عندما يحمل فوكوياما الأزمة المالية على فصل من فصول تاريخ الديموقراطية وتعثرها
وضاح شرارة
الريغانية لم تعوض نفاد النموذج الليبرالي الديموقراطي والرأسماليات الامبراطورية أقامت على خليطها
تحمل الأزمات الكبيرة، شأن الأزمة المالية التي تعصف بمعظم بلدان العالم، المراقبين، وهم قلما يكونون محايدين، على الرؤى وتوقع الكوارث وانتظار الولادات الجديدة. ويذهب اليوم فرنسيس فوكوياما، أحد هؤلاء المراقبين وصاحب «نهاية (أو ختام) التاريخ» قبل نحو عقد ونصف العقد، الى إعلان «سقوط (ماركة) أميركا وشركاها» («نيوزويك»، 8-14 الشهر الجاري «لوموند» الفرنسية، 10 منه). وتعزو المقالة السقوط المالي والمصرفي الى انحراف الريغانية – وقائمتيها الاقتصادية («إجماع واشنطن») والسياسية الدولية (نشر الديموقراطية الليبرالية) – عن جادتها ومسارها. فأدى تحرير القطاع المالي، وخفض الضرائب، الى الإفراط في توليد المنتجات والمشتقات النقدية وتناسلها، وإلى إضعاف هيئات التأطير والمراقبة والإدارة العامة عموماً. ومن وجه آخر، دامت الريغانية أعواماً فوق «عمرها»، أو أدائها دوراً مجزياً. وهي لاحت نذر قصورها وضرورة طي صفحتها، مع ظهور التخبط في إدارة الحرب في العراق والتقصير الفادح في معالجة إعصار «كاترينا» وآثاره في الولايات القائمة على خليج المكسيك أو قريباً منه. فأودى الشطط الأول بالحواجز والسدود المالية. وأظهر القصور الثاني ضعف الدولة الأميركية وتردي سلطانها وتماسكها. وعلى هذا، فالعقيدة السياسية والاقتصادية و«التنظيمية» الريغانية (والثاتشرية على سبيل التوسع) بقيت طوال خمسة أعوام مصدر إلهام، ومرجع تدبير، حتى بعد أن أصابها العقم والنضوب، وانقلبت أوهاماً صرفت عن تشخيص الوقائع، وأعمت عن الإقرار بها.
انتصار الريغانية أم تآكل الفوردية؟
ويدرج أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي في جامعة جون هوبكينز سياسات رونالد ريغان وأفكاره، في أثناء ولايتيه (1981- 1988)، وبعد الولايتين، في سياق تاريخ طويل ترقى مقدماته الى ثلاثينات القرن الماضي، وخطوات فرانكلين روزفلت الأول على طريق توسيع الإنفاق الحكومي، ودعم الإنتاج، وإنشاء دولة الرعاية، وتقوية أطر المفاوضة بين أصحاب رأس المال والعمال. ويسمي الكاتب الفصول هذه من ولايات الديموقراطيين الرئاسية «سيطرة ليبرالية وديموقراطية على الحياة السياسية الأميركية». و «الثورة الريغانية»، على قوله، كانت انقلاباً على السيطرة هذه، وعلى الإجماع عليها. وأرسى الانقلاب إجماعاً جديداً استمد دواعيه ومسوغاته من ثقل البيروقراطية «الاجتماعية» وإناختها على سوق العمل، ومصادرتها شطراً راجحاً من العوائد والحؤول دون استثمارها في تحسين الإنتاجية والمنافسة.
