صفحات أخرى

واقع الكتاب العربي جزء من أزمة الواقع العربي

null

عمار ديوب

تعكس وضعية الكتاب العربي حالة الشعب العربي حيث تشكل وضعية عدم الاستقرار والشعور بانعدام الجدوى والدوران في حلقات لا خروج منها واختلاط السياسة بالدين وتداخل التشريع الوضعي بالتشريع الديني ووقوع أغلب البلاد العربية بين محتل أو تابع أو بلاد تهيئ نفسها للاحتلال لا للتحرر والحريات .الواقع النابذ والطارد لكل ما له علاقة بالثقافة والفكر والإبداع والبحث العلمي.

يلعب انخفاض سعر البحث العلمي الإبداعي وتجاهل أصحابه وعدم وجود حرية للباحث في التبحر والتفكر والتأمل والرصد والمتابعة أو أي دعم مالي دوراً أساسياً في تراجع أهمية الكتاب.وبغياب ذلك،يجبر المثقف على خيارات محددة،ترسم له،ويدخل في بوتقتها،فينصرف عن الهم البحثي نحو:إما الهجرة الخارجية ،أو هجرة البحث العلمي .والانتقال: إما إلى العمل الصحفي أو إلى عمل أخر يسد الرمق ويبعث السرور في النفس والاستقرار.وبالتالي سياسة عدم وجود تمويل للبحث العلمي وشمولية هذه السياسة في الوطن العربي حيث لا نعدم حالة استثناء واحدة ،هي ما يقضي على البحث العلمي وعلى المهجو سين به ،ليغرق البشر بوعي سطحي ،سلعي،يعتمد الصورة والموافقة على المعروض،أكثر مما يعتمد التفكير والنقد والموقف.

نضيف أن انهيار الآمال بواقع أفضل عبر مقولات”العدل والحرية والمساواة،قيم الثورة الفرنسية” مع إعلان البدء بتشكيل نظام عالمي جديد ولا سيما بعد سقوط المنظومة السوفيتية وإعلان أيديولوجية الحرب على الإرهاب الأمريكية وانكشاف دول التحرر الوطني والقومي كدول مستبدة نازعة لأية بقعة ضوء أو حياة ذات معنى شكل دافع إضافي لاضطرار البشر للانزياح نحو تفكير آخر،موجود كبنية في الوعي بحكم الاستمرارية التاريخية ولكنه مفعل وعبر تمويل متعدد الجهات نحو تفكير ذو طابع أصولي.ونتيجة ذلك اكتسح الكتاب الديني والتراثي غير المنقود معارض الكتب وأمزجة الناس وأفكارهم ويكاد أن يصبح فعل شال بالكامل لأية رؤية مستقبلية لواقعنا العربي .وبالتالي يتقدم الوعي العام وتقوده رؤية ماضوية تمتلك الحل السحري الديني لكل المشكلات ،تلغي التراث نفسه والتاريخ كما أنها تتجاوز الحاضر وعلومه وتضحي بالمستقبل حباً وتمسكاً بما يسمى الماضي، والأدق الماضي المؤول وفق وعي محدد يدعي القداسة ويكفر كل ما عدى رؤيته ،من أبناء مذهبه ومن كل المذاهب الأخرى ، عدا عن تكفيره لكل أشكال الفكر الحديث.وهو ما يقضي كذلك على الماضي الموضوعي وعلى الطريقة العلمية بالتعامل معه بوصفه موضوع بحث ونقد ودينياً موضوع إيمان ويحوله إلى مشروع سياسي لجمع من الناس؛ المنساقين بالرؤية الماضوية المشار إليها.

يتركز الإنتاج الثقافي في جانب أساسي منه،في الشعر والرواية والنقد إذا تجاهلنا عالم الكتب الدينية الفسيح؟!.وربما إذا تجاوزنا بعض الأسماء الهامة في هذا الإنتاج، فإن معظم ما ينتج يكاد لا يسمع به أحد أو انه بأحسن تقدير ينحصر في كونه مجال تداول في دائرة ضيقة لا تتجاوز دائرة الأصدقاء المعجبين،بالإضافة لتكدسه على رفوف المكتبات،أو في دور النشر،أو في شقق أصحابها.

