إشكالية الثقافة والتنمية
عمر كوش
في ضوء المستجدات التي عرفها العالم منذ العقدين الأخيرين من القرن العشرين، أصبح الحديث عن الثقافة أمراً مختلفاً عن ذي قبل، وغدت المسألة الثقافية مثار نقاش واسع. فقد غيّرت ثورة تكنولوجيا الاتصالات من طبيعة الأشياء، وصارت المعلومات والمال ورؤوس المال تنتقل في زمن حقيقي، مخترقة الحدود والفضاءات. ونتج عنها أن الثقافة أصبحت بضاعة معولمة الإنتاج، تتحكم في إنتاجها وتسويقها شركات عملاقة. وساد تنميط للبضاعة الثقافية وتسويقها عبر شبكات تتحكم فيها شركات عالمية تنتمي في الغالب إلى أميركا وبلدان أوروبا، ويتحكم فيها عدد من المتنفذين الذين حولوا المنتوج الثقافي والإعلامي والترفيهي إلى سلعة معولمة.
إذاً، أصبحت الثقافة في عالم اليوم قضية إستراتيجية، ترتبط بعملية التنمية الإنسانية. والمعروف أن الثقافة مستويان: مستوى أنثروبولوجي، حيث تكون الثقافة تراثاً من عادات وقيم وتقاليد تطبع الوجدان وينبني عليها السلوك، ومستوى آخر تكون فيه الثقافة شأن نخبة تتداول فيما بينها ثقافة عالمية. ومع العصر الحديث جرى ربط التعليم بالثقافة، لكن التمايز ازداد في بلداننا العربية بين نوعين من التعليم، ارتبطا بمستويين وسرعتين متباينتين: تعليم خاص يستوجب المعرفة الحديثة المطلوبة مهنياً في عالم اليوم، وآخر عام ترعاه الدولة، ويؤدي إلى مهن متدنية إن لم يؤد إلى البطالة. وأصبحت الثقافة تقسم المجتمع المتخلف إلى قلة قادرة على مواكبة التطور ومسايرة الاقتصاد الجديد، وكثرة لا ينفعها تكوينها العتيق في الاندماج في النسيج الاقتصادي. وهذا الانشطار الحاصل على مستوى المجتمع الواحد حاصل على المستوى العالمي، حيث لم يعد التعليم وسيلة لتجديد النخب، بل لتجديد التفاوت الاجتماعي والتوارث الطبقي للسلطة والثروة، وبالتالي لم يعد وسيلة لنشر الديمقراطية، ولم يعد كذلك وسيلة للتربية العمومية على الحداثة، إذ أصبحت الحداثة شأن أقلية مجتمعية، الأمر الذي يفسر ضعف القاعدة الاجتماعية للحداثة في بلداننا العربية.
وبالعودة إلى فكر الإصلاحية العربية، نجد أن للثقافة أهمية خاصة، وكذلك لتحديث القيم الثقافية. وكان التعليم أولوية من أولوياته، بسبب الدور الذي لعبه في إطلاق النهضة الأوروبية ونشر الوعي والتنوير والتحديث، وباعتباره وسيلة مهمة لخلخلة البنى الاجتماعية التقليدية وبروز نخب جديدة. لكن حين دعا طه حسين الذي كان أكثر المفكرين العرب دفاعاً عن فكر الأنوار وأكثرهم اهتماماً بمسألة التعليم، إلى تأميم التعليم الديني وإخضاعه لإشراف الدولة ومراقبتها، لم يكن يدرك أن الدولة التي منحها كل ذلك الدور على التعليم كوسيلة لبناء الديمقراطية والحداثة في العقول، لم تكن هي نفسها ديمقراطية ولا حداثية أو حديثة. وبالتالي فإن فاقد الشيء لا يعطيه.
وكان الليبراليون العرب– أمثال طه حسين– يأملون أن يحدثوا تأثيرهم في الدولة القائمة، وأن تطبق أفكارهم بسلطتها. وربما يكون موقفهم هذا بمثابة تبرير لاحتلالهم مناصب في أجهزة الدولة، حيث كانوا عملياً جزءاً من جهاز الدولة القائمة التي لم تكن ديمقراطية بأي مقياس كان.