فاستنت الريغانية سياسة تخفيض الضرائب، وعولت على تعويض التخفيض من طريق تعاظم حافز الاستثمار، وتوسع السوق. ونصبت التعويض المفترض هذا مبدأ أو أصلاً أوجبت اعتقاده. ودعت أسواق المال، من بورصات ومصارف وشركات استثمار وخبرة ووساطة وتصنيف، إلى تمويل احتياجات التوسع المتوقع. وقصرت دور هيئات الرقابة والضبط على أضعف التحكيم في شروط تداول رؤوس الأموال، وعلى تنسيق عمليات الإنقاذ والرسملة حين انفجار أزمات موضعية على شاكلة أزمتي 1994 (المكسيكية) و1997 – 1998 (الأسيوية). وعممت مذهبها هذا على العلاقات الاقتصادية والمالية الدولية من طريق صندوق النقد الدولي والمصرف (البنك) الدولي. فبلغ الدين والتسليف قمماً لا عهد للاقتصادات بها. وتسلق الاقتصاد الأميركي أعلى هذه القمم: فقيمة الدين الأميركي التراكمية، في 2007، هي 346 في المئة من الناتج الإجمالي المحلي، وقيمة ديون القطاع المالي الأميركي وحده 116 في المئة من الناتج هذا في العام نفسه. وارتفعت قيمة سوق المشتقات المالية المضمونة على القروض المتخلفة السداد، وهذه في قلب الأزمة، في 2008، الى 62 تريليون دولار، وكانت بالكاد 100 بليون دولار قبل 8 سنوات.
والأرقام الفلكية هذه قرينة على تصدر قطاع المال وصناعته، والأصدق تجارته، الاقتصاد كله. وشطر من هذه الصدارة هو ثمرة انفلات الأسواق المالية، وتاجها الصناديق على أنواعها، من الضوابط والمنافسة المحمومة على نسب أرباح عالية وسريعة (الـ 15 في المئة الشهيرة). ولكن شطراً آخر، هو الراجح، موّل فعلاً وحقيقة نمو الاقتصاد الحقيقي والمنتج سلعاً في الحواضر الأوروبية – الأميركية واليابانية، وفي البلدان الناشئة الصغيرة والكبيرة، من سنغافورة الى الصين وبينهما تايوان وهونغ كونغ وكوريا الجنوبية والبرازيل وروسيا والهند من غير تضخم وهذا أشبه بمعجزة. فكانت الشركات الإلكترونية والرقمية النامية والمتكاثرة كالفطر، بحسب التشبيه السائر، بؤر إنتاج سلعي ومعرفي لا قيد على تعاظمه واتساعه وعوائده. وتسابقت أسواق المال وشركات الاستثمار على تمويل نمو الاقتصادات الناشئة، التلقائي الداخلي أولاً، والناجم عن التنقيل أو التعهيد (التصنيع في بلدان غير بلد «المنشأ»).
ولما كانت القوى الاقتصادية الناشئة هي البلدان الأكثر سكاناً، وبين أدنى المجتمعات مستوى دخل، اتخذت «الهجمة» على التمويل والتنقيل والتحويل (التجاري والمالي) والمضاربة شكلاً عاصفاً. فذوت قطاعات الإنتاج الصناعي والسلعي في الحواضر «القديمة»، وانتقلت أجزاء كبيرة منها من معاقلها الى الأقاليم الناشئة حيث لا يفسد الأجر الرخيص، والبالغ 1 من 20 من أجر العامل الأوروبي أو الأميركي، التأهيل والكفاءة أو مستوى التعليم، على الدوام. ونتج عن تضافر العاملين المتصلين هذين، غلبة صناعة المال وفروعها «الثالثية» على الاقتصاد وتولي البلدان الناشئة إنتاج السلع وتصديرها الى بلدان الرأسمالية المتقدمة، انقلاب «ثوري» هز أركان الصيغ الاقتصادية والاجتماعية، الأوروبية والأميركية، التي خلفت الركود الكبير في ثلاثينات القرن الماضي. وهذه استقرت سياسات رائدة غداة الحرب الثانية: سياسة «الحدود الجديدة» الأميركية، واقتصاد السوق الاجتماعي الألمانية و «الراينانية» الشمالية، وسياسة التخطيط الفرنسية، والسياسة العمالية البريطانية، إلخ.
