هل انتهى مدّ الليبرالية الجديدة لمصلحة سياسات واقعية؟
محمد سيد رصاص
كانت جامعة شيكاغو في الستينات من القرن الماضي مكاناً لتأسيس «الليبرالية الجديدة»، من خلال أستاذين فيها، هما: ليو شتراوس (أستاذ فلسفة السياسة)، وميلتون فريدمان (أستاذ مادة النظرية الاقتصادية).
قدم شتراوس منظوراً فلسفياً جديداً لليبرالية، حيث أعطى رؤية فكت ارتباط مؤسس الليبرالية جون ستيوارت ميل (ت 1873) مع أفكار عصر الأنوار الفرنسي ومع أوغست كونت مؤسس الفلسفة الوضعية، ليربط الليبرالية مع إدموند بيرك الفيلسوف الإنكليزي المحافظ الذي قدم كتاباً نقدياً فلسفياً لأفكار الثورة الفرنسية (1789) بعد عام من قيامها، وليقوم بربطها مع فلسفة للسياسة تعود إلى أفلاطون متخطياً «نفعية» و «أداتية» النظرية السياسية الحديثة، التي سادت اليمين واليسار خلال القرون الأربعة الماضية، من خلال نيكولا ماكيافيللي وتوماس هوبز، داعياً إلى سياسات تعتمد «الهجوم الأخلاقي»، المسلح بالروحانيات والقيم الديموقراطية.
من جهته، أعطى فريدمان منظوراً مناقضاً لكل مسار السياسات الاقتصادية الكينزية التي سادت لعقود أربعة بعد أزمة 1929 على ضفتي الأطلسي، معارضاً أي تدخلية تنظيمية – تخطيطية للدولة، وداعياً إلى إلغاء نظام الاحتياط الفيديرالي (تأسس عام 1913 وزادت سلطته منذ عهد روزفلت في الثلاثينات من القرن الماضي)، ومعتبراً أن تصرفات الأفراد في السوق كافية وحدها لإدارته وتنظيمه وتصحيح مساره، حيث كان يرى، بخلاف مينارد كينز (1883-1946)، أن الانكماش الاقتصادي لا يكافح عبر الدولة والتخطيط والضرائب العالية، وأن التضخم لا يقضى عليه من خلال سياسات الانكماش النقدي، بل عبر صبِ النقد في السوق «ولو عبر هليكوبتر»، معتبراً إياهما ظاهرة نقدية محضة، مقترحاً حلاً لهما من خلال ترك السوق حراً إلى مداه من خلال حركته الذاتية، مع خفض الضرائب الى الحدود القصوى.
أتيح المجال أولاً لميلتون فريدمان لتجريب سياساته الاقتصادية في عهد ريغان، بعد أن أصبح من المستشارين الاقتصاديين في البيت الأبيض عام1981، وأدى رفع نسبة الفائدة في البنوك الأميركية على الودائع، خلال ست سنوات من عهد ريغان، الى دخول 656 بليون دولار إلى خزائن البنوك الأميركية أتت من الخارج، ما قاد إلى إنهاء حال الانكماش الاقتصادي والتضخم، التي كان الكينزيون يرون أن سببهما كان ارتفاع أسعار النفط بعد عام1973، وترافق ذلك عند ريغان مع إلغاء الكثير من إجراءات الضمان الاجتماعي والصحي والكثير من النفقات الحكومية في المجالات الاجتماعية، مع اتجاه راديكالي إلى خفض الضرائب على الأفراد.
كان الاقتصاد حاسماً في حسم الحرب الباردة لمصلحة واشنطن ضد موسكو، وهو ما تم في عهد ريغان. وأدى انتصار أميركا العالمي وتحولها الى القطب الواحد للعالم لاحقاً ليس فقط إلى تكريس نظريات فريدمان في الاقتصاد وإنما أيضاً إلى صعود نموذج «المحافظين الجدد» الذين تبنوا فلسفة شتراوس السياسية، مركزين، منذ وثيقتهم التأسيسية في حزيران (يونيو) 1997، التي وقّع عليها أناس مثل تشيني ورامسفيلد ووولفوفيتز ودوغلاس فيث، على تحويل الديموقراطية إلى أيديولوجية تبشيرية بالترافق مع إعادة صوغ العالم أميركياً في القرن الجديد.
