خصوصاً وان سلوكها اللاإنساني يتضح في ظل البيئة الدولية المهيمنة، وذلك دون استحضارات آيديولوجية أو اسقاطات نظرية، فالنظام الرأسمالي وطبيعته الإمبريالية لم يعد يسهم في تمدين الشعوب ورفع درجة انسانيتها حسب المسوّغات العقائدية التي حاول ترويجها في السابق، مع ان هناك من يقول بذلك، رغم تجربة العراق المريرة حالياً!
كما أن الحرب على الارهاب اتخذت منحى صدام الحضارات وصراع الثقافات، وغدت الشركات العملاقة تعلو فوق الدول، لاسيما شركات السلاح والطاقة، ولم تعد الرطانة الليبرالية ستاراً يستطيع أن يحجب الجشع الرأسمالي، حيث تستمر شعوب تحت الاحتلال وتغتصب خيرات وثروات وتفرض حصارات وتمارس عدوانات، ويستمر الفقر والفاقة والأمراض والأوبئة والتصحّر، الأمر الذي يقترب من البربرية، حتى وان ارتدى ثوب “التحضّر” و”الحداثة”!
ان الهزة الزلزالية التي تعرض لها مصرف ليمان أخوان (ليمان براذرز) الذي مضى على تأسيسه أكثر من 150 عاماً قد اصابت النظام المصرفي والمالي والاقتصادي في الولايات المتحدة بالصميم، وقد عصفت هذه الهزة بميرل لانش كبرى المؤسسات المالية والمصرفية، الأمر الذي سارع فيه الرئيس بوش الى تقديم خطة الى الكونغرس واضطر الى تعديلها لاحقاً وحصل على موافقة مجلس الشيوخ، على أمل إقرارها لانقاذ الوضع المتردي والمنهار، وقد سارعت العديد من البنوك الدولية الى التشارك لرفد تدابير واشنطن لاسيما في اليابان وكندا إضافة الى أوروبا. وتقضي الخطة بتقديم مبلغ 700 مليار دولار لدعم واحتواء الأزمة، التي قال عنها الرئيس بوش نفسه، أنها تحتاج الى وقت لتؤدي مفعولها.
إن هذه الأزمة تعدّ أكبر وأصعب أزمة يتعرض لها القطاع المالي والاقتصادي الاميركي والرأسمالي، لاسيما في ظل العولمة، وهي استعادة لأزمة 1929ـ1933 التي أدّت الى انكماش حاد، ترك تأثيره على الصعيد العالمي بصعود أدولف هتلر الى الحكم في ألمانيا بانتخابات عام 1933، وفيما بعد باندلاع الحرب العالمية الثانية 1939 ـ 1945.
لقد ساد شيء من التفاؤل الساذج بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الكتلة الاشتراكية وأهملت وسائل الرقابة والحد من نزعة المغامرة، لاسيما على القطاع المالي والمصرفي، وهو ما ظهرت نتائجه الآن، خصوصاً وأن الحلول المطروحة حالياً لا تستطيع تأمين المستلزمات الكافية لإعادة الصحة والعافية فضلاً عن الثقة الى القطاع المالي والمصرفي الأميركي خصوصاً وإن الفئات الضعيفة. كانت الأكثر تضرراً وانسحاقاً كما هي في كل مرّة.
ولذلك فإن هذه الأزمة أدت الى حالة من الهلع الشديد لدى سكان المعمورة كلها، إذ لا أحد يستطيع أن يتصور الى ماذا ستقود هذه الأزمة؟ وماذا ستترك من تأثيرات خطيرة ؟ لاسيما على شعوب البلدان النامية، ولكن في الوقت نفسه يخطئ من يعتقد أن الولايات المتحدة حالياً عملاق كسيح أو نمر من دون ورق، لأن مثل هذا التصور يؤدي الى تقليل الرغبة في فهم حقيقة ما حصل في وول ستريت.
ان الاقتصاد الاميركي دخل مرحلة الركود كما هو متوقع حالياً، لكن ذلك لا يعني أنه ليس لديه القدرة على الخروج من ذلك والعودة الى عافيته كما حدث في مرات سابقة، ولعل مثال أزمة السبعينات وزيادة أسعار النفط من القرن الماضي، ومشكلة المخدرات والقروض والعجز المتصاعد في الميزانية العامة وفي الميزان التجاري في الثمانينات وانفجار فقاعة الدوت كوم والهجمات الارهابية في عام 2001 خير دليل على قدرته الفائقة، ولكن الثمن الباهظ هو ما ستدفعه الشعوب وبشكل خاص الفقراء! أليس كذلك..؟ إنها الرأسمالية .. يا صديقي؟!
(*) باحث وحقوقي عراقي
المستقبل