فالسيطرة الليبرالية والديموقراطية، على المثال الأميركي الروزفلتي الذي ينوه به فوكوياما، إنما ركنها الأول والضروري ما سماه بعض مؤرخي العلاقات الاقتصادية (السياسية)، الفوردية – نسبة الى هنري فورد، صاحب مصانع فورد للسيارات، وإلى تايلور، مهندس خطوط العمل المجزأ والمشرذم في مصانع الرأسمالي الكبير. والفوردية مزيج من تأهيل مهني وعمل مستقل وأجر مرتفع. وثمرتها هي ما سمي «أريستوقراطية» عمالية، عريضة وثابتة، نهضت مصانع السيارات والسلع المعمرة، في حقبة الاستهلاك الجماهيري (1947 – 1950 الى 1975 – 1978 على وجه التقدير)، علماً عليها. وفي أثناء غلبة الفوردية على العلاقات الاقتصادية والاجتماعية، غلب الاقتصاد الحقيقي على الاقتصاد المالي، وتقاسمت القطاعات الثلاثة (الزراعة والصناعة والخدمات) القوى العاملة والإنتاج الوطني، وتربعت الحواضر الرأسمالية في قمة الاقتصاد العالمي. واعتزِلت البلدان النامية، وهي كانت «متخلفة» عن الركب، ما وسعها دائرة الاقتصاد العالمي. واستقر تقسيم العمل على اختصاصين: اختصاصَ المراكز الرأسمالية بالإنتاج والتصدير ورأس المال والتقنية والاستهلاك الإنتاجي والسلعي، واختصاص شطر العالم الآخر بالمواد الخام وتصديرها لقاء استهلاك إنتاجي ضيق وباهظ، وسلعي مترد وباهظ.
وخلخلت العولمة الرأسمالية الثانية – وبداياتها تعود ربما اولاً الى ظهور البلدان الناشئة ودخولها مع اليابان السوق الرأسمالية العريضة، وإلى خطو السوق الأوروبي المشتركة خطواتها الأولى، ثانياً، والظاهرتان تكونتا في كنف صدارة أميركية راجحة، ثالثاً – خلخلت أركان الفوردية والعقد الاجتماعي والسياسي، الاشتراكي – الديموقراطي الأوروبي والليبرالي الديموقراطي الأميركي، الذي نهض عليها. وكان ذلك جزاء إخراج نحو 600 – 700 مليون آسيوي الى 200 – 250 مليون أميركي لاتيني وروسي وأوروبي شرقي من «فقر» متفاوت، وإنشاء طبقات متوسطة في بلدان جديدة. وما أودى بالفوردية وعقدها الاجتماعي والسياسي أودى بمعيار العدالة والإنصاف في التوزيع والمداخيل، وفرط التجانس والتلاحم النسبيين القائمين في هذه وذاك، وعمّق الهوة بين المداخيل العالية والمداخيل المتدنية، وضرب استقرار مرافق العمل والوظائف، وفك علاقة الاستقرار بالتأهيل، وحمل العامِلين على تجديد مهاراتهم ومؤهلاتهم وألزمهم التكيّف الصارم مع مرافق العمل المستجدة والمتقلبة، وزاد عدد المدخرين والمستثمرين في الأسهم من اميركي واحد من 6 الى أميركي من اثنين. وأرهقت عولمة الإنتاج والاستثمار والأسواق القواعد التعاقدية والقانونية. فبدأ تطبيق أضعف الضوابط على حركة التحويلات المالية المتذبذبة والمتبخرة، مثل ضريبة توبين، عسيراً ومعقداً الى حد دعا صاحب الضريبة الى إنكارها والبراءة منها. وبدا التسليم بضعف الضوابط، وفي احيان كثيرة بانتفائها اصلاً، في أدغال ملتفة ومتداخلة، قضاء لا راد له.
