عصر ما بعد الجزيرة؟
د. عبدالوهاب الأفندي
(1) مفارقة نادرة وبالغة الدلالة أن تتزامن زيارة ولي العهد السعودي الأمير سلطان إلي قطر مع إعادة إطلاق القناة العربية للبي بي سي هذا الأسبوع. فقد كانت معادلة معاكسة هي التي أدت إلي ولادة الجزيرة قبل أكثر من عقد من الزمان وحكمت توجهاتها: إغلاق خدمة البي بي سي العربية بضغط سعودي، وقبل ذلك قرار الأمير سلطان بصفته وزير الدفاع السعودي بحسم الخلاف الحدودي مع قطر عسكرياً باكتساح موقع الخفوس الحدودي والاستيلاء علي مناطق كانت تحت سيادة قطر.
(2)
يبدو أن هذا ليس أسبوع الجزيرة المفضل، فقد قررت إسرائيل مقاطعتها كما أنها تعرضت لهجوم عنيف علي إثر استضافة سيدة فاقدة للعقل والمنطق والحس السليم تهجمت علي العرب وعقائدهم وأشادت بإسرائيل وفظائعها. فهناك خطر إضافي أن يقاطعها المشاهدون بعد مقاطعة إسرائيل.
(3)
هل سيعني التقارب السعودي القطري وإطلاق قناة البي بي سي العربية بداية العد التنازلي لقناة الجزيرة بعد أن تتحول أولاً إلي نسخة من العربية ثم يصبح وجودها لا يختلف عن غيابها؟
(4)
ليس من الضروري لنجاح واستمرار قناة الجزيرة أن تتخذ موقفاً معادياً للسعودية أوأي بلد عربي آخر. ولكن أهم ميزة لقناة الجزيرة كانت تحديداً هي أنها تناولت المسكوت عنه، وفتحت آفاقاً جديدة ومساحات أوسع لتناول القضايا العربية. فإذا عادت إلي بيت الطاعة كما يريد زوارها المكرمون ووزراء الإعلام العرب فإن من الأفضل توفير المبالغ الطائلة التي تصرف عليها والتبرع بها لأطفال غزة.
(5)
الإعلام العربي في عصر ما قبل الجزيرة، بما في ذلك امبراطورية الإعلام السعودي الممتدة من لندن إلي دبي، لم يكن أخرس تماماً. ففي هذا الإعلام يتم تناول قضايا السودان واليمن والصومال وموريتانيا والجزائر ولبنان، وإذا دعا الداعي فسورية وليبيا وحتي مصر. ولكن في الغالب فإن تياراً فكرياً واحداً يهيمن علي هذه الامبراطورية، بينما هناك الكثير المسكوت عنه كما هو معروف.
(6)
الجزيرة اكتسبت ما اكتسبت من مكانة بتجاوزها للخطوط الحمراء التي رسمها البعض، وأهم من ذلك برفضها الخضوع للابتزاز من الأنظمة العربية. ولعل أخطر ما يمكن أن يقوض سمعتها ويعجل برحيلها أن يفهم ـ كما هو الحال الآن ـ أنها يمكن أن تخضع للابتزاز. ولعل هذا تحديداً ما فتح شهية إسرائيل لتدخل سوق الابتزاز، وقريباً سنري الولايات المتحدة تفعل الشيء نفسه. ولعل الأرحم والأوفر للمال والجهد أن تغلق القناة الآن قبل أن تموت موتاً بطيئاً.
(7)
أختلف مع الرأي السائد الذي يقول إن الجزيرة هي التي وضعت قطر علي الخارطة العربية، فالعكس هو الصحيح: أي أن سياسات قطر والنهج الذي تنتهجه (والذي انعكس في السياسة التحريرية للجزيرة) هو الذي أكسب قطر مكانتها العربية. صحيح أن القناة ساعدت واختصرت بعض الوقت، وأنها لو غابت أو تم تدجينها فسوف تحتفظ قطر بمكانتها وشبكة علاقاتها، ولكن قلة من العرب أو غيرهم ستسمع عنها أو تحفل بما تسمع.
(8)
بسبب قناة الجزيرة فإن الجماهير العربية ستقف اليوم مع قطر إذا تعرضت للضغط والابتزاز، أما في عصر ما بعد الجزيرة فإن قطر ستقف لوحدها إذا استهدفت. وقد يتساءل متسائل: وما قيمة هذا الدعم الجماهيري في النهاية؟ وهو سؤال مشروع.
(9)
أذكر أنني قرأت في الثمانينات قصة غاية في الغرابة لوزير سعودي سابق اعتقل في الستينات وسجن في قبو مظلم قرابة عقدين من الزمان حتي فقد بصره. وحين تحدث إليه الصحافي كان يتعالج في الكويت من مصابه ذاك، والتزم الكثير من الحذر متجنباً الخوض في ظروف وملابسات اعتقاله. الحكام العرب ووزراء إعلامهم يريدون للأمة كذلك أن تقبع في ذلك القبو المظلم حتي تفقد بصرها وبصيرتها، راجين أن تكون النتيجة اقتناعنا بأنهم أفضل الحكام.
(10)
الإشكال هو أن العمي في هذه الحالة هو عمي الحكام. فإذا كان القوم يصدقون ما يهرف به إعلامهم الكسيح من هراء، ويعتقدون أن الناس تهتم لأخبار من نوع أفطر سموه وتعشي فخامته وذهب سيادته إلي الحمام، فإن مصابهم أكبر من العمي بكثير. فإننا، رغم كل شيء، في عصر الانترنيت… والبي بي سي.
14/03/2008