أهي أزمة ماليّة أم أزمة نظام؟
قاسم عزّ الدين *
الشرطة البريطانية تعتقل متظاهرين ضدّ السياسات المالية (أ ف ب)الشرطة البريطانية تعتقل متظاهرين ضدّ السياسات المالية (أ ف ب)تقنيّاً، لا يتسنّى إدراك حجم الأزمة العالمية الراهنة وتداعياتها. فكُرة الثلج ما زالت في بداياتها، ولا يقف أصحاب الشأن على حالها ومآلها. بل تحدثوا، عن أزمة رهن عقاري ثم أزمة بورصات، بدايةً. ويتحدثون اليوم عن أزمة مالية عالمية، وهي تشمل الكتلة النقدية في البورصات وبنوك الاستثمار والمصارف التجارية والقروض. لكن الحقيقة أنّ هذه الكتلة النقدية العالمية، هي أساساً كتلة ورقية، لا قيمة لها بحد ذاتها، ما لم يفرض ترميزها، على الصعيد الكوني بالقوة المادية والمعنوية والعسكرية… بعدة تحويلات بطبيعتها اعتباطية، من الثروة الأصل الحقيقية، إلى القيمة النقدية، وذلك «لتسهيل التعامل والتبادل»، كما يقال.حتى الأمس القريب، كان الذهب يرمز إلى قيمة الاقتصاد الفعلي المفترض، وكان لا بدّ أن يغطي الذهب قيمة العملة النقدية. وعلى هذا الأساس، اعتُمد الدولار، قيمة أصل، لأنه ظل مغطى بالذهب حتى «الأزمة النفطية» عام 1973، قبل أن تقوم الإدارة الأميركية بتحريره وخفض قيمته عشرة أضعاف، مقابل الذهب، وهي أكبر عملية قرصنة مالية في التاريخ الحديث، إذ إنها غطّت الدولار بالقوة العسكرية والسياسية، بدل تغطيته بالذهب. وقد قالت إنها تغطّيه بالاقتصاد وهو يشتمل بطبيعة الحال القوة العسكرية والسياسية، فلا يوجد اقتصاد قائم بذاته، بمعزل عن أسبابه المولّدة.
اليوم، يتحدث رجال المال والأعمال، عن سوء إدارة وتصرّف في جموحهم نحو الربح الأقصى، فيقولون إنّ حجم الكتلة النقدية الموظّفة في الأسهم والعقارات، تتجاوز قيمة الأصول بثلاثين ضعفاً، لكنها عملية قرصنة كونية، جرت بتسهيل وتشجيع حكومات الدول الصناعية و«الدينامو» المحرّك في الولايات المتحدة، لمصلحة فئة من الناس، على حساب بقية الخلق. فالحكومات لم تكتفِ بتحرير الأسواق و«تشجيع الاستثمار» وتكسير القيود السابقة على حرية رأس مال الكبير، بل رفضت إقرار «ضريبة توبان» وهو الاقتصادي، صاحب جائزة نوبل، الذي أعدّ مشروعاً لإزالة الفقر من العالم، وتمويله بضريبة قيمتها 1% تقتطع من التعامل في البورصة والتحويلات المالية الدولية.
إن الأزمة العالمية الراهنة، كانت مرئية ومنظورة، قبل عقد على الأقل، وبالتحديد منذ سياتل عام 1999، عندما صدّت حركة المناهضة العالمية، مَن يسمّون أنفسهم «أسياد العالم»، وهي ما زالت تلاحقهم في دافوس وفي قمم «السبع الكبار» والقمم الأخرى، وكذلك في المنتديات الاجتماعية الإقليمية والعالمية، وهي ما زالت ترفع شعار «عالم آخر ممكن». وقد أنتجت هذه الحركة المستمرة أهم كبار الاقتصاديين العالميين المنشقين عن المؤسسات الدولية و«السبع الكبار»، منهم جوزيف ستينغليز وجان زيغلر وريكاردو بيترللا وأندرويتي رولي… وغيرهم العشرات، كما أنتجت خبراء ميدانيين انطلقوا في عملية إعادة بناء أكثر عدلاً وإنسانية منهم إريك توسّان الذي بدأ مع فريق كبير بإنشاء «بنك الجنوب» في أميركا الجنوبية، وفاندانا شيفا التي أعادت بناء «اقتصاد صغار المزارعين» في الهند.
وفي واقع الأمر، كانت الأزمة العالمية منظورة ومرئية من النيوليبراليين أنفسهم، منذ السجال الأعرج بين مدرسة شيكاغو والمدرسة الكينزيّة، في أوائل القرن الماضي، حين بشّر فون هايك، وهو الأب الروحي لمارغريت تاتشر، بـ«الأزمات التي تُفضي إلى حلول فضلى على المدى الأبعد»، وقد طبّق ميلتون فريدمان مقولته في تشيلي بمواجهة الليندي، ثم في قصر بينوشيه، وهي الفلسفة النيوليبرالية ذاتها التي لخّصتها رايس بعبارة «الفوضى البنّاءة»، وأدت إلى اعتراض الكونغرس على ضخّ 700 مليار دولار في الجلسة الأولى، «لأسباب عقائدية». لكن ما هي الأسباب الموجبة؟
يمكن التبحّر في وصف الأزمة المالية الراهنة، وسوء إدارتها المدفوعة بالجشع، لكن الأزمة المالية هي واجهة إدارة النُظُم، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية. وهي في الوقت نفسه نتيجة هذه النُظُم. فالكتلة المالية العالمية المأزومة هي نفسها تراكم رأس مال، لم يعد يجد «أسواقاً طبيعية» في الاقتصاد الحقيقي والثروة البشرية والاجتماعية… الأمر الذي أدى إلى أن تسهّل له الطبقة السياسية عمله ومروره، وأن تطلق حريته التامة في البورصات ومصارف الاستثمار والمصارف التجارية والقروض، وفي إزالة كل العوائق، من الحقوق الاجتماعية الطبيعية والمكتسبة، وأيضاً في الغزو العسكري والاحتلال و«مكافحة الإرهاب». فرأس المال الكبير يمشي بحرية، إنما بحماية الجندي والمبشّر.
الأزمة العالمية تضرب واجهة نظام الربح الأقصى، لكنها عملياً تضرب عمق النُظُم الليبرالية التي ولّدت رأس المال المالي. وهي حصيلة أزمة النظام الرأسمالي في إدارة الاقتصاد الحقيقي، وفي حرية رأس المال على حساب الحقوق الاجتماعية، وكذلك حصيلة فشل فتح الأسواق بالحروب والاحتلال. لكن أزمة النظام الرأسمالي لا تعني بالضرورة انهيار الرأسمالية أو العودة «إلى الوراء» باتجاه الكينزية على سبيل المثال، فذلك دونه صراعات كبرى بين قوى بشرية مقابل قوى بشرية أخرى. وانهيار الرأسمالية لا يتوقف على أزماتها، بل يتوقف على القوى المقابلة لها.
* كاتب لبناني