البعثرة الرأسمالية والتوحيد السلطاني
وتصور انهيار الاتحاد السوفياتي ومعسكره في ختام العقد الأول والمباشر من الريغانية (- التاتشرية)، بينما الصين تصرم العقد الأول من رحلتها الرأسمالية (1978 – 1989)، في صورة هدية تاريخية باذخة الى رأسماليات متوثبة، ليبرالية وديموقراطية، تتخفف تباعاً من قيود العقد الاجتماعي الذي رعى تجدد مجتمعاتها وإعمارها غداة الحرب الثانية. ولعل التلويح بنهاية (أو ختام) التاريخ عند هذا المنعطف، على معنى «النهاية» الصحافي (الوقوف والثبات) أو على المعنى المعياري والغائي (جِماع المرجو من حرية ورخاء)، صدى من اصداء تضافر الانهيار والتوثب، وانعقادهما معاً. وحين يلمح فوكوياما اليوم، ولو على سبيل الإيماء الخجول والحيي، الى رابط ما بين انفجار الأزمة المالية وبين انتهاك روسيا البوتينية و «الديموقراطية العمودية»، السيادة الجورجية، فإنما هو يفتعل آصرة بين العثرة الاقتصادية وبين الأزمة السياسية الإقليمية. وذلك على مثال مشكل ومعقد هو مثال تضافر الانهيار السوفياتي الشيوعي والكلياني (ولو في مراحل الأفول الرخوة) والتوثب الرأسمالي والديموقراطي.
والفرق بين المثال الأصلي وبين اتفاق الحادثتين والواقعتين الحاليتين، لا يقاس. فالمثال الأصلي جمع بين وجهتين تاريخيتين مديدتين تمتان بروابط كثيرة ووثيقة الى طور عريض من أطوار تاريخ العالم المعاصر، السياسي والاجتماعي، هو الطور أو العصر الديموقراطي وخلافته «النظام القديم»، على تسمية أواخر القرن الثامن عشر وطوال القرن التالي. وهو جمع بين الوجهتين على غير ضرورة ظرفية. فلم يترتب انهيار الأنظمة الشيوعية على الريغانية، بديهة، بل على استقرار أوروبا غداة الحرب الثانية، على رغم انقسامها، وعلى بروز «عالم» أوروبي – أطلسي، ليبرالي وديموقراطي، متماسك. والاستقرار والقطب المتصل، على ضفتي الأطلسي، حالا دون صرف المنازعات السياسية والاجتماعية داخل بلدان المعسكر الشيوعي الى حروب إقليمية أو أهلية، على مثال بلقاني أو شرق أوسطي. والأرجح انه لولا الاستقرار الأوروبي، وتبلور القطب الأوروبي – الأطلسي، لوسع «القيادة» الشيوعية التقليل من شأن انقسام أوروبا، والتهوين من المقارنة بين النظامين الاقتصاديين والاجتماعيين ونتائجهما. وثبتت معاهدة هلسنكي (1976)، وهي وَلَدت منظمة التعاون والأمن بأوروبا من بعد، المقارنة، وعظمت شأن الانقسام المفتعل. فمهدت الطريق الى نشوء تكتلات المعارضات الديموقراطية والشعبية داخل الأنظمة المتسلطة، وحملتها على التأورب القاري والاتحادي، ونأت بها على مقادير متفاوتة من الثارات الأهلية والإقليمية.
