بورتريه لشبح عاتب وحزين
عناية جابر
في مثل هذا الوقت من السنة والعالم يحتفل فيه بيوم المرأة العالمي، ينهمك جوزيف سماحة ـ وكان ما يزال يعمل معنا في جريدة السفير ـ بالتخطيط لإصدار عدد خاصّ بالمناسبة، يقتضي في جزء منه أن تتبوأ إحدانا، نحن المحررات العاملات في الصحيفة، منصب رئيسة التحرير ليوم وليلة كاملين.
نلتقط فكرته، ونروح نجهد الي بلورتها في يقظة تامّة لتخدم العدد المُفترض كيما يأتي لمّاحاً ومؤثراً، ليس لإثبات أهليتنا كنساء مسؤولات بأي معني من المعاني، بل عرفاناً لصاحب الفكرة جوزيف نفسه، وإكراماً لإقتراحه الذي يصدر دائماً من إحساسه الحضاري والخاص بأي أمر.
مع مرور سنة علي غيابه، لم تُبارحني شكّة حنين عميق ـ خصوصاً أن سفري الأخير حال دون مشاركتي في إحتفالية تذكّره ـ وإحساس قوي بحضوره كشبح حزين عاتب.
في يوم المرأة العالمي، منذ ايام، خُيّل إليّ فجأة وكأنما جوزيف قد مات للتو. مضت سنة علي غيابه، وانا وإن كنت أواظب علي زيارة ضريحه فإنما لأستأنف معه حديثاً إنقطع، غير أني لا اخدع عينيّ برؤيته، لأنه ببساطة مات. أتذكرّه الان لأنني أشتاقه، ولأن يوم المرأة العالمي ، مرّ مروره الذي لم يكد يُلحظ بالنسبة لي، من دون دفء قلبه، ولطفه، ورشاقة وتلقائية وحرارة إحتضانه، لنهار ولو وحيد يراه عادلاً لنا، نحن زميلاته وصديقاته.
أتذكرّه الان في نوع من الهلوسة، شيء أجوف، يفتقر الي الإدراك الواضح عن مغزي غياب هذا الرجل، وضرب من إستحضاره في يوم المرأة العالمي، يقوم به ذهني المكدود والخائف. كنت احبه حباً طبيعياً، لامبالياً. كان الشخص الوحيد في العالم الذي يحدس ما تحتاجه فعلاً، فهو يمتلك تلك الصفة المنفتحة علي الاخر والحانية التي تجعل الآخرين يخجلون علي نحو واضح، امام لطفه، خجلاً هو أيضاً نوع من الذنب.
كان لوجهه تعبير جذاب وإن غير مُشرق، وبشرة شاحبة، حالمة أتذكّرها كغشاوة رقيقة تكسو ملامح شخص ناضج.
كنت اسمع وقع اقدامه نازلاً من الطابق الرابع حيث مكتبه ثم ها هو أمامي بطوله الفارع، يسألني عن فكرتي لعدد الغد الخاص بيوم المراة ذاك، فأروح اتبّرم من سؤاله: أنا ما بحبّ فكرة يوم للنسوان جوزيف، ولا يوم للرجال، إذا مُطلق بني آدم عندو فكرة واضحة عن اللي بدوّ يحققو، فيه يوصل إذا كان ست أو زلمة كان يُهمهم مغتاظاً من إجابتي: طبعاً يا ست روزا لوكسمبورغ، فيكي تقولي شو ما بدّك، بس لازم نعمل عدد يكون غير شكل . ثم يجلس علي احد المكاتب كيفما اتفق ويروح يُسجّل ملاحظات وخواطر، كيما يُقنعني بأن أحذو حذوه.
في إطراقته الي الورقة أمامه، تتغير ملامح وجهه، وتغزوها آثار التعب، أشدّ إصفراراً، او اشدّ رمادية علي وجهه ذي الطراز القديم بمعني من المعاني. وجه مستدير، حزين نوعاً ما، صغير العينين واسع الفم كبورتريه في أحد صالونات فرنسا في أواخر القرن الماضي. كان مظهره يمتزج بصوته عميق القرار. وكان غالباً ما يفطن الي إستغراقي في تأمّله فيبتسم نصف إبتسامة، وتكون لجوزيف فحسب، نصف إبتسامة فاتنة هي الشعاع المباشر الذي يصل بين كائن بشري وآخر.
جوزيف، لم أحتفل لهذه السنة بعيد المرأة العالمي. أكره الإحتفالات وليس لغضبك منّي أن ينجو من موتك. لقد عشت معنا حياة غاية في البساطة، ووحدتك لم تكن علي نحو بالغ دوماً، فقد تخللتها الصداقات، والنساء، سوي أنها سارت علي نحو فاجع، ومألوف في نهاية المطاف، بالنسبة للغريبين علي هذا الكوكب. لست أحتاج الي مُحلل نفساني ليخبرني عن السبب. كان يكفيك جوزيف عن السعادة أن يُقال بأنك صحافي ماهر، وان تتسكع في طوابق الجريدة تقف علي أبواب المكاتب لثوان تطمئن علي أصحابها ولا تقول شيئاً، بيد أن عشقك للحقيقة كان يجعلك تتقصّاها حتي أخريات تعبك، تبحث وتسأل وتكتب، حتي غادرت بعيداً جداً في تقصّيك.