وقد كان طه حسين من أولئك الذين اعتبروا أن المسألة الثقافية أعمق في تأصيل التنوير والحداثة. وآمن بعالمية الثقافة الغربية، معتبراً أنها نسخت كل الثقافات والحضارات فأصبحت هي الحضارة، ودعا إلى تبنيها، وإلى تغريب مصر. لكن للدور الحاسم الذي أعطاه للثقافة أهمية في دلالته، خصوصاً وأن الثقافة تطرح في عالم اليوم في علاقتها بالتنمية.
ويمكن أن نسترجع هنا السؤال الذي طرحه “ماكس فيبر” قبل نحو مئة عام من الآن، وهو: كيف تصنع الثقافة التنمية؟ وهو سؤال لم يقبله الماركسيون، لأن التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية هي التي تحدد عندهم الثقافة. لكن فيبر حاول، في أطروحته حول الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، إثبات العلاقة ما بين القيم الثقافية للبروتستانتية وبين الاقتصاد الرأسمالي الذي خلق الثروة واقتصاد السوق، حين اعتبر أن العقلانية الحديثة اختصت بها حضارة الغرب دون باقي الحضارات، وأن الأولى هي التي أرست دعائم الدولة الحديثة بدستورها المكتوب وقوانينها المجردة. أما “الليبراليون الجدد” فقد أخذوا بفرضية الامتياز الاستثنائي للثقافة الغربية، معتبرين أن الحداثة، متمثلة في الديمقراطية واقتصاد السوق، ما كان لها أن تكون ممكنة خارج القيم الثقافية الغربية. وهي أطروحة مرفوضة، نظراً لأن دعوى الامتياز الغربي لم تعد شيئاً مسلماً به بالقياس إلى التطورات الحاصلة في اليابان والصين وفي شرق وجنوب شرق آسيا، بما فيها دول مثل ماليزيا وإندونيسيا. وإذا كان لهذه الأطروحة ما يبررها والغرب يهيمن على العالم، ذلك لأنه رسخ في أذهان الشعوب المستعمرة، ونخبها بصفة خاصة، أن قوة الغرب راجعة إلى قوة مؤسساته ومصداقية قيمه الثقافية، لذلك دعت الحركات الإصلاحية في البلدان الواقعة تحت حكم الاستعمار الأوروبي إلى تبني قيم الغرب واقتباسها.
إن ليبراليينا المقلدين يفهمون من إنهاء دولة الرعاية على أنه تقليص للضرائب وللحقوق الاجتماعية للعمال، وهم يريدون من إعطاء الحرية للقطاع الخاص كسب امتيازات واعفاءات، وبيع القطاع العام لهم تحت مطلب الخصخصة. لكنهم يتناسون أن الليبرالية كل متكامل، ويكتفون بالمطالبة بحرية المبادرة الاقتصادية مفصولة عن منظومة الحريات، لذلك فإن هدفهم هو تحرير الاقتصاد وليس تحرير المواطن.
في حين يكرس الليبراليون الجدد نوعاً من العرقية الثقافية، حينما يرادفون بين التحديث والتغريب، ويجعلون القيم الغربية هي الوحيدة التي تكرم الإنسان، وتبني الديموقراطية الحقة، وتؤسس اقتصاد السوق الذي وحده يخلق الثروة. ورغم كل ذلك فإن الثقافة الغربية قدمت للإنسانية عبر تاريخها مكاسب حاسمة، إلا أنها تبقى ثقافة من ضمن ثقافات متواجدة في عالم اليوم، وعليها أن تتفاعل وتتحاور وتتوافق على قيم إنسانية مشتركة. لأن حوار الثقافات لا يمكن أن يؤول إلى مجرد مناظرة ثقافية أودينية، ولا يمكن أن يكون ذا جدوى إذا ما تمسك كل طرف بخصوصيته المطلقة. وهذه بالضبط حال كل “الأصوليات”، بما فيها أصولية الليبراليين الجدد.
يمكن القول أن إشكال الثقافة والتنمية في بلداننا العربية يتمثل في كيفية إنجاز تراكمين متكاملين: تراكم اقتصادي لإرساء الديمقراطية على قاعدة اجتماعية، وتراكم سياسي ديمقراطي لتصبح الديمقراطية ممارسة، أي بنية النظام الاجتماعي والسياسي. ويبدو أن هذا الإشكال المركب لن يحل إلا بتضافر جهود حثيثة ومخلصة، والمرجح أنه لن يجد الحل في المنظور القريب.
كاتب من سورية
الأربعاء, 12 مارس 2008