ولا شك في ان التفوق العسكري والتقني الأطلسي، والأميركي في المرتبة الأولى، وسطوعه في ثمانينات عهد ريغان، واتكاءه على قاعدة اقتصادية تقنية متينة وعريضة، عجّل في تسليم الإصلاحي ميخائيل غورباتشوف بتقدم القطب الأطلسي، وبعبث منازعته الصدارة، أو قمع النزعات الديموقراطية في البلدان السوفياتية النظام من طريق استئناف «جليد» بوليسي وسياسي داخلي جديد، ومسابقة عسكرية خارجية خاسرة. ولكن السياسات «السوفياتية»، الداخلية والخارجية – داخل الكتلة السوفياتية الشيوعية على معناها الضيق وخارج الكتلة، في دوائر الحلفاء المعلنين والمستترين في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى ومعظم افريقيا وشطر من اميركا اللاتينية والوسطى هي من هذه الدوائر – هذه السياسات لم يقوضها انهيار الاتحاد السوفياتي وكتلته الأوروبية. فمعظم دوائرها، أو بلدانها ومجتمعاتها التي لا تتنطح لقيادة دولية وأممية، ولا يحدو قياداتها ونخبها حداء إيديولوجي كوني يتخطى بلدانها وأقوامها وجماعاتها الى العالم الأوسع، أقامت على تماسكها، وعلى بنيتها، على هذا القدر أو ذاك. ويصدق هذا على الدولة الروسية نفسها حال تجردها، أو تجريدها من مرتبة القيادة، ومن الصدارة الدولية.
فلما عادت روسيا قوة متوسطة، على رغم آلاف الرؤوس النووية والصواريخ العابرة القارات والصناعة العسكرية المتقدمة، وخلعت قناع الأمة الرائدة ودورها المفترض والمرهق، تماسكت، سلطاناً ومجتمعاً، بواسطة أبنيتها السياسية والاجتماعية والإنتاجية والإقليمية والدينية، التقليدية والمتسلطة. ولم يقوض الانهيار السياسي والإيديولوجي القيادي الأبنية العميقة التي أعملتها الشيوعية، وصاغت منها دوراً جديداً قبل أقل من قرن بقليل. وما أصاب روسيا السوفياتية، وهي رأس الهرم وتاج «الامبراطورية» الكليانية، لم يصب الدوائر والأحزمة «السوفياتية» الكثيرة، المنتشرة في «القارات الثلاث»، على قول كوبي وغيفاري سابق. ووسع عدداً من بلدان الدوائر والأحزمة هذه استقبال السوق الرأسمالية، وعمادتها في بعض الأنظمة الصلبة «سوقاً اشتراكية»، وتحرير مرافق استثمارية، وإنشاء سوق عمل برية أو متوحشة ورخيصة، ودعوة رؤوس الأموال والتقانة الغربية الى التوظيف ونقل الخبرات، وفتح البورصات، وحماية الملكية الفردية – من غير التخلي عن جزء قليل من السلطان ومرتبته العالية المنفصلة والقدسية.
فابتكرت الأنظمة والنخب والمجتمعات نفسها، وهي تشرع أبوابها بوجه رأسمالية غازية وفاتحة، مضادات تنظيمية وبنيوية لليبرالية والديموقراطية، ولنازع الرأسمالية الى تمهيد المجتمعات. وجمعت مقاليد السلطان الاقتصادي بيد اصحاب السلطان السياسي، وقمته المستقلة والمقيمة على استقلالها. وعالجت أخطار التفتت والتصدع التي تهددتها وتتهددها جراء دخول المصالح الاقتصادية المتنافسة الى صلب العلاقات الاجتماعية، عالجت الأنظمة ونخبها الأخطار هذه بتثبيت سلطانها السياسي، وتجديده وتسليطه على مرافق الحكم والمجتمع، وعلى موارد الثروة. وهذا ما لم تتردد القيادة الشيوعية الصينية في إعلانه على الملأ، في حزيران (يونيو) 1989، بساحة بكين الكبيرة، تيان آن مين. ولا تنفك آلاف الإعدامات السريعة، وإقصاء كبار السياسيين الإداريين المحليين النافذين فجأة، وترفيع الحزبيين ذوي القبضة الحديد، وتمتع اللجنة العسكرية الحزبية بهامش استقلال عريض، والاعتقالات، وحجب المواقع الإلكترونية وقصفها، و «سياسة القوميات» في بلاد الأيغور (كسينغيانغ) والتيبت وتايوان – لا تنفك تجدد الإعلان هذا.
