الوطنية الصامتة
حنا عبود
يقبل الأميركيون على شرب القهوة بكثرة مفرطة، كأنهم مدمنون، وما هم بذلك. وقلما وجدنا من يشرب الشاي. فكل الستورات والسوبرماركيتات والسناك… تجعل جهاز القهوة الكهربائي تحت الضرب. كبسة واحدة وتحصل على القهوة الساخنة، طبعاً بالطريقة الأميركية وليس التركية.
وقد تقصّيت الأخبار من أصدقائي المقيمين في بريطانيا فعكسوا الأمر تماماً، وقالوا لنا إنهم قلما شاهدوا من يشرب القهوة. وقالوا هناك تقليد متبع منذ القرن الثامن عشر، وهو تناول الشاي عصراً، لا يزالون يسيرون عليه. وقد عشق البريطانيون شرب الشاي فتفننوا في صناعته إلى حد الإعجاز، فهناك أنواع بحسب المذاق الذي تريد: على فريز أو كرز أو ليمون أو برتقال أو أناناس أو فواكه منوّعه… وهناك الشاي اللاذع والشاي اللطيف… كل ما يشتهي مذاقك تلبيه لك معلبات الشاي التي تعلن على غلافها ما يوجد في داخلها، فكأنهم يريدون من المستهلك ألا يشرب سوى الشاي.
لكن الحقيقة ليست كذلك، فالأمر ليس حباً ولا هواية، فلا الأميركيون يكرهون الشاي، ولا البريطانيون ينفرون من القهوة، ولكنها قصة موقف وطني صامت.
ففي السادس عشر من شهر كانون الأول (ديسمبر) من العام 1773 تغيّر كل شيء.. في هذا التاريخ اعتلى خمسون رجلاً متنكرين بزي الهنود الحمر، ظهر سفينة وأفرغوا في البحر 342 صندوقاً من الشاي، بعدما فرض الإنجليز ضريبة على الشاي ناء بحملها كاهل المواطنين. ومن هذه الحادثة، التي بدت بسيطة جداً، اندلعت حرب طويلة وطاحنة سماها الأميركان حرب الاستقلال.
وفي بوسطن، قررت بضع مئات من النسوة ألا يشربن الشاي احتجاجاً على الضرائب الفاحشة التي فرضتها السلطات الإنجليزية، وأن يشربن القهوة بدلاً من ذلك. ولم تكن أميركا تعرف القهوة قبل وصول الشحنة الأولى منها إلى نيو إنجلاند العام 1660، بل لم يكن أحد يفكر في شرب القهوة. كانوا يسيرون على العادات الإنجليزية في تعاطي شرب الشاي.
وبما أنهن انكببن على شرب القهوة علناً في الشوارع، مرات عديدة في اليوم، حتى يعلن موقفهن للملأ، فقد مزجن القهوة بكثير من الماء حتى لا تؤثر في أبدانهن.
ولما شاهد المواطنون أولئك النسوة في بوسطن يشربن القهوة بهذه الطريقة، نقلوا العادة إلى كل المدن، ولم يعد أحد يشرب الشاي، لا في وقت العصر، ولا في غير وقت العصر، فقد كان هناك ما يشبه الإضراب عن شرب هذه المادة «الإنجليزية» والالتفات إلى شرب القهوة على الطريقة التي حضرت فيها النسوة هذه المادة، ولانزال نطلق عليها «القهوة الأميركية».
ولما رأى الإنجليز هذا الموقف المتشدد عمدوا إلى الاقتصار على استخدام الشاي، حتى صار من النادر في بلاد الضباب أن يظهر فنجان من القهوة في أي وقت من الأوقات، كنوع من الشعور بالذات الوطنية، وإن كان نوعاً صامتاً. فعندما تشاهد بخاراً فسيكون منبعثاً من الشاي حتماً.
ولاتزال هاتان العادتان متأصلتين في الشعبين، كنوع من التعبير عن الموقف والشخصية، بعد مرور ما يقارب القرنين ونصف القرن. ولا ندري إلامَ تستمر هاتان العادتان في الشعبين.
كل الشعوب القديمة كانت تسير على هذا الشكل، فتحتفظ بذكرياتها عن طريق ممارسة بعض العادات. والأوطان لا تتشكل إلا بهذه الذكريات المتمثلة في العادات، فهي التي تجعل الشعب يتماسك في تقارب شعوري وموقف موحد. وهذه هي الوطنية الحقيقية التي افتقدها العرب منذ زمن طويل، فلا توجد مناسبة ولا عيد ولا مهرجان يمكن أن نقول إنه «وطني». يبدو أننا أمة تكره الموقف الموحد، فقد دبت فينا الخلافات منذ اللحظات الأولى، ولم يكن هناك من شيء يوحد العرب سوى الغزو، حتى إذا ما انتهى عادت الخلافات إلى ما كانت عليه.
هناك عادات فردية تذهب بذهاب الفرد. أما العادات الوطنية، فإنها تستمر فترة طويلة جداً، كما هي عادة شرب القهوة في أميركا وشرب الشاي في إنجلترا. والعرب، كما يدل التاريخ لا يملكون أي عادة وطنية، بالمعنى المعروض آنفاً.
وإذا نظرنا في واقعنا اليوم، فإن الوطنية تتجلى في الصراخ والعويل والندب، وفي التظاهرات الكثيرة والكبيرة التي تستمر لساعات ثم تنفض، بعد أن تكون قد رفعت الشعارات العنيفة، والتي يقول سامعها، إن هذا شعب يمسك قراره بيديه، في حين لا يملك موقفاً وطنياً واحداً على غرار الأميركيين والإنجليز.
ليس لدينا عادة وطنية، فليس لدينا مشروب، ولا غير مشروب، يدل على موقف. نشرب كل شيء: الكابوتشينو والكوكا كولا والأناناس والبيبسي كولا ونبيذ بوردو وكونياك نابليون، وويسكي دنبل وفودكا سميرنوف وبيرة بيلزنر أوركويل… نشرب كل شيء، شريطة ألا يدل على شخصيتنا وموقفنا، أو يشير إلى مناسبة وطنية، أو إلى عيد شعبي (وهل بقي عندنا أعياد؟).
هناك عادة واحدة فقط أشاعها الفلسطينيون منذ القرون الأولى للمسيح، وهي ما نسميه «الشاكرية»، وأصلها «الجاكرية»، أي المناكفة، أو المعارضة، أو إعلان معاندة الآخر، وهي طبخ اللحم باللبن وتكون دائماً «طبخة عيد الفصح» عند المسيحيين، وهو يلي عيد الفصح اليهودي بأسبوع -على ما نظن- كـ«جكارة» لليهود الذين يحرمون طبخ اللحم باللبن تحريماً شديداً «لا تطبخ الجدي بلبن أمه». ولكنها عادة غير شائعة إلا في البلدان القريبة من فلسطين، حيث لا تظهر إلا في عيد الفصح لتدل على مهمتها الحقيقية، وعلى موقف المسيحيين (وشاركهم بها المسلمون) من اليهود. وهي آخذة في التقلص، بعدما هاجر اليهود من هذه البلدان إلى فلسطين، وبعدما برّأ البابا اليهود من صلب المسيح.
هناك اليوم ردة إلى العصور القديمة، ولكنها ردة إلى النصوص والنصائح والأقوال المأثورة والعادات الفردية التي لا تجمع شعبا،ً ولا تؤسس وطناً، بل بالعكس، تثير المشاحنات وتطيح بأعظم الأوطان.
معظم المناسبات الوطنية ألغيت، أو نسيت، أو أهملت، ومعظم العادات الوطنية تلاشت في ظل العصر الحديث… ومع ذلك نطالب بوطن موحد عزيز قوي… وطن يقوم على الصراخ العشوائي والانفعالات العابرة… وطن لفظي.