في عهد بوش الابن كانت هناك خلطة جامعة بين ليو شتراوس وميلتون فريدمان، فتحول الاقتصاد المالي، من خلال نظام البنوك الاستثمارية، إلى عالم رئيسي ضمن أوقيانوس البنية الاقتصادية الأميركية خلال العقد الأول من القرن الجديد، نافس البنوك التقليدية من حيث حجم أصوله. وقد حصلت فورات شبيهة بانتعاش عهد ريغان، رجّحت الكفة لمصلحة نظريات فريدمان حول دور النقد في السوق (والاقتصاد عموماً)، خصوصاً مع الفورة العقارية الأميركية التي بلغت قيمتها الدفترية 62 تريليون دولار (الناتج المحلي الإجمالي الأميركي، 14 تريليوناً)، وكان يظن أن الخسارة الأولى للقطاع العقاري الأميركي، المسجلة للمرة الأولى في أيلول (سبتمبر) 2006 خلال مسار عشر سنوات، هي طارئة وموقتة، من دون أن يحسب أن مالاً يسجل في أسهم البورصات اعتماداً على تلك القيمة الدفترية (من خلال أسهم البنوك الاستثمارية الضامنة والراهنة لبيوت ملايين الأميركيين مباشرة أو في شكل غير مباشر عبر نظام تبديل الديون العاجزة the credit default swap\»cds» لمصلحة البنك الاستثماري من جانب الفرد أو الشركة العقارية بعد شراء البيت أو العقار من البنك مقابل فائدة قدرها 6 في المئة لمدة تتراوح بين ثلاث سنوات وخمس يدفعها للبنك أحد الأخيرين الذي يرهن العقار لمصلحة البنك ريثما يتم التسديد خلال المدة المتفق عليها)، لا يعبر عن اقتصاد حقيقي ما دامت القيمة الفعلية لتلك العقارات – في آب (أغسطس) 2008 – لا تتجاوز ثمانية تريليونات دولار، هلك نصف قيمتها في أيلول الماضي، وأن تلك الفورة ستقف عند حد معين سيحولها لمجرد فقاعة عبر ممر اسمه الأزمة، وهو ما بدأت علله بالظهور في آذار (مارس) الماضي مع أزمة بنك (بير سترنز)، ثم بنك (إندي ماك) في تموز (يوليو)، وصولاً إلى انهيار أسهم البنوك الاستثمارية الكبرى، مثل (ميريل لنش) و (ليمان براذرز)في الأسبوع الثاني من أيلول، ما كان إعلاناً عن الدخول في أزمة اعتبرها ألان غرينسبان، حاكم البنك الفيديرالي الأميركي السابق، «الأخطر منذ أزمة1929».
بالتوازي، كانت السياسة في عهد بوش الابن تطبيقاً لتلك الوثيقة الصادرة عام 1997 والهادفة إلى «بناء القرن الجديد بما يتفق والمبادئ والمصالح الأميركية»، حيث تصرفت واشنطن، وتحديداً بعد 11 أيلول، وكأن لا أحد في العالم سواها، متجاهلة مصالح واعتبارات الكثير من الدول العالمية الكبرى، والدول الإقليمية الكبرى في أكثر من مكان في العالم، إضافة الى المصالح المحلية لكثير من البلدان الصغيرة وسكانها.
بدأت مصاعب القطب الواحد وتعثراته بالظهور أولاً في الشرق الأوسط منذ عام 2006، بعد ثمانية عشر عاماً من النجاحات الأميركية المتواصلة في «إعادة صوغ العالم» أميركياً، وكان ذلك بالذات عقب نتائج حرب تموز 2006، وهو ما انعكس لاحقاً في تراجعات أميركية في المنطقة كانت ممراتها عبر محطات (14 حزيران 2007 في غزة)، ثم في اتفاق الدوحة، ما أدى إلى تعثر الأجندات الأميركية المتعلقة بالملف النووي الإيراني خلال النصف الثاني من عام 2008، ولا يمكن عزل استعراض العضلات الروسي في حرب موسكو مع جورجيا في آب الماضي عن التعثرات والمصاعب الأميركية.
* كاتب سوري
الحياة