يشكل دخول التلفاز والكمبيوتر ولا سيما الانترنيت مجال المنافسة الشرسة للكتاب، مشكلة حقيقية حيث قضت هذه المنتجات على الوقت اللازم والضروري للإنتاج الثقافي والإبداعي.حيث توفر المعلومة السريعة_كسندويشة الهمبرغر- أو المقالة المحددة بعدد قليل من الكلمات والأفكار يتناسب مع كثرة العمل المترتبة على الأفراد وبالتالي مع العصر السريع تكنولوجياً فقط ولصالح فئات معولمة، وهو ما يغرق العالم برمته بمشكلات يمكن وضروري الخلاص منها”كالفقر،والمياه الملوثة والحروب ذات الطابع الديني والعرقي وأمراض كالايدز والسرطان وغير ذلك“..

وربما أخطر هذه الوسائل التلفاز حيث التعدد في البرامج الشاملة لكل الأعمار عدا عن الموضوعات المختلفة ويأتي التنوع في الفضائيات والأقمار الفضائية ليشكل حالة استلاب كاملة،تهيمن على الوعي وتجعل الفرد شبه مخدر بإفيون الكلام العبثي والفوضوي ولكنه القادر على ضبط المجتمع البشري مجتمعاً بدون أفق.ولو أجريت أيها القارئ المحترم بعض الإحصائيات عن مقدار الوقت الذي يقضيه البشر أمام التلفاز لتبين لك حجم المأساة خاصة وأن البشر يتناولون الطعام والشراب والبذورات بدلاً من التفكير والنقد لما يعرض وهو ما يؤدي إلى تسريب المعلومات التلفزيونية إلى الدماغ كعملية مكملة لعملية الهضم في المعدة وتكون النتيجة تضخم في البطن وضيق في العقل؟!.

مع بروز ظاهرة الكتاب الديني والسلوك والوعي والعلاقات والمناهج والمدارس ذات الطبيعة الدينية بالإضافة لدور الجامع ودور العبادة التقليدية.فإن هيمنة إيديولوجية محددة تكون قد أصبحت متحكمة وضابطة بصورة كاملة على فسحات الاستقلالية والنقد والاختلاف والتعدد.وبالتالي تراجع الكتاب البحثي العلمي والنقدي والبحثي أو الوضعي بصورة عامة من مجال المنافسة ومواسم عروض الكتب.وإذ وجد وغامر أصحابه بالعمل والنشر، فإن الانتقائية والتجاهل والنبذ الذي يتعرض له، تجعل هذا الكتاب يفقد قيمته النقدية وتتم ضبضبته تحت ستار وعناوين: تقديس الخصوصية وتكفير الدول الغربية.

الفكرة الأخيرة بالترابط مع تراجع الفكر النقدي ،دفعت الباحثين إلى تقديس الخصوصيات وبدأت عملية تشويه ومسخ للفكر النقدي المنتج أوربياً فأبدعت ونحتت علوم جديدة تحت عناوين العلوم الإنسانية الإسلامية .فبدأنا نرى ونقرأ كتب بعناوين:علم الاجتماع الإسلامي أو علم السياسة الإسلامي،والاقتصاد الإسلامي وغير ذلك.ونخشى أن ينتج العلم الطبيعي الإسلامي ولو أنتج ستكتمل دائرة التخلف وتغلق بشكل لا خروج منها.

خطورة الفكرة أنها تشوه العلم الطبيعي أو الإنساني المعبر عن الواقع العالمي الحديث برمته و القائمة على أساس الموازنة أو المقارنة أو الملاحظة أو المسح والاستمارة وكل أشكال وطرق ووسائل البحث العلمي.وبالتالي كل ذلك يصبح علم غربي بدلاً من أن يكون علم وضعي، وهو ما يشوه موضوعية العلم ونقديته وثوريته في المآل الأخير.

