عولمة الأزمة الاقتصادية
سليمان تقي الدين
الإجراءات التي اتخذتها الإدارة الأميركية بدعم المصارف الفاقدة للسيولة النقدية قد تمنع الفوضى العارمة في الأسواق المالية وكذلك الفوضى الاجتماعية، لأن علاقة المواطنين يومية وعضوية بالمصارف. لكن هذه الإجراءات لا يمكن أن تعالج الأزمة المالية نفسها، فكيف بالأزمة الاقتصادية. لم تكن المشكلات التي تولدت عن الرهن العقاري وتوسعه الهائل وانكماشه اللاحق، إلا مظهراً من مظاهر الأزمة الاقتصادية العميقة التي أصابت الاقتصاد الرأسمالي العالمي مع الاختلالات العميقة بين الرأسمال المالي المتراكم الذي يتحكّم بالاقتصاد والاقتصاد الفعلي المنتج للسلع. لقد كانت الطفرة العقارية نفسها أحد مظاهر مشكلة التراكم المالي الباحث عن ميادين استثمار. وعلى هذا الصعيد برزت مشكلتان: الأولى هي ضيق مجالات الاستثمار نتيجة الإشباع العام، والثانية هي المنافسة غير المسبوقة مع اقتصاديات متقدمة جديدة كالصين وبعض دول شرق آسيا وأميركا اللاتينية فضلاً عن المنافس الأصلي الياباني ثم الأوروبي. كما أن العولمة أدت دورها على هذا الصعيد سواء بالنسبة لحركة رؤوس الأموال خارج الأسواق القومية وضوابطها، وحركة إنتاج السلع في دول وأسواق قادرة على المنافسة بالنظر إلى ظروفها الاجتماعية وانخفاض الأعباء العامة فيها. بهذا المعنى فإن الأزمة الاقتصادية الآن هي أزمة ركود في الأسواق الأميركية انعكست بصورة دراماتيكية على الأوضاع المالية وليس العكس. عملياً هناك مليونا مواطن أميركي فقدوا ملكيتهم العقارية أو منازلهم لعجزهم عن الوفاء بأقساطها. هذا العجز دليل على ضيق الأوضاع الاجتماعية وفرص العمل. ومن نتائج الأزمة انضمام هؤلاء إلى فئة البطالة أو العاطلين عن العمل ولو بصورة جزئية. إن إفلاس الشركات والمؤسسات بات محتماً مع تعثر المصارف وفقدانها للسيولة. ما تضخه الإدارة الآن لا يوازي إلا نسبة ضئيلة من الاحتياجات المباشرة للوفاء بحاجات السوق الأولية. عبثاً نتوقع توازن الاقتصاد الأميركي في مدى سنوات.
صحيح أن النموذج الأميركي يضخّم مساوئ الاقتصاد الرأسمالي. هو الاقتصاد الأكبر في العالم والقائد والذي تشكل أسواق البورصة فيه المرجع الأول لحركة الأسواق وتداول الأسهم والأموال. لكنه ذو مديونية عالية ويستخدم بصورة أساسية التدفق المالي من اقتصاديات كبرى أخرى، كالفوائض اليابانية والصينية والعربية. منذ سنتين، ومع بدء مظاهر الأزمة قامت هذه الدول بنجدة الاقتصاد الأميركي بتحويل أموال نقدية إليه وساهم رفع أسعار النفط كسلعة استراتيجية لكل الاقتصاد العالمي في الاحتفاظ بقدر معين من المنافسة للسلع الأميركية مع السلع الأوروبية. لكن هذا الإجراء لم يصمد وانفجرت الأزمة. استنفرت أوروبا بدولها الأساسية لتدارك احتمالات الانهيار الاقتصادي الشامل، هذا الاستنفار هدفه إيجاد صندوق دعم نقدي للبنوك المتعثرة. لكن هذه الدول بحثت بصورة رئيسية موقفها من النظام المالي العالمي ككل، وبالذات من القيادة الأميركية لهذا النظام، مرجعية البورصة الأميركية والدولار.
من تداعيات الأزمة خسارة الولايات المتحدة دورها القائد ومرجعيتها الاقتصادية لمصلحة شكل جديد من التعاون بين أقطاب القوة الاقتصادية. وما هو مؤكد أن الأزمة تتفاعل في كل الأسواق الدولية وستكون لها مضاعفات في كل مكان. إعادة النظر بالسياسات المالية الدولية تفرض تعاوناً منظماً بين الأسواق وتكاملاً بين الاقتصاديات يعزز تدخل الدولة في كل مكان. إن المنافسة الحالية المطلقة في إطار العولمة لا يمكن السيطرة عليها وعلى نتائجها الاقتصادية وبالتالي الاجتماعية من دون تدخل فعال من الدول. إذا كان من المبكر القول إن النظام الرأسمالي العالمي قد فشل في تجديد نفسه فعلى الأقل من المؤكد والثابت أن الليبرالية المطلقة قد فشلت في إدارة النظام الرأسمالي.
كانت الرأسمالية تحل أزماتها الكبرى بالحروب، بالسيطرة على أسواق وسلع جديدة، بالنهب المنظم لثروات الدول الفقيرة. آخر هذه الحروب كانت العراق. لكن هذه الحرب ساهمت في توسيع الأزمة الاقتصادية. إن العالم يحتاج إلى نظام جديد، ربما هذا ما أعلنته التصريحات الأوروبية على هذا الصعيد.