وعلى نحو آخر، يعود الى ملابسات استيلاء فلاديمير بوتين على السلطة خلفاً ليلتسين وإلى أحوال روسيا غداة انهيار الحزب الشيوعي والامبراطورية معاً، أرسى «القيصر فلاديمير»، وأعوانه من موظفي الأجهزة الأمنية، السلطان السياسي الجامع على أجهزة «السيادة»: الاستخبارات، والقوات المسلحة، وقوى الأمن الداخلي، وجهاز السياسة الخارجية الديبلوماسي، والقضاء الملحق بالسلطة السياسية. وعاد بوتين وفريقه الى لم الشتات الاقتصادي، وقاعدته المواد الأولية والخامات وموارد الطاقة، في احتكارات اقتصادية وإدارية مختلطة. ولعل من القرائن الأخيرة على نمط البنيان الاقتصادي المختلط هذا، استرسال المؤشرين الماليين الروسيين في الهبوط والخسارة (في 13 تشرين الأول)، بينما المؤشرات العالمية الأخرى ترتفع. وأرسى الفريق سلطانه الجامع، الى أجهزة السيادة والاحتكارات المختلطة، على «سياسة قوميات» داخلية عنيفة، و «سياسة قوميات» في الجوار القريب قوامها الإنكار والتضييق والابتزاز والاستدراج، واستعمال عصابات الجريمة والتهريب «القومية»، على ما حصل في بلاد الشيشان، ويحصل في جورجيا وأوكرانيا وجمهوريات البلطيق.
و «النموذجان»، الصيني والروسي، على اختلافهما، قرينة على التوليد والتهجين الاستبدايين للرأسمالية وسوقها، وللموارد السياسية والاجتماعية والثقافية التي تنطوي على احتمالاتها (وليس عليها). وتعرضهما للعلاقات الدولية، ولدائرتها العلنية، يدعوهما الى «تهذيب» سياساتهما الداخلية والخارجية. وعلى رغم التعرض هذا، فهما قلما يضطلعان بأعباء دوريهما الدوليين، على ما اختبر العالم الدورين في الشيشان وجورجيا والقوقاز وآسيا الوسطى وبورما والسودان وعموم افريقيا، وفي إيران والشرق الأوسط. وعلى هذا، فالبلدان الثانوية، أي تلك التي لا تتمتع بـ «واجهة» دولية عريضة، أشد ميلاً الى انتهاج سياسة متسلطة من البلدين الكبيرين، وإلى الانكفاء على مبانيها التقليدية وعلى مقاومة المباني هذه الاحتلال الأجنبي، والسياسات الامبراطورية (على المثال الأميركي بالعراق في السنوات الأربع الأولى)، ومقاومة السياسات الإصلاحية والمدنية الآيلة الى بناء دولة وطنية، معاً وفي آن. ولا يعزى هذا، على خلاف ما يذهب إليه الكاتب الأميركي، الى «ضعف» الولايات المتحدة وتهورها على مسارات أخرى. فالسياسات المتسلطة تضرب بجذورها في تربة أعرق بكثير من الحوادث السطحية والراهنة. وعداء «الغرب» يضطلع بدور بارز وراجح في تماسك هذا الصنف من الأنظمة الهجينة. ويدعو «تأريخ» فوكوياما للطعن على السياسة الأميركية، وإنزاله غوانتانامو وأبو غريب محل الصدارة من المثالب والمطاعن، الى الابتسام. وهو ينتبه الى دور الاكتتابات الصينية والروسية في سندات الخزينة الأميركية، وقبول البلدين تمويل العجز التجاري الأميركي، لقاء المحافظة على عملة تصدير وطنية ضعيفة، ولكنه يغضي عن الانسحاب من تحمل تبعات القوة والمكانة الدوليتين، وعن التوظيف في بناء أنظمة مغلقة في الداخل.
الحياة