الوجه الأخر لهذا التوجه أنه يدعي الاستناد إلى النص الديني المقدس وتستخدم في متونه وهوامشه الآيات القرآنية بما يدعّم رؤيته وبالتالي الادعاء بان هذا النص المنتج حديثاً نصاً مقدساً .وإذ أصبح النص الوضعي المنتج إسلاموياً نصاً مقدساً لأنه يستند للنص ديني.فهل يمكننا عندها النقد أو البحث العلمي أو مخالفة النص المقدس نفسه،سواء أكان بشكل معلن أو مبطن. ولو تمت مخالفته بالفعل ، ما الذي سيرد عليه أصحاب الكتب الدينية المقدسة، أليس التكفير وإدعاء التهجم على النص المقدس والتوعد كما هو حال كثير من المثقفين النقديين المُفتى بقتلهم.

وبسيادة هكذا عقلية فإن الكتاب الذي يلقى رواجاً ساحقاً هو هو الكتاب المالك للحقائق والمرغوب شعبياً وأقصد دينياً وهو ما يدفع بصفة خاصة إلى تشكيل مكتبة دينية مئة بالمائة والانعزال عن حداثة المجتمع،والتهيئة للمجتمع الإسلامي.

أنظمة التعليم بدورها بدلاً من أن تكون داعمة للفكر الحديث والعلمي والنقدي فإنها كثيراً ما تكون رديفاً ورافعةً للكتب والتفكير الديني خاصة حين تتم الاستعانة بحكم الثقافة الدينية والوعي العام الشعبي التقليدي بالثقافة الدينية شرحاً وتحليلاً وإيضاحاً وبالتالي تحريض الطلبة إلى نوع محدد من الكتب ولا سيما الدينية منها. وحين يكون الأمر كذلك، فإن النتيجة تتمثل في تشويه العلم الطبيعي ذاته وكذلك العلم الإنساني الوضعي النقدي لتصبح وظيفته دعم اتجاهات الفكر الديني المتأسلمة.

هذه الكتب ،وبدلاً من أن تكون نقدية، وتعتمد على ما أشرنا إليه سابقاً من طرق ووسائل البحث العلمي وتقدم رؤية نقدية تفترض الموائمة بين الدين كمجال خاص أو العلم كمجال عام.أو دراسة الواقع ومفهمته ورفعه إلى مستوى مقولات فكرية استناداً إلى مقولات فكرية حداثية علمية وضعية، تعمد إلى الخلط وتشويه الأصل والحداثة معاً ،دون الوصول إلى الجمع في معاصرة،تدمج الماضي والحاضر دون تناقض.

ولان الكتب الدينية تمايز وتفاضل بين الجماعات والأفراد فهي تثبت الماهيات الدينية المختلفة بحسب المذاهب والطوائف والأديان وبسبب انتشارها الواسع فإنها تساهم بدورها في تذرير وتشتيت وتفتيت المجتمع القطري الواحد وكذلك المجتمع العربي الكبير وهو ما يدفع الفرد نحو خيار واحد ومحدد هو خيار (المذهب،والقبيلة،والعشيرة،والطائفة، والمنطقة،والأسرة)وتسييس هذه البنى وتشويهها،بدلاً من أن تكون هذه البنى جزء طبيعي واجتماعي وأصل ينتمي إليه الأفراد بحكم دورها في تشكيل الهوية تاريخياً. وبتحقق العكس كما أشرنا، وبتسييس هذه البنى، يغيب المجتمع ككلية مترابطة ومتعددة المستويات وضرورة تمثلها ككلية في مؤسسات الدولة. وحينها يغدو المجتمع العربي مجتمعات ،والفرد كيان منعزل ،والقبيلة كيان نهائي ،والدولة-إن وجدت- فضاء لمجتمعات متعددة ومشروع تفتيت دائم. وبالتالي يصبح المجتمع بسيط في هذا الفهم ومنقسم إلى فئتين: فئة الكفر وفئة الإيمان ويسود بينهما عالم القتال والصراع وقد يكون فكرياً أو واقعاً متفجراً بحرب أهلية كارثية كما يجري في العراق وكإمكانية في لبنان ويتفجر أحياناً في مصر أو الجزائر أو السعودية. وبسيادة هكذا نمط من التفكير التكفيري فإن المستقبل يكاد أن يخرج من بين أيدينا بعد أن شُكّل حاضرنا بفعل الآخرين،ويبقى سؤال جدير بالتفكير،كيف نمتلك فكرياً وواقعياً واقعنا وأية معرفة تساعد في ذلك. نترك الإجابة لمشاركات القراء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى