التعليق الصحافي فن ذو مهام لا تضطلع بها فنون الأدب الأخرى
ترجمة وإعداد: خالد أحمد
تناول كثيرون فنــــون الآداب، آخرهم التشيكي ميلان كونديرا الذي سعى لكشف اسرار ‘فن الرواية’، كذلك فعل البريطاني كولن ولسون تحت نفس العنوان ‘فن الرواية’، وهذان كتابان يلخصان خبرات ابرز الكتاب الغربيين في فن الرواية.
هناك بالطبع كتب لا تحصى تتناول فن الشعر والرسم والنحت والفوتوغراف الخ .
يقول كولن ولسن، صاحب مؤلف ‘اللامنتمي’ الشهير في عقد الستينات: ‘على الروائي أن يجد ـ عند الشروع بالكتابة او قبلها – الحلول لعدد من المشكلات الفنية البحتة، من نوع: ‘من أين أبدأ، وماذا علي أن أذكر؟ وماذا عليّ أن أستثني وهلمّ جرّا’*. هذه في الواقع هي نفس اسئلة كاتب التعليق الصحافي مضافا اليها سؤال:
‘عن ماذا اكتب؟’. لكن سؤال الروائي يختلف، فهو، وفقا لولسن، وجودي غالبا:
‘من أنا؟ ماذا أريد أن أكون؟ بل لماذا انا كائن؟ اي ان الروائي ينطلق من الاحساس بذاته هو، بينما المعلق الصحافي ينطلق من الاحساس بذات القارئ المتعطش لفهم ما يحدث حوله الآن (الآن تحديدا). واذا كان الادب يتمحور حول (الأنا) ويحتمل الكثير من الغموض والايحاء والتهويمات، فان التعليق الصحافي يسعى نحو الآخر، ويتوخى المباشرة والابتعاد عن اللبس، فهو يوضح تفاصيل الصورة المتحركة للاحداث، يتوقع، يستنتج، يحدد زمن واتجاهات الرياح السياسية قبل ان تهب، وبذلك يكون بمثابة مجس القارئ وبوصلته في طوفان هائج من الاخبار والمعلومات المتضاربة والمتتالية والسريعة.
والتعليق الصحافي، الذي هو لسان المطبوع او المنظمة او الدولة او الكاتب فقط، له قدرة التحدث بلغة جادة صارمة او خفيفة ساخرة، لكنه يلتزم في كل الاحوال بقواعد وشروط اساسية تكفل نجاحه وفعاليته فنياً.
نشوء التعليق
نصادف التعليق الصحافي منذ النصف الاول من القرن التاسع عشر. ويبين المكان الذي يحتله في الصحف الدور الذي اخذ يؤديه بالتدريج في شرح حدث معين او مسألة اجتماعية او ظاهرة. ادرك ناشرو الصحف، بمرور الزمن، ان التعليق لا يمكن ان ينــشر المعلومات وحسب بل وان يشرح ويؤدي دورا تعليمـــيا، وان يؤثر على تفكير القراء ويساعد بالتالي على تكوين الرأي العام. كانت بعض المجلات والصحف اليومية الصادرة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر تطالع قراءها بالجملة التالية: ‘لقد وعدناكم بتفسير الاحداث الشهيرة من زاوية مختلفة’. وهذا ما تعد به اغلب صحف اليوم كذلك.
الآراء والوقائع والحجج المستخدمة في الاعلام هي مواد بناء التعليق التي لا يمكن استعمالها كيفما اتفق بل انها تخضع لقصد الكاتب ولوحدة الشكل. كيف اذن يستعد او كان يستعد الكاتب لموضوعه، كيف يتعامل مع الحجج ويقيمها، وهل كانت آراؤه التي تستند الى الوقائع مقنعة ومنطقية؟
ما الغاية من التعليق
اول واهم شروط التعليق الذي يفوز بالقارئ هو اختيار الموضوع. ما لم يكن الموضوع ممتعا، رغم عنوانه او شكله المغري، لا يكسب القارئ. كما ان موضوع التعليق هو المنطلق للمحاججة واختيار الانشاء والاسلوب. ومهمة المعلق تفسير وايضاح واقعة معينة للقارئ، او لفت نظره الى الحدث ووضعه في متناوله. وبذا فان هذا المبدأ يفترض وجوب معرفة كاتب التعليق قرّاءه ومستوى معارفهم ومدى وعمق تناول الحدث في الصحف او البرامج الاذاعية والتلفزيونية.
يهتم التعليق على الاغلب بشرح الحقائق والاحداث وتفسير الاسباب التي ادت الى ظهورها وتتابعها والترابط فيما بينها.
وفي هذه الحالة يسعى المعلق للتكهن وايضاح تفاصيل الاحداث وخلفياتها من جوانب وزوايا مختلفة والايحاء بالتطورات المحتملة.
ومن بين الجوانب الهامة للتعليق فوريته وآنيته، فهو يستجيب بسرعة للاحداث التي تحتل مركز اهتمام القارئ، وينفعل بما يجري حوله وما يدور الكلام عنه والآراء التي تجري دراستها. هذا يفترض استعداد المعلق وثقافته في الميدان الذي يكتب به ودراسته الدائمة للموضوع المعين. ويمكن فقط عن طريق المعرفة الكاملة لموضوع ما كتابة التعليق ونقده ومناقشته.
اساليب كتابة التعليق
يتطلب التعليق، شأنه شأن كل انواع الكتابات الاخرى، قواعد معينة تقود الى محاولة الفوز بانتباه القارئ باكثر الاساليب ملاءمة وايجازا ووضوحا .
توجد عدة معايير صارمة للتعليق اكدها تطور هذا الاسلوب الادبي وممارسته في الصحافة اليوم .
أولا، ان التعليق يعبر عن (ويفسر) آراء الكاتب وموقفه من حدث، ظاهرة معينة او مشكلة ما، بأسرع وقت ممكن.
ثانيا، ينطلق التعليق من معلومات يعرفها الجميع، ويضيف اليها ويقيّم مدلولها الاجتماعي والسياسي والنتائج المتوقعة منها، او يساعد على تصنيفها وتفسيرها، ولفت انتباه القـــــراء نحو معلومات او حقائق جديدة ما كانوا يعرفونها، ومن ثم توجيههم بالاستناد الى هذه الحقائق وعلى ضوء مشاكل واحداث جديدة.
ثالثا، تتطلب كتابة التعليق موقفا مستقلا ومبدعا وتفكيرا مركزا على هدف معين وواضح ومحدد من قبل. ويجب تنفيذ ذلك بشكل مناسب ومنتقى.
لقد ادت الممارسة الحالية في الصحافة العالمية الى بعض الاساليب الانشائية والاسلوبية والتي تعتمد على ما اذا كان التعليق الذي نتناوله
أ ـ حدثا يوميا او
ب ـ تلخيص احداث اسبوع او اكثر .
والاسلوب الاكثر شيوعا في كتابة التعليق هو الاخباري او التفسيري. اما موضوعه فيكون كما يلي : في المرحلة الاولى يقوم الكاتب بعرض المعلومات حول وقت الحادث وسببه، وفي الثانية يشرح الكيفية التي وقع بها الحادث، وفي الثالثة يحدد امكانيات حل المشكلة المعينة.
وهذا الموقف يضع امام القارئ غير المطلع توجها سهلا وسبيلا ميسورا لمتابعة المعلق .
والاسلوب الاخر المتبع في كتابة التعليق اسلوب الاستدلال ـ اي اسلوب جمع الحقائق (من العامة الى الخاصة). انه يقوم على وحدة حقائق تبدو في ظاهرها وكأنها جمعت كيفما اتفق غير ان وضعها معا يسهم في تكوين صورة موحدة. ويتم انتقاء الحقائق من بين اخرى بحيث تبدو وكأنها لا صلة بينها في حين يربط الكاتب بينها بصورة واعية وفعالة.
ويستعمل الاسلوب التلخيصي في الاغلب في التعليقات الاسبوعية. وفي هذه الحالة يتناول الكاتب في معالجتة قضية اوسع بكثير ويضع نصب عينيه تسهيل توجه القارئ من مسائل معقدة (مسائل سياسية خارجية في العادة) ولفت نظره الى الدوافع الكامنة وراء الاحداث ومساعدته على فهم التطور اللاحق لها. وبالنظر الى التفسير الاوسع للاحداث فان التعليق التلخيصي ابعد مدى واكثر انفتاحا وانه يوصل المسألة الى نهايتها بدلا من التكهن بها.
كيفية المحاججة في التعليق
تتطلب المحاججة معرفة الصحافي قوانينها بالكامل. ويجب ان يتبع ويستخدم التدليل والحجج في دعم غرضه. ولا يمكن ان يعتمد التعليق على رغبات الكاتب ومشاعره بل يجب ان تفسر وقائع يمكن الحصول عليها من مصادر علنية. والوقائع الاكثر تأثيرا هي تلك التي تتوفر للقارئ، مثل خطب رجال السياسة وقرارات الهيئات الحكومية الخ.
ومن الخطأ الاستشهاد بكثرة او استخدام حجج لا تسهم في توضيح المسائل الاساسية. وينبغي للكاتب ان يأخذ باعتبـــــاره دوما ان على التعليق ان يتناول فكرة اساسية وحيدة وان يبين موقفه منها باستخدام حجج منطقية وباكثر الاشكال ملاءمة وايجازا.
كل هذا يمكّن المعلق من ان يعالج بنجاح مهام لا تمكن معالجتها في مجال آخر، كمجال الادب مثلا. وتعتمد فعالية التعليق بدرجة غير قليلة على الموقف الذهني في تصنيف الوقائع المستخدمة في المحاججة واستخدامها تباعا في اطار الموضوع.
من الضروري، في الاحداث الدولية المعقدة المتغيرة يوما بعـــد يوم، الاخذ في الحسبان كون معلومات القارئ عامة وسطحية مما يترك اثره على عمق قوام الموضوع: يصبح جوهر التعليق تفسير الحدث الجديد انسجاما مع الحجج المتوفرة واسلوب عرضها.
استعمال الاداة اللغوية في التعليق
يقود التعليق القارئ، عبر تطوير الافكار منطقيا، الى الفهم الصحيح للحدث الذي تجري مناقشته. وفي هذه الحالة ينحصر دور الكاتب في مكان محدد في الصحيفة وفي وقت محدد في الراديو او التلفزيون. ومعروف من التجربة ان التعليق يتكون في العادة من 60 الى 100 سطر. ومن هذا القانون غير المكتوب يمكن للمرء ان يدرك المدى الكبير المطلوب في الوضوح والايجاز في الكتابة. وان المبدأ الميثودولوجي الساري في هذه الحالة هو خضوع اللغة للمحتوى. والمطلب الاساسي من الكاتب هو تفسير الحقائق والافكار والحجج بافضل شكل مناسب وموجز قدر الامان حتى يمكنه من الفوز بانتباه القارئ بصورة فعالة. ونتيجة لغموض التعبير او الثرثرة الناجمة عن الجهل بالموضوع يحصل القارئ في كثير من الاحيان على مجرد كلام بدلا من المحاججة الرصينة والمنطقية.
وتوجد غالبا في لغة المعلق عناصر غير ادبية وكثير من الكلمات الاجنبية وافراط في استخدام المصطلحات الخاصة بحيث تجعل كلها التعليق ثقيلا ويحرمه من قوته ومن دقة التعبير في الاغلب.
يتضح مما قيل ان اختيار وسيلة التعبير يرتبط، من ناحية الدقة اللغوية وتلاؤم الاسلوب، ارتباطا عضويا بالغاية الرئيسية من التعليق. واذا استهنا بدور الاسلوب فاننا نحرم التعليق من وسيلة تعطيه عمق النظرة وشيئا من الاشراق.
ـ للتعليق مفعول نفسي متميز في تكوين الرأي العام ، ذلك ما خبرناه في حروب الخليج على الأخص. وسيكون من الصعب كسب قارئ لرأي ما اذا لم تكن الفكرة في المقدمة، امام انظار الرأي العام، واذا لم تصبح موضوع اليوم او الساعة.
ان الجانب العاطفي لواقعة او حدث ما مهم ايضا من وجهة نظر علم النفس الاجتماعي. فالتعليق الذي يحاول التأثير على عواطف القارئ يحقق متعة عظيمة لا يحققها استخدام عناصر الوعي العقلانية فقط … وهذا يجب اخذه بنظر الاعتبار ايضا